ما أروع أن تقول بغير كلام – الأديب الدكتور نجيب الكيلاني

ما أروع أن تقول بغير كلام – الأديب الدكتور نجيب الكيلاني

ما أروع أن تقول بغير كلام

[ نشرت هذه الكلمة أعقاب رحيل الصديق الأديب الدكتور نجيب الكيلاني

 مارس 1995 – بمجلة “أخبار الأدب” ]

 

أضع صورته أمامي  . خمس سنوات مضت لم يجمعنا لقاء . كانت مناسبات حضوره في القلب كثيرة؛ مع كل ذكرى عزيزة كان يحضر، أسمع نبرات صوته الهادئ الحكيم حين تعصف من حولي شعارات هي طوفان من الجنون، تظن نفسها طوفان نوح! ما كل هذا السلام في العينين؟ ومن أين جاءت هذه الوداعة في القسمات المصرية الصلبة، لشخص حكم عليه بعشر سنوات في السجن لضلوعه في أعمال خارجة على الشرعية ضمن “الجهاز السري” لجماعة دينية ؟

أقلب الصورة، أقرأ التوقيع : “نجيب الكيلاني” واضح تمامًا، وضوح أخلاقه وفكره، التاريخ تحت التوقيع: 14/ 9/ 1962

 

أذكر مناسبة إهداء هذه الصورة، كان قد بقي لي في مصر يومان فقط، أغادر ليل القاهرة، وصداقات الجامعة، وأحلام المستقبل، لأعمل مدرسًا في الكويت، التي لم أكن أعرف عنها غير اسمها، وأنها بلد فيه بترول، وأن العاملين بها يحضرون معهم قماش بدل “شاركستينونظارات “بيرسول، ولا بد أن يكون أستيك الساعة  فيكس فيلكس” !! كان قرار السفر – بالنسبة لي ، عكس المألوف – حزينًا محبطًا، أقسى شيء يعانيه إنسان الشعور بالظلم في الوطن، وأن تكون أخلصت الحب للصديق، أكثر من استطاعته أن يخلص لك!! غير أن هذه قضية أخرى ، لها ارتباط بالتفوق ، وما يترتب عليه ، أو ينبغي أن يترتب عليه .

 

أتأمل الإهداء خلف الصورة ،في بساطته يذكرني بالعبارات المحفوظة التي كان يكتبها “أولاد” الإعدادي زمان : اكتب إليك بالقلم الرصاص، علامة المحبة والإخلاص!! يكتب نجيب : ” إلى الأخ العزيز الأستاذ محمد حسن عبد الله، أهدي صورتي تعبيرًا عما يكنه قلبي من حب ووفاء، وإلى اللقاء” . رائحة الفراق تفوح بحدة منإلى اللقاءفقد كنت على سفر، لكنها الآن، بعد هذه الأعوام الطوال تكتسب معنى آخر، فقد سافر نجيب هذه المرة، سبقني، وهاأنذا أبادله الحب والوفاء، وأهتفإلى اللقاء!!

 

تتداعى الذكريات فلا يطول البحث عن ملابسات اللقاء الأول. كان ذلك مساء الأربعاء 8 أكتوبر 1958، وقد ازدان نادي القصة (68 شارع القصر العيني) وفتحت أبوابه على مصاريعها في انتظار قدوم العميد الدكتور طه حسين. كان كمال الدين حسين، وزير المعارف، قد تأخر في حلف اليمين الدستورية أمام جمال عبد الناصر وزيرا “مركزيا لمصر وسورياوكان محمود تيمور، ومحمد فريد أبو حديد في الصالون تأهبًا لاستقبال القادمين، ويوسف السباعي مثلأم العروس” فهو أمين عام النادي، أما عبد الحليم عبد الله أبي الروحي فقد كان فخورا بي حقًّا، إذ كنت الفائز الأول ذلك العام، أما نجيب الكيلاني فكانت له جائزة أيضًا.

 

كانت الصحف قد تحدثت عنه، وعن ملابسات سجنه، فأخرج تلك الليلة، ليتسلم جائزته ويعود إلى السجن. رأيته، ومن صوره المنشورة عرفته، تقدمت نحوه، عانقته، قلت بغير همسسجنوك ظلمًا أولاد الكلب!! ابتسم بدهشة، نظر إلى الأرض، قالخد بالك.. الجماعة بوليس!! كان يقف بين رجلين فارعين ، لم أنتبه إلى حقيقتهما قبل كلمته، التي لم يقلها همسا، عزّ علىّ أن أعدل موقفي أو أعتذر . بثبات قلتأنا عارف!!

بعد ساعتين أخذت ميدالية طه حسين الذهبية، وستين جنيه نقدا، وانصرفت، وعاد نجيب إلى السجن . (الميدالية سرقت مع ميداليات ذهبية أخرى من مكتبتي في عطلة العيد، ولا تزال مباحث المعادي توالي التحري) .

 

استمرت الصحف تشير إلى الأديب الذي يعلم أبناءنا الحرية، وهو محروم منها، فقد كانت رواية  “الطريق الطويل” قد فازت بمسابقة القراءة ذات الموضوع الواحد فقررت على الصف الثاني الثانوي، والرواية عن النضال ضد الاحتلال البريطاني . تمكن كمال الدين حسين من الحصول على عفو “صحي“. وخرج نجيب من السجن، وعاد ليكمل دراسته في كلية طب القصر العيني، بعد أربعين شهرًا في طرة، والقلعة، وغيرهما.

 

وهكذا التقينا من جديد، هو طالب في الطب، وأنا طالب في دار العلوم، وتحت لواء العشق القصصي نلتقينقرأ ونراجع ما نكتب، ونتبادل الخبرة، وكنت أحترم فيه تاريخه القديم في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، ولم أناقش معه أبدًا أهمية أو عدم أهمية، أو خطورة هذه التنظيمات، أو ظروف انتمائه إليها ، كما أنه لم يحدثني مطلقاً عن ذكرياته مع هذه الجماعة إلا من منظور ساخر ، يكشف عن الطرائف ، وأحيانا المظالم ، دون أن يناقش معي – ولو مرة واحدة – جوهر المبدأ ، فلعله شعر بأن هذا باب مغلق بالنسبة إليّ . أما إذا ساقتنا ذكريات السجن فإنه كان يتحدث عنها حديث الفنان الساخر، وليس الممرور الحاقد، يصف طوابير الصباح، والإكراه على الترديد وراء أم كلثوم : “أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية”  ، وعصا الحراستداعب” من لا يرفع صوته بالغناء، حتى لوكان الهضيبي نفسه! وكم ضحكنا من القلب وهو يصف طابور الذهاب إلى الحمام “جماعة” وما يترتب على هذا من كشف العورات، ومشاعر الحرج وأثقال الشعور بالإثم، وأعيش معه عبر وصفه المرح السعيد، وقد لعب معه “كيوبيد” لعبة خطرة وهو في سجن القلعة!! كان قبل السجن قد عقد قرانه على إحدى قريباته، بعد إلحاح من والدته. لكن قلبه اختار اتجاهًا آخر، فكان لا بد من فصم العلاقة، قبل إقامة علاقة جديدة، أما “الكوميديا” فكانت في مرحلة الانتقال. إنه يلح على “صاحبة العقدة” أن تغنم حريتها، فيطلقها لأنه سجين، وهي أحق بمستقبلها!! لكنها -على سبيل الوفاء وكما يجب على بنات “الأصول“- ترفض فكرة الطلاق، حتى لو قضى في السجن عمره كله!! وتحت هذا الوفاء الصعب تواظب على زيارته في السجن، وتحمل إليه الطعام والفاكهة، أما الأخرى التي اختارها القلب فقد كان بيتها قريبًا من السجن “يا لها من مصادفة روائية”  فالزيارة عليها أيسر، والإشارات على البعد، قبل عصر الاستشعار، كان لغة معترفًا بها!!

 

في زمن وجيز سافر نجيب الكيلاني إلى “المنصورة ” ليصافح هناك جمال عبد الناصر، ويتلقى منه جائزة، فقد أقيمت مسابقة أدبية موضوعها : حملة لويس التاسع وانتصار المنصورة. فاز يعقوب الشاروني بجائزة المسرحية عن مسرحيةأبطال بلدنا ، كما فاز أحمد باكثير بجائزة عن مسرحيتهدار ابن لقمان، أما نجيب الكيلاني فانفرد بجائزة الرواية عناليوم الموعود” !! . أقيم احتفال العيد القومي في المنصورة -لأول مرة- يوم 7 مايو 1961. سافرت مع نجيب وباكثير لأقوم نحوهما بواجب الضيافة في مدينتي ، وفي تجوالنا نحن الثلاثة في شارع البحر (النيل) كنت أشرح لباكثير (الحضرمي) شيئا من معالم المنصورة ، فاكتشفت أنه يعرفها أكثر مني ، واخبرني أنه عمل مدرساً للغة الإنجليزية بضع سنوات بمدارس الرشاد (الأهلية) . وبالنسبة لمشوار المنصورة تحضرني ذكريات : رأيت عبد الناصر في المنصورة أعقاب تنحية محمد نجيب ، وكنت مشاركاً (جنديا متدربا) بمعسكر إقامة الحرس الوطني “كان المعسكر” في حديقة شجر الدر “مكان جامعة المنصورة الآن”  كان هذا أعقاب حوادث مارس 1954. كما ذكرت ، ولم تكن مشاعرنا مع عبد الناصر ، بل كنا ضده تماماً . فكرهنا زيارته لمعسكرنا ، غير أنه جاء ، وأوشكنا أن نتمرد على رفع السلاح تحية له، كان محمد نجيب أبًا طيبًا لشعب أطيب. ولعلي – من بين طابور تحية القائد – الوحيد الذي أصدر حركة زائدة (معيبة) لاحظها ضابط الصف ، فهددني بتقديمي لمحاكمة عسكرية . كان هذا في زيارة عبد الناصر الأولى للمنصورة . وفي العيد القومي لهذه المدينة بعد سبع سنوات خطب عبد الناصر في جماهير جنت به عشقاً وتعلقاً ، تمتد بحجم المدينة ذاتها، دون مبالغة، وقد وجد الناس امرأة مجهولة قيل إنها تولت غسل ثياب الرئيس في الليلة التي قضاها في المنصورة، فأصبحت اشهر امرأة في المدينة ، كما أثلج صدور أهل المنصورة  وتناقلوا أن عبد الناصر قال للمحافظ كيف تبني لنفسك هذا القصر بسبع حمامات؟ هل رأيت البيت الذي أسكن فيه ؟

 

هكذا تلقى نجيب الكيلاني جائزته من يد عبد الناصر، الذي حبسه من قبل، وسيحبسه مرة أخرى من بعد ، ولم أسمع يومًا عبارة ازدراء أو أمنية شريرة. كان نجيب الكيلاني يرى عبد الناصر وطنيًّا عظيمًا، وبطلاً ، فقط (ليته كان معنا!) وبمثل هذه اللغة كان يتحدث عن الإخوان “السابقين” الذين وجدوا لهم طريقًا آخر، فمثلا حدثني عن ياسر عرفات حين كان طالبا إخوانيًّا بهندسة القاهرة، وكيف ينسب -فيما بعد- إلى اتجاه نقيض.

 

بعد سنوات قلائل من لقائنا الأول، ربما عامان أو ثلاثة، لم نتوقف عن لقاءات محبة ، جاءني ومعه مخطوط رواية جديدة، اختار لها عنوان: “الربيع العاصف، وتجري أحداثها في قريته (شرشابه) طلب مني أن أقرأها، وأن أكتب دراسة نقدية تطبع معها!! عجبت للطلب، فقد كنت متخرجًا حديثًا : واسمي أقل بكثير من اسم نجيب الكيلاني، كما أنه كان باستطاعته أن يطلب هذا من أشخاص تحددت مواقعهم واستقرت مكانتهم النقدية، حتى وإن كانوا من الشباب في ذلك الوقت، مثل عبد المحسن بدر، وتوفيق حنا، ومحمود أمين العالم، وعباس خضر، وقد أفضيت له بما يعتمل في صدري.

 

قال:  حتى نجيب محفوظ، لو قصدته في تقديم روايتي سيفعل، ولكن أرى أن يعتمد جيلنا على نفسه، وأن نتقدم معًا !! وهكذا أصر، وكتبت تلك الدراسة التي لا تزال تطبع ملحقة بـ “الربيع العاصف، كلما تكرر نشرها، دون تعديل، وحتى دون إضافة اللقب العلمي الذي وصلني بعد تلك الدراسة بثمانية أعوام!

 

عقب تخرجه في كلية الطب عين طبيبًا لعمال ورش السكة الحديد في “أبو زعبل” حين عرفت، لم أتفاءلالتعليق فرض نفسهيا نجيب ما كفاك طره، والقلعة، حتى تختم بأبو زعبل!! مع هذا حصل على “فيلا” صغيرة جميلة، قضى فيها مع زوجته وولده حسام “الوحيد في ذلك الوقت” سنة هادئة، واستضافني فيها مع زوجتي في أسبوع زفافنا يومين : كانا أطيب أيام العسل، وانتهت علاقته بأبي زعبل، بحشد الإخوان مرة أخرى في المعتقلات، صيف 1965، عقب إلقاء القبض على سيد قطب بسبب كتابه : معالم في الطريق – الذي أراه كتاباً ينطوي على كثير من المصادرات ، والقراءات الخاطئة . وقد أودع سيد قطب – مدة اعتقاله – زمناً في أحد عنابر القصر العيني القديم ، ولم تكن زيارته ممنوعة ، وذهب نجيب وذهبت بصحبته لزيارة سيد قطب (وهي المرة الوحيدة التي رأيت فيها هذا الرجل) وكان يلبس جلبابا من الكستور ، وطاقية من نفس القماش ، ولا يبدو عليه شيء من سيماء أهل الفكر !! فلم أجد رغبة في التحدث إليه ، في حين اكتفى نجيب بالسؤال عن صحته ، ونصحه بتناول الأدوية والراحة .. إلخ . مضى زمن قصير وقبض على نجيب مرة أخرى ، كان في زيارتي ليلة القبض عليه، فقد كنت عائدًا في الغد إلى مقر عملي بالكويت، وكان متوجسًا، لم يكن خائفًا، لم أره خائفا أبدا، ولكنه كان يشعر أن صحته لم تعد تحتمل السجن، وكانت آلام المفاصل “في الركبتين خاصة” تعاوده، وسافرت، وهناك عرفت أنه قبض عليه في اليوم التالي!! لم يطل مقامه في السجن، ولا في مصر، عقب الإفراج عنه سافر إلى دولة الإمارات، استقر في دبي طبيبًا بالصحة المدرسية، واستطاع أن ينتزع لنفسه مكاناً بين أطباء الإمارة في الطب ، كما في الأخلاق . وفي دبي كان آخر لقاء بيننا، حين دعاني نادي الثقافة والعلوم للمشاركة في موسمه الثقافي بإلقاء محاضرة. تعشيت في منزل نجيب، ورأيت أولاده وقد أصبحوا رجالا، وابنته عزة قد أصبحت طبيبة وتزوجت طبيبًا، وأصبح له أحفاد، وبنى داراً كبيرة في طنطا، وتجاوزت مؤلفاته الخمسين كتابا.

 

نجيب الكيلاني أول من اهتم بطرح قضية “الأدب الإسلامي” في كتاب بهذا العنوان، ورؤيته بعيدة تمامًا عن التزمت الذي نعهده في بحوث من يطرحون هذه القضية من الأصل ، إنه لا يطلب في فنون الأدب أن ترتبط بالدعاية، أو الوعظ،أو التبشير ، إنه يقف تحت شعار ” من ليس علينا فهو معنا، لا يطلب أكثر من تجنب الاستهتار بالقيم، وعدم الإغراق في وصف المشاهد التي تغري بالخطيئة. أما عالمه الروائي، الذي بدأ “بالطريق الطويل” وفي الظلام” التي تحولت إلى فيلم بعنوان :  “ليل وقضبان، وقصصه القصيرة  “المصرية” :      “موعدنا غدا” ، “دموع الأمير” وغيرها ، فقد اتسعت دائرة اهتمامها، لتتعقب القضية الإسلامية في مواطن أزماتها عن المسلمين في الاتحاد السوفيتي كتب: ” ليالي تركستان، وعن صراع الإسلام والوثنية في نيجيريا كتب: “عمالقة الشمال، ثم “عذراء جاكرتا، ومنذ فترة مبكرة ألف عن الشاعر الإسلامي العالمي “إقبال، كما أفضى بجانب من حياته الشخصية في “مذكرات طبيب، وإن يكن كتب عن نفسه مباشرة في “ملامح من حياتي” وهو من جزئين.

وذات يوم تلقيت دعوة من إدارة مؤتمر سيعقد بالمدينة المنورة ، لأحضره ضيفاً لمدة أسبوع . كنت سعيداً جداً لأنني سأزور المدينة المنصورة ، وسعيدا كذلك حين عرفت أن نجيب الكيلاني هو الذي رشحني لهذه الزيارة ، ورأيت أن أقدم عملاً مناسباً لموضوع المؤتمر ، فكانت دراستي (قراءة إسلامية في أدب محمد عبد الحليم عبدالله) ويختلف خطها عن منهج (الإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ) الذي سبقها بسنوات . إذ اكتفيت برصد المفردات ، والتراكيب المأثورة من القرآن ، والحديث الشريف ، التي وردت في سياق مؤلفات عبد الحليم عبدالله ، وألحقت بها دراسة سياقية وجمالية تبرز خصوصية هذا التعبير في موقعه ، ومن ثم فقد أتيح لي أن اصلي فروضي في مسجد الرسول أمام الروضة الشريفة أسبوعاً كاملا بصحبة نجيب الكيلاني .  

 

يا أخي وصديقي .. لا أحمل لك إلا الذكريات العطرة ، والتعبيرات الإنسانية ، والمشاعر الرحيبة المتسامحة تجاه خلق الله جميعا ، دون استثناء  ..

يا أخي وصديقي .. هذا دوري .. آن أن أقول لك هذه المرة إلى اللقاء!!

 

اترك تعليقاً