قصص عماد الدين عيسى

قصص عماد الدين عيسى

قصص عماد الدين عيسى

قراءة فيما كتب ، وما لم يكتب

 

أولا : مدخل عن الكاتب وما لم يكتبه

 

ثلاث مجموعات من القصص القصيرة ، وروايتان ، هي كل ما أنتج عماد الدين عيسى منذ بدأ رحلته مع الإبداع (عام 1970) حتى الآن ، وهذه الأعمال هي التي نتوقف عندها ، دون ما كتب من دراسات أدبية أو نقدية ، والقدر الذي أشرنا إليه ، قد تدرج على الترتيب الآتي : 

  • الدقيقة الثلاثون – مجموعة قصصية – 1970
  • الخروج من الكهف – رواية – 1985
  • المارد وشجرة التوت – مجموعة قصصية – 1988
  • بئر في صدر رجل – مجموعة قصصية – 1994
  • فاتنة الرجال – رواية – 1995

 

وهذا القدر – من الناحية الكمية – مقسوما على ثلاثين عاما – لا يدل على غزارة ، ومع هذا فإنه ليس بالقليل إذا كشف عن تميز في جانب مما يستحق به الكاتب أن يأخذ مكانا في سياق الفن الإبداعي الذي توجهت موهبته إليه . وهنا نشير إلى جانبين يرشحان الغزارة المفتقدة ، ولأنهما سيدخلان في نطاق الأسئلة التي تطرح ، أو ينبغي ، ونحن نقرأ هذه الأعمال قراءة نقدية . فالكاتب عماد الدين عيسى ينتمي إلى ريف الدقهلية ، وعاش أهم مراحل تكوينه النفسي والثقافي بمدينة المنصورة ، وهو الآن ، ولعشر سنوات مضت يمارس فيها دورا ثقافيا مؤثرا ، ويتفاعل مع أجيال من مبدعيها . هذا هو الجانب الأول ، ونحن لا نذكره على سبيل التعريف ، أو استكمال المعلومات ، وإنما لنتذكر الدور الثقافي الريادي الذي قامت وتقوم به المنصورة في شرقي الدلتا ووسطها ، ولنتذكر أيضا أن هذه المنطقة ذاتها كانت مهاد تغيرات كبرى وصدامات حادة ، مما ينبئ عن مستويات من الوعي واتجاهات للعمل السياسي ، فقد شهدت ثورة الفلاحين في بهوت ، ولعلها من المرات القلائل التي حدد الكاتب فيها اسم قرية محددة في رواية “الخروج من الكهف” ، فالسيارة العامة تنطلق من قرية غير محددة ، إلى المدينة (غير المحددة كذلك) وليس في الرواية من مكان محدد سوى القاهرة ، وقرية “كفر بهوت” (ص81) ولم تكن هذه القرية التي ثارت واستهدفت لانتقام الإقطاع حالة فريدة ، فهناك قرى مثل “طناح” عرفت التنظيمات الماركسية ، وعرف غيرها “شبرا سندي مثلا” حركة الإخوان المسلمين . والذي أريد أن اخلص إليه من هذه الإشارة الأولى أن ” تسييس” الفن القصصي في هذه البيئة ليس مستغربا ، فهذا التسييس نابع من مستوى الوعي المرتبط بالتعليم ، وبالقدرة على الاتصال ، وبالبُعد التاريخي الذي تمثله المنطقة ذاتها . وسنرى أن المعنى السياسي ماثل في كثير من القصص القصيرة ، مباشرة ورمزاً ، وفي الروايتين أيضا ، وهو في الرواية الأخيرة أشد حدة ومباشرة ، مهما كان سياقها العام ، ومهما طرد عنوانها شعور الجدية ، ولكن السياسة التي تعرضها ، وتدافع عنها غالبية هذه القصص هي تلك المبادئ التي تلقاها الكاتب وهو طفل في المرحلة الابتدائية ، أو صبي في المرحلة الإعدادية في أحسن الأحوال ، إنها تلك السياسة التي تحولت إلى “تاريخ” أو ما يوشك أن يكون تاريخا ، وبالطبع لا مجال لإرشاد قاص من أين يقتنص موضوعات قصصه ، فضلا عن أن “مخزن مقتنيات الطفولة” من أهم مصادر التجربة عند الأديب ، فهو حر حرية مطلقة في اصطياد “البادرة الفنية” من أي موقع يتراءى له أو يعبر بفكره ، ولكن “تشكيل” هذه البادرة الفنية ، بمعنى وضعها في قالب فني له تقاليده الراسخة التي لا تخالف إلاّ لاستحداث أوضاع أو تقاليد جديدة لها مسوغاتها ، هذا التشكيل يعتمد على “إطار مرجعي” أشار إليه النفسانيون المهتمون بقضايا سيكولوجية الإبداع ، كما اهتم به النقد الحداثي في إشاراته المهتمة بالتناص ، من جانب ، والتهوين من دور المؤلف ن بل إعلان موته أيضا ، لإفساح المجال للقول بأن الأديب المبدع لم يتول كتابة هذا العمل ، وإنما انكتب هذا العمل بواسطة الأديب (!!) وبين المقولتين فرق كبير في تقدير الدور الذي تقوم به التقاليد الفنية السائدة في توجيه الإبداع ، وفاعلية هذا الدور . إن هذا الدور المشارك – إن لم يكن المؤسس لفكر المبدع – لا يتوقف على زمن، وإنما ينمو ويتفاعل ، وهو الذي يشق العمل الفني كما تنشق البذرة فتعطي إمكانية “شجرة” في المستقبل ، هي التي يطلق عليها في العمل الفني “الدرامية” ، المناقضة للسكون أو الدبيب الذي يفرض نفسه على القصص ، فنتلقاها كصور في ألبوم ، تحاول أن تقودنا إلى مناسبة قديمة ، وربما منسية ، قد نتذكر ، وقد نجد صعوبة حتى في هذا التذكر ، ولكننا –في كل الحالات– لن نتفاعل مع هذه الصورة ، لأن زمانها قد انقضى !!

 

إن رواية “الخروج من الكهف” التي نشرت عام 1985م ، أي بعد صدور قرارات تحديد الملكية الزراعية بأكثر من ثلاثين عاما ، وبعد رحيل الأجانب عن مصر بعدد من السنين لا يقل عن هذا كثيرا ، تتطرق إلى هذه الجوانب التي جرت وانقضت قبل ميلاد الكاتب نفسه ، وهو لا يذكرها في إطار تاريخي ، لأن الرواية ليست من ذلك النوع الذي يسلط أضواءه على حقبة محددة ، على الرغم من وجود بعض الإشارات التي توجه القراءة في هذا الاتجاه ، مثل حديث الأب إلى ولده الطالب الجامعي (الثوري) عن عابدين والكونتننتال ، وكيف أنه هو (الأب) رفض الانحياز إلى حزب الملك أو أحزابه ، كما رفض أن يجاري حزبا آخر ، واختار حركة الإخوان المسلمين التي أوجدت حلا براقا لكل مشكلاته . إن هذا التصاعد (الفوقي) بالمشكلة أو القضية السياسية لا يكفي لإلباس الرواية ثوب “الحقبة” التي ينبغي أن تتجلى في رصد مظاهر الوجود الاجتماعي اليومي ، وأن تكون هذه الحياة الخاصة المميزة بالنكهة الشعبية هي الأساس ، وتكون الإشارات السياسية بمثابة الأضواء العليا الهادية ، ليست هي المسرح ولكنها مطلوبة لكشفه وتحديده .

أما الجانب الآخر الذي نمهد به للدخول إلى روايتي عماد عيسى وقصصه ، فهو يتصل بخبرته الحياتية المكتسبة بالممارسة ، وخبرته الفنية المتجسدة في هذا القدر من الكتابة التي يفضي بها إلينا . ولقد عرفت الكاتب محررا بإحدى مجلات وزارة الإعلام في الكويت ، وكان يتسم بالنشاط والتجدد ، شديد الحفاوة بعملة والعناية به . إنه يذكر هذا على الغلاف الأخير من مؤلفاته جميعا ، كما يذكر أنه قام بسياحة عريضة في دول أوربية وغير أوربية ، عربية وغير عربية تكاد تشمل قطاعا ضخما من الكرة الأرضية ، ثم .. حين تمضي عن الواقع الحياتي المكتوب بخط يده ، إلى الواقع الفني – المكتوب بخط يده أيضاً ، لا تجد (بكل ما في هذه الصيغة من استغراق النفي) في أي صفحة ما يدل على أن هذه السياحة الرائعة الممتدة قد تركت أثراً ، أي أثر في أي اتجاه ، في هذا العدد الكبير من الصفحات !!

 

لقد قرأت له ، مؤخراً ، في المجلة التي يرأس تحريرها في المنصورة – “مجلة الرأي الأدبي” – مقالة لعلها في إطار سلسلة غير أني لم أصادف غيرها ، عن جانب من مشاهداته في هذه الرحلات الطويلة التي يذكرها ، وهذه المشاهدات تعتمد على طرافة المفارقة – من جانب – كما أنها تتنفس بالكلمات بعد انقضائها بأكثر من عشر سنوات . وكما ذكرنا سابقا فإنه ليس لأحد أن يحدد لمبدع متى يعيد ذكرياته إلى الحياة ، وما هو الأسلوب الأمثل للإفضاء بها ، وهل “المقالة” هي الصيغة المناسبة ، أم كان من الأوفق أن “يتأنّى” حتى تنضج وتتشكل في عدد من القصص القصيرة ، أو تكون موضوعا لرواية ، أو تظهر في شكل التماعات في روايات أخرى ليس موضوعها هذه الرحلات لكنها تغني الرؤية ، وتجدد المشاهد ، وتوسع من أفق الأحداث ، وتحقق قدرا من الجوهرة الذهبية التي تغني بالمخالفة ، وأعني الصراع الدرامي . ليس لأحد أن “يجبر” أديبا على ما يرى أنه من واجبه الإفادة منه ، ولكن (ولابد من لكن) حين تكون هذه الخبرة مكتسبة جاهزة ، ثم لا يلتفت إليها الأديب فإن هذا سيكون مؤشرا سلبيا على إمكاناته . إنه كالوارث الغني الذي لا يدرك غناه لأنه لا يعرف كيف يحصي أمواله ، إنه يذكرنا بحالنا في مصر حين نبيع القطن (الزهر) بالقنطار ن فتشتريه بلاد تغزله وتنسجه وتبيعه لنا بالمتر ، بأضعاف ثمنه . فأين انعكاسات ما انقضى من العمر في الكويت ، وهي تجربة جادة حادة لا تقبل الحياد ، وأين ما أضافت مشاهداته ومعاملاته ومداخلاته في تلك البلاد التي يردد سماءها دون أن يقوم دليل “فني” على عبوره بها ، أم أنه لم يجد فيها ما يستحق أن يدخل في صميم تجربته الأدبية الإنسانية ؟

 

* * *

ثانيا : آفاق المكتوب :

لا نستطيع أن نزعم ، أو نقبل الزعم ، بأن كتابة عماد الدين عيسى القصصية والروائية تعيش زمنا آخر ، فهي في صميم عصرها – برغم التحفظ السابق – بل ربما كانت مشكلتها أنها تطيل النظر تحت قدميها ولا ترمي ببصرها إلى بعيد (والاستثناء يؤكد القاعدة) وفي حالة هذا الاستثناء نجده يعبر عن طابع العصر ، فهناك أكثر من قصة قصيرة تدخل في نطاق استشراف المستقبل ، وهذا الاستشراف المستقبلي هو قراءة للواقع ، وتمحيص الاحتمالات ، واختيار ما يراه الكاتب مرجحا أو ما يوافق حلمه الفني في تصوره للغد . القليل من هذا المستوى الكشفي يدخل إلى عالم القصة من مدخل “الخيال العلمي” . قصة “الدقيقة الثلاثون في الألف الثالثة بعد الميلاد” هي مزيج من الخيال العلمي والفانتازيا التي صنع تهاويلها بقصد الإغراب ، وليس بقصد التوقع بناء على تحليل معطيات الواقع والخبرة بمنطق التطور . سنتقبل “جرائد الصباح التلفازية” وغرابة اكتشاف حالات حب بمثل ما يمكن أن نكتشف مريضا بالجدري بعد أن تم القضاء عليه واستئصاله ، ولكن “رئيس جمهورية الأسبوع الحالي يلغي الكلمات” عبر فانتازي ليست له مرجعية في الخيال العلمي ، بل لعله مضاد لتصورات المستقبل الافتراضية التي ترى أن التقدم التكنولوجي يشدد من قبضة السلطة المركزية ، ويتراجع الهامش المسموح به من الحرية . إن الفرق بين ما هو من الخيال العلمي ،وما هو من الفانتازيا قد اختفى في هذه القصة ، وهي على أية حال تجربة مبكرة ، بل هي القصة الأولى في المجموعة الأولى ، وهنا نذكر أن القصد من هذه الإشارة أن الكاتب لا يطيل التفكير في الأسس الجمالية النظرية لفن القصة ، إنه ، وله الحق ، شديد الثقة في موهبته الفطرية ، وقد أمدته هذه الموهبة بقدر من القصص الموفقة يعطيه كل الحق في أن يتخذ لنفسه مكانا في تيار الإبداع القصصي ، ولعلنا نتذكر – مرة أخرى – أنه عزل تجربة العمل في الكويت ، وتجربة السياحة الطويلة عن موضوعاته القصصية ، وهذا قد يعني أنه لم يتأمل تلك المساحات الزمنية التجريبية تأملا فنيا ، وهي لم تصل عنده إلى عمق الإحساس بها بحيث تتحرك لها موهبته الغريزية بعيدا عن منهجية القصد . إن قصة في مجموعته الأخيرة – بئر في صدر رجل – وهي تحمل عنوان : “الرياح تأتي من الجنوب” تحمل مثل هذا التنازع الفني الذي تبدّى في تداخل مطالب الخيال العلمي مع شطحات الفانتازيا ولا مطالبها – إن صح التعبير ، إن قصة “الرياح تأتي من الجنوب” تردد نغمة مخلصة دأب الكاتب على تناولها بكل الزوايا الممكنة أو أهمها ، إنه يطالب بالعدالة ، يطالب بحق الفقراء في أموال السلطان الذي استأثر بكل شيء . ولكن القضية “فنيا” هي : كيف تقول القصة هذا ؟ إنها نموذج لحسن النية الذي لا يكفي للإبانة عن القصد مع توصيل الرسالة الجمالية التي تتطلب الحرص على أصول ونسب وارتباطات ، وبلغة النقد إن الشكل يعاني القصور والاضطراب فلا يشفع له ما يمكن أن ينطوي المضمون عليه من هدف إنساني ، فقد أبان النقد هذا المبدأ حين رفض ازدواجية البنية ما بين شكل ومضمون ، وحين قرر أن أي قصور في التشكيل هو قصور في المعنى . القضية في القصة – ببساطة غير مخلة – أن الملك الجبار الذي احتجز كل خيرات الوطن لنفسه يفترض أنه الحقيقة الخالدة الوحيدة ، وأن كل ما يحابي به نفسه ينبغي أن يسجد له الناس ويفرحوا به حتى وإن عانوا الشدائد من كل لون . ولكن أي ملك اختار عماد الدين عيسى ؟ لقد اختار ملكا فرعونا ، وفرعون في العرف التاريخي ملك مقدس ، رمز ، عند المصريين في زمانه ، وعند مثقفي المصريين إلى اليوم ، وفرعون نفسه عند العامة رمز ولكن للجبروت والظلم .. ومن هذه الزاوية صوره الكاتب ، وهو حر فيما يختار من صور فرعون ورموزه ، ولكنه لا يكتفي باللقب العام “فرعون” ولا يرتضي أن يكون ملكه الغاشم واحداً من نكرات عصور الضعف ، إنه يختار اسما باهراً ممجداً ، يختار رمسيس !! حيث لا ضرورة لهذا التحديد ، الذي سيضعف موقف “موعظته” في القصة من أكثر من جانب ، فهذا الملك المؤسس للإمبراطورية لم يدخل في تجاذب مع شعبه ، وصورته أنه بطل ، فالقصة على افتراض نجاحها في اختراق مقتنيات ذاكرة القارئ ستتمكن من تدمير صورة بطل قومي ، وعلى الافتراض الآخر ، ستتحطم هي وتبدو غير قابلة للتصديق .

 

إن المدخل “المهيب” للقصة يدخل في صدام مع السياق ، غذ ينقل المشهد من حال إلى ضده :

“تلوح من بعيد مواكب الشمس ، تطل عبر الأفق على منف ، وتتسلل حتى تغزو سماء طيبة ، بينما الأشعة الشفقية تأذن لأتون في الذهاب” . كلام منغم مشحون بالشعر ، ولكنه ملئ بالثغرات ، فحتى لو رأينا – أو رأى الكاتب – أن هذا التقديم “المقدس” يمهد لضده وهو شيوع الجوع والعري وتذمر الشعب – فإن العبارة – في مجملها – خادعة وتنطوي على أخطاء ، فالمسافة بين منف وطيبة لا تسمح بالجمع بينهما . ثم نستمع إلى رمسيس نفسه يتكلم ، فإذا عبارته ومعانيه تهبط إلى مستوى أحد ولاة الأتراك أو البكوات المماليك حين مارسوا هذا الدور على الشعب المصري ، إذ يقول ردوا على وزيره الذي يسجل ملاحظة (ما كان يمكن أن توجه إلى أي فرعون فضلا عن رمسيس بخاصة) وهي أن مخازن الملك تحتكر الطعام والناس جوعى . فيرد الفرعون التركي (أو المملوكي) :

” وماذا في ذلك ؟ وعلام الضجة ؟ أنا آكل من أجلهم ، احفظ صحتي وحياتي لأواصل بعث الحياة إليهم .. ” إلخ .

وكما أشرت فإن من حق الكاتب أن يختار البيئة والزمان الذي يجسد فيه قصته ، ولكن من واجبه أن يبذل جهداً في التعرّف على طبيعة العصر حتى تتكامل الصورة وتكون مقنعة غير مجافية للواقع التاريخي ، برغم أننا نعرف (نوافقه على ) أنه لا يكتب تاريخا . وهكذا سينصح القاضي الحكيم ذلك الرجل الذي يريد أن يقاضي الفرعون أمام المحكمة فيقول له : اسحب القضية ، حتى لا تسجل على نفسك ذنبا لا يغتفر . ولكن كيف كان الناس قديما يصوغون هذا المعنى ؟ في رأي الكاتب أن الصياغة تكون : “أسرع .. اطلب الغفران ينصع قلبك ! يخف وزنه قبل أن يوضع في الميزان” ، وهذا عكس الصالح في التصور الحسابي الأخروي عند المصريين ، فالقلب الخفيف هو الهالك الخاسر ، والقلب الثقيل الذي يغلب “الريشة” رمز (ماعت أي العدالة) هو الذي ينجو .  

 

وكذلك يجافي الكاتب الحقيقة التي لا تؤدي مجافاتها أية وظيفة فنية محتملة ن وهي تدل على العجلة ليس اكثر ، وذلك حين يقول ” بينما رياح الجنوب تهب” وهو يعرف أن الرياح في مصر تهب من الشمال دائما أو غالبا ، وقد تكون شرقية أو غربية أحيانا ولكنها لا تكون جنوبية مطلقا ، وكذلك يقول : ” مذبح الآلهة ” ، والمذبح ينسب للمعبد ، للمبنى ، وليس للمعبود ، كما نقول منبر المسجد وقبلة المسجد ، دون غير هذا من التعبير . وفي هذه القصة يستعين المصري القدين بإحدى نوادر جحا ، ولا بأس في الخلط التاريخي وكسر حواجز الزمن ليدلل على “عراقة الظلم” واستمراره في كل العصور ، ولكن .. لو أنه استبدل بفرعون حاكما من عصر الأتراك أو المماليك أما كان “جحا” يأخذ سياقا أكثر انسجاما ومع هذا يظل المغزى دالا مؤثرا عن قدم الظلم واستمراره ؟!

 

وهنا نتوقف عند مؤشر آخر في اتجاه مبدأ التجويد الفني ، أو على الأقل “مراودة” فكرة القصة ، و “ملاعبة” لغتها ، و”ترويض” تشكيلها حتى يستقر في أحسن صورة ممكنة . هذا المؤشر نجده يتحقق في ثلاث قصص نشرت في المجموعة القصصية الأولى (عام 1970) ثم أعيد نشرها في المجموعة الثانية (عام 1980) فهناك عشرون عاما تقريبا بين الصيغة الأولى ، والصيغة الثانية ، وهذه القصص الثلاث هي :

  • “الطحان” وقد أعيد نشرها تحت عنوان : “مصير عتريس” .
  • “التراب” وقد أعيد نشرها تحت عنوان : “الصعود إلى أسفل” .
  • “قطة سوداء ” وقد أعيد نشرها تحت عنوان : “حكاية في حارتنا” .

 

من حقنا أن نستخلص معنى من إعادة النشر ، ليس على سبيل “المختارات” وإنما لاستكمال حجم مجموعة جديدة ، وكما قلت فإن عماد الدين عيسى ليس غزير الإنتاج ، وليس هذا في ذاته عيبا ، ولكننا بإجراء “مقابلة” بين الصيغتين يمكن أن نراقب (عمليا) مدى تطور نظرته الفنية ، وإفادته من ممارساته . ومبدئيا ليس لنا نغفل تغيير العنوان ، وهل هو بقصد إشعار القارئ بأن ما يقرؤه إنما هو مادة جديدة ، أو أن هذا العنوان المستأنف يبدو أكثر جاذبية أو دقة أو أدلّ على ما يختفي من معنى القصة . ولأننا لا نريد أن نطيل ، وفي نفس الوقت لا يصح أن نرسل القول مبتسرا متعجلا ، فإننا سنجري المقابلة النصية فيما صنعه الكاتب في القصة الأخيرة ، التي نشرت ضمن مجموعة “الدقيقة الثلاثون” بعنوان : “قطة سوداء” ثم أعيد نشرها ضمن مجموعة “المارد وشجرة التوت” بعنوان : “حكاية في حارتنا” ، والحقيقة أنه لا العنوان الأول ، ولا الأخير يرمزان أو يحتويان دلالة هذه القصة ، ويتأكد هذا حين نعرف أنها عن شاب ، أو مراهق ، غادرته أمه لزيارة أهلها في القرية وتركته وحيدا ، وظاهر السفر الزيارة ، وحقيقته أنها غاضبة على هذا الابن الذي انتهرها بما يتجاوز حق الرفق بالأم ، مجاملة لأم صديقه التي تسكن تحتهم ن وكانت هذه أم الصديق قد صعدت تشكو من شدة دق “الهاون” بما يقلق أمانها . لقد سافرت أم الفتى ، وسقط هو بنزلة برد حادة ، تتحول إلى الميلاريا ونعرف الآن أنه يهذي أو يقارب الهذيان ، ويتذكر هذا الصديق الذي راعى حقه بمجملة أمه ، ولكنه لم يقم بزيارته في مرضه ، وكذلك أصدقاء آخرون لم نعرف سر ابتعادهم عنه في محنته ، إلاّ أن يكون هذا مجاملة للآخر … إلخ . إنها لحظة أو حادثة إنسانية نفسية تستحق أن تكتب ، وفي أخرها تظهر قطة سوداء تنبش باب البيت بحثا عن أهله ، ففيها رمز جزئي ، ولكنه لا يحتوي المضمون في جملته أو أهم معطياته ، واختيار العنوان البديل “حكاية في حارتنا” هو ضرب من التعميم الذي يصلح لكل قصة .

سنتعقب أسطر القصة في صيغتيها ، وسنضع الصياغة القديمة أولا ، ثم نسجل الصيغة المعدلة ، لنراقب أين تتجه موهبة المعاودة أو المراجعة ومدى التمرس بلغة القص وأدواته :

– يدق عليه الباب أحد الأصدقاء          أصدقائه .

– (الصباح) يتسلل من النافذتين شبه المغلقتين          النافذة شبه المغلقة .

– خواطره القاتمة          خواطره الثائرة .

– بعد أن بدأها بالسؤال عنها والأشواق          بالسؤال والأشواق .

– وتجهم          فتجهم .

– الساعات التي أمضيناها من العمر سويا على الكورنيش          (حذفت : على الكورنيش) وكذلك حذفت تفصيلات أخرى .

– من على الأرض         من فوق الأرض .

– “القبقاب”          “الحذاء” .

– قد كان سبب مشاجرته الكلامية         كان سبب مشاجرة كلامية .

– ثم يفزع         ويفزع .

– رأت أن لابد من الاستمرار         رأت الاستمرار .

– “الهون”          ” الهاون ” .

– وهكذا         هكذا .

– لقد كان يحامل عادلا الذي لم يفكر في زيارته        [ حذفت الجملتان ]

– لكن أيضا        (حذفت : أيضا)

– وهو لم يحاول         إنه لم يحاول .

– لكن أليس الجدير باللوم صديقه علاء إنه        حذفت : “لكن” ، و “صديقه” ، و “إنه”

– والثانوية التي قطعاها سويا          ( حذفت “التي” )

– فلعله يهزأ بنفسه         أيهزأ بنفسه .

– كومة مهلهلة         كومة راقدة .

– فبالطبع          بالطبع .

– لكن حركته جاءت بطيئة         حركته البطيئة جاءت .

– إنه يشعر        يشعر .

– فلم يأكل         لم يأكل .

– حتى يغلفها ، فالقيء كاد يغالبه لذا         ليغلفها فالقيء يغالبه و .

– عاد صلاح بها        عاد بها صلاح .

– تقذف الأمعاء بمحتواها         تقذف الأمعاء محتواها .

– وغادر هذا         وغادره .

– ” والنوكزين ”         و ” الفيجا سكين” .

– أضيف الوصف : “والتقت عيناه بإطار داخله وجوه أصدقاء ثلاثة ، بينها وجهه” .

–  حذفت العبارة التشبيهية : “كمن يبعد عن عينه شيئا لا يسره” .

– لتلتقي عيناه          لتلتقي نظراته .

– والذي احتله إطار         الذي تحيله الآن .

– عشر سنوات         سنوات عشر .

– الابن الوحيد الصبي (حذفت الصبي) .

– من الإطار         منه .

– لكم اختلف بينهما الشكل         لكم اختلف الشكل بينهما .

– أما حقيقتها الآن فجوع         وحقيقتها الآن جوع .

– قطعا سيأكل بغير شهية لمرضه         قطعا لمرضه سيأكل بغير شهية .

– الذي يدفع بالإنسان         الدافع للإنسان .

– لعل حلها (حذف : لعل) .

– تزخر         تزدحم .

– قالت له ابنة الجيران : ابنة الجيران أخبرته .

– وحينذاك ( حذفت الواو ) .

– ومضت ( حذفت الواو ) .

– قطعا لن يستعين بصرح في ذلك         في ذلك قطعا لن يستعين بصلاح .

– لهذا القرار        للقرار .

– ومضت الدقائق وهو يفكر        ومضت الدقائق يفكر .

– لقد نفى عن ذهنه         نفى عن ذهنه .

– عادلا أيضا وكذا علاء         عادلا وعلاء .

– يعلم (حذفت) .

– سيعتذر الجميع قائلين أنهم         سيعتذر الجميع بأنهم .

– فيبتسم          ويبتسم .

– سيدرك أنه درس          سيدرك الدرس .

– ثم يطلب ما يريد ( حذفت ثم ) .

– ويتسرب         فيتسرب .

– وقرر        قرر .

– فهو        هو .

– وإن لم يدر ما بك فما يتكلف  ( حذفت : ما بك ) .

– أخواته          إخوته .

– تشنجه          غيبوبته .

– إذا ما          لو .

– أضيفت عبارة : ” في هذه اللحظة ” .

– أين هؤلاء الأطفال         أين الأطفال الذين ..

– يرغمه على الإنصات         يخرجه عن كتب الدراسة .

– حيث تخرج           تتردد .

– منظومة           منظوما .

– وارتسمت في صفحة            فوق صفحة .

– أضيفت ” ينغمون” .

– أضيفت “الخشبي” .

– فيجعلون          يجعلون .

– التي يعطيها عن طيب خاطر         التي يعطيها إياها عن طيب خاطر .

– أضيفت “يعلم” .

– نفسه العزيزة تأبى          نفسه تأبى .

– وهمّ         وحين هم .

– أن يناديها بالفعل ولكن ( حذفت : بالفعل – ولكن ) .

– تصرفاتها          تصرفها .

– تلهفه إلى الطعام           تلهفه على الطعام .

– ربما وقد          وربما قد .

– مبعدا …. عن قدميه          وأبعد … من قدميه .

– أضاف ( متكأ ) .

– منذ قليل نبشها          نبشها منذ قليل .

– والمواء          وتموء .

– التي شعر بها تثقل         التي تثقل .

– وإذا بسهير مكانها         فرأى مكانها ” فريدة “.

– صديقة هي ( حذف الضمير هي ) .

– تجري وراءها         تحاول إعادتها .

– ” سهير ”          ” فريدة ” .

– أضيفت ” وسأمسكها لك . وسطر آخر بعدها : وراحت ابنة السادسة ربيعا (!!) تدب على السلم الخشبي ببطء .

– وهو         وأخذ .

– مقتربة         اقتربت منه .

– وهي         ثم .

– فانتفض مسرعا         مسرعا انتفض .

– أضيفت العبارة ” ليشتري ما يشاء ” .

هذه “قراءة” من نوع خاص لقصة مستعادة تدخل فيها قلم الكاتب نفسه بالحذف والتعديل والإضافة ، لتبدو أكثر وفاء بشروط فن القصة القصيرة . إن الجانب الأساسي لم ينله التعديل ، فالموقف زمانا ومكانا وشروطا وظروفا كما هو ، والدوافع والنتائج هي بذاتها ، وبذلك ينحصر التعديل في اللغة ، وإن امتد في بعض الأحيان لإضافة تفضيلات ، أو حذف فضول من الكلام . وإذا كان لنا صبر لقراءة “كل” ما سجلته من ملاحظات ، رغم ما فيها من تكرار ، سنجد أن النقطة التي يدور حولها التصويب هو استخدام أدوات العطف ، وأدوات الربط بينا لجمل ، كأسماء الإشارة ، والأسماء الموصولة ، ثم استخدام الضمائر ، وفي أحيان قليلة استخدام حرف الجر الملائم للمعنى ، ولكن ما الذي يعنيه اسم “فريدة” ليأخذ مكان اسم “سهير” ؟ هل هو أكثر مناسبة وكيف ؟ أم أن الكاتب يدفع بأسماء لها في نفسه علاقة وقت كتابة القصة ، مما يعني أنه لا يصيغها بالموضوعية التي تفترض الانفصال عن واقعه المباشر . لقد أعاد محمود تيمور صياغة عدد من قصصه ، بل أضاف بعض الروايات ، ولكن بهدف تحويلها من العامية إلى العربية الفصيحة ، بعد أن تطلع إلى عضوية المجمع اللغوي وبدأ يفكر في خلود الأدب القصصي ، وهو المعيار الذي يرفضه أدباء هذا الجيل ، على أن تدخل عماد الدين عيسى بعمليات التجميل الأسلوبي لم تكن بهدف الانتقال من مستوى لغوي (عامي) إلى مستوى آخر (فصيح) وإنما بقصد تلافي بعض الأخطاء التعبيرية ، واللغوية ، والاقتراب من طبيعة الأسلوب القصصي السائد الذي يؤثر استقلال الجملة ، والإقلال – قدر الامكان – من أدوات الربط بما يسمح بحركة لخيال المتلقي وذهنه تملأ الفراغ بين الجمل ، ولا نعتقد أن الكاتب كان باستطاعته أن يتمادى في هذا الاتجاه اللغوي الصياغي ليجعل من قصته عملا “حديثا” بالمعنى الفني لهذا الوصف ، لأنه لو تجاوز الشوط الذي قطعه لصارت قصة أخرى ، ولاحتاج هذا تغييرا شاملا في كل عناصر البناء الفني ، وهو ما لا تسعف به الموهبة في كل الأحوال ، ولا يحبذه النقد ، فالأجدر في هذه الحالة كتابة قصة جديدة ، ولا معنى للإصرار على استحياء عمل يفتقد عناصر الحياة من الأصل .

 

ثالثا : إيجابيات تستحق الحرص عليها

إن تجربة عماد الدين عيسى الأدبية تستحق الاستمرار ، والرعاية ، وهو لم يقدم للإبداع المصري خمسة من الكتب عبثا أو لعبا ، إنه يمثل لونا مطلوبا ، وله قارئ يهتم بإنجازات يرعاها في هذه القصص . وفي هذه الفقرة الختامية لابد أن نشير إلى هذا ، قد لا نطيل التمهل عند الشكل الفني ، على الرغم من أهميته بالنسبة لقياس درجة الإبداع ، وهو في القصة القصيرة أقرب إلى التوفيق منه إلى الرواية ، فروايته الأولى : “الخروج من الكهف” – وقد كتبت عنها دراسة خاصة حين ظهورها – تنطوي على كثير من الإيجابيات التي تعود إلى تجربة الكاتب أكثر ما تعود إلى مسيرة فن الرواية ، إذ كان جديداً ، وكانت روايته الأولى ، وإذا كانت الحافلة “الأتوبيس” تحمل عدداً من الأشخاص بين القرية والمدينة ، يمثل كل منهم مشكلة أو مسألة خاصة ، ومن ثم تبقى الرابطة بينهم مكانية ، وأيضا تكتسب السيارة ، كهدف متحرك ، ومحدد ، يتعطل ، تكتسب قوة الرمز ، فقد سبق استخدام الرابطة المكانية على الأقل في “ثرثرة فوق النيل” حيث “العوامة” ، ثم “ميرامار” حيث البنسيون ، وإن يكن هذا الأخير مجرد مكان لم يشارك في الفعل . بعكس سيارة عماد الدين عيسى التي قتلت طفلا على الطريق [حدث هذا في الثرثرة] وأدى القتل إلى افتراق الأجساد المجتمعة إلى نفوس متنافرة ، ومع هذا فإن السيارة انطوت على رمز أقوى مما حملت عوامة نجيب محفوظ ، لقد كان السائق عجوزاً يحتفظ بزوجة شابة لعوب عشقت محصل التذاكر أو عشقها ، وهكذا تسلمت السيارة زمامها وضبطها إلى رجلين لهما ظاهر وباطن ، ويجمعهما نوع من العلاقة يتناقض المعلن منه مع الخفي عن العيون ، وهذا كله جديد في تصور العلاقات النفسية المؤثرة في سلوك الفرد ، وفي تغذية الدلالة العامة للحدث الشامل الماثل في السيارة القاتلة .

 

لقد قسم عماد الدين عيسى قصته إلى فصول بأسماء شخصيات (إحدى عشرة شخصية) تنال فيها النساء النصيب الأوفى : فوزية ، وليزي ، وورود ، وسعداوية ، وشاهناز ، وأحلام ، وهذه النسبة إلى المجموع لا تمثل “نصف المجتمع” كما نقول عادة عن المرأة حين نريد أن ننصفها ، ولا تعطيها القدر المعلن من الأهمية ، إنها – ببساطة – تعطيها النسبة الحقيقية لوجودها في حياة الرجل ، وتأثيرها في المجتمع (الشرقي) أو (المصري) .

 

وأضيف إلى تشريح الشكل الفني الذي آثره الكاتب في روايته الأولى ، فاقول إنها بعد هذه الفصول (النسائية) المتعاقبة ، تتخللها أربعة فصول تحمل أسماء رجال : الحفناوي ، وحمزاوي ، ومنصور ، وسعيد أفندي ، قد انتهت إلى أربعة فصول ختامية تحمل العناوين : العاصفة – الحوار – الصراع – والقافلة تسير ..

 

إن هذه الفصول الأربعة الأخيرة ، التي ترتبط زمانيا بلحظة آنية ، تبدأ بأن دهست السيارة طفلا عابرا على الطريق الزراعي ، هي التي تنتمي بقوة إلى نبتة الرواية ، أما الفصول السابقة ، فإن كلا منها يمثل هماً أو مشكلة خاصة ليست بالضرورة مشكلة الشخص الذي تصدر اسمه عنوان الفصل ، لكنها – على أية حال – لا تندمج أو تندغم في مجمل الحدث النامي ، إنها مجرد ذكريات ماضية ، تعبر بخيال راكب يتعجل الوصول إلى المدينة ، ويشطح خياله مستعيداً صوراً ومشاهد ومواقف وشخصيات ستكون في النهاية صانعة لحالة من الالتحام بالوضع الراهن للسيارة المنطلقة ، وتعليلا مقبولا للرغبة الكامنة في التعجل ، أو استنهاض السيارة – في الخيال – بأن تسرع نحو المدينة التي لا يبدو لها أثر ، وهكذا تظل نقاط التماس أو التشابك مكانية متجاوزة وليست متداخلة أو متوحدة ، وهذا يعني أن الحدث – إن جاز أنه موجود – ليس صانع التشكيل ، وبالطبع .. إننا لا نفكر في سلب صفة “الرواية” عن النص المكتوب ، ولكن لا نستبعد أن تحمل كل شريحة إمكانية أن تكون قطعة قائمة بذاتها وكأنها “قصة قصيرة” متوالية من روافد نهر ، هي ترتبط به وتصب فيه ، ولكنها ليست هو بكل قوته واندفاعه ودرجة توحده .

 

أما الرواية الأخرى “فاتنة الرجال” فعلى الرغم من تسلسل الحدث مسايراً حياة شخصية تلك المرأة التي تتوالى الجانب الأكبر من السرد ، وتستولي على تقديم رؤيتها وفرضها لمقولتها رغم كثرة المشاركين في صنع التشكيل .. على الرغم من كل هذا فإن الشكل أقل هشاشة من سابقتها وأقل إقناعا ، يتجاوز هذا الأمور الكبرى ، أو القضية الأساسية المفترضة ، حيث تنتقل حياة تلك الفتاة المدللة من الإعجاب بالذات ورغبة الاستئثار بالتفوق إلى عالم الإدمان والجنس تحت وهم “الأيديولوجية” إلى أن ترتكس إلى “أيديولوجية” النقيض فتمضي في طريق السوء إلى غايته . فمع ما في هذا الخط من حشد رومانسي حاد الألوان فإن الفتاة هي التي تتولى الإفضاء بكل شيء ، وهي تفعل هذا من سرير مرض أشرف بها على الموت ، وتعترف به لشخص سبق أن لعبت به في زمن ماض ولم يرها إلا مصادفة ، ولم يقترح عليها شيئا مما تطوعت به . وهنا ستكون نية الكاتب على أن يصور عالم الأهواء والإنحراف عن الاعتدال والمزاج الحاد المريض للتعصب السياسي والديني والرغبة في إسقاط الأقنعة الساترة ، ستكون هذه النية الكامنة معلنة عن نفسها بفداحة حيث تتراجع عقلانية الطرح وموضوعية الاهتمام بالآخر وإهمال البديل ولو بالرمز . وهذه الفتاة – زينب أو زيزي – تطيل الوصف في مشاهد العبث مما يمثل إدانة أخلاقية وسياسية ، ولكنها توجز أشد الإيجاز في فحص التحولات الأساسية في حياة صنعت لتكشف عن الأسباب الحقيقية لهذه التحولات ودواعيها الموضوعية . ومن الإنصاف أن نشير إلى طابع تسجيلي وثائقي في بعض خطرات الرواية ، فقد احتفظ بمؤشرات للكتب العدمية التي تروج في أوساط معينة ، ورسم طريقة عملهم بين الشباب وطريقتهم في الاحتفاظ بالمنضم إليهم كرهينة .. إلخ .

 

إن المسألة الختامية التي تستحق الإشادة كمنجز فني من واجب الكاتب أن ينميه ويحافظ عليه ، قصص الأرض في الريف وصراعات الفلاحين ، وليس الإقطاعيين الذين ذهب زمانهم ولم يرهم . إن الصراع على الأرض يدخل في صميم البنية الاجتماعية والسيكولوجية للفلاح ، وقد كتب عماد الدين عيسى عددا من القصص القصيرة الجيدة حول هذا الموضوع ، كما أن روايته الأولى تضمنت خيطاً واضحاً يثير هذا الإحساس بقوة العلاقة بين الفلاح وأرضه ، وإذا أردنا أن نستكمل إيجابيات القص عند عماد الدين عيسى فإننا سنجدها تغادر الموضوع القصصي إلى التشكيل ، والسارد عنده – في أهم صوره – يستخدم أسلوب المناجاة ، وهو أسلوب متميز أو يتميز به الكاتب رغم ترديد شخصياته – بصفة خاصة الريفية – لعبارة “هيه .. هيه” فلا تدري هل هي أنين أو حث أو تهديد أو ندم ؟ وهي محكومة بالسياق بالطبع ولكن الإسراف في استخدامها جعل منها “لازمة” لا نشعر بالحاجة إليها ، أما هذه المناجاة التي تميز بها السارد فإنها تمزج بين الراوي العليم بكل شيء ، والأنا المتكلمة ، وهي طريقة تنشط التلقي وتستدعي القراءة الحذرة ، حتى وإن أدت إلى شيء من الاضطراب أو اللبس في بعض المواقف .

 

وقد اشرنا في ثنايا مقالة قديمة عن “الخروج من الكهف” إلى لغة السرد وأنها في هذه الرواية تستحق عناية خاصة ، وإن تقصي كتابات عماد الدين عيسى يؤكد هذا المؤشر الإيجابي ، إنه يرتب عناصر البنية في حدود الجملة ، بما يدفع ببؤرة المعنى إلى المقدمة ، حتى نجد في الرواية مثل تلك التراكيب :

  • عليه تسيطر ملابسات الموقف (ص53) .
  • سوطه عرف كثيراً ظهورهم (ص36) .
  • الجميع عنها انصرفوا (ص80) .
  • لكل ما تبغين العنق فداء (ص81) .
  • منصور ، وأنت ، لكما سأكون الكثير (ص81) .

 

وكذلك يمكن أن نتأمل جملة متقاربة التركيب متباعدة الدلالة حيث يتحرك مركز الدلالة ، فحين مرض زوج ورود عبرت عن ارتباطها به ، وخوفها عليه بقولها : “بموته أموت” ولكن حين مرض ابنها وخشيت عليه كانت كلمتها : “أموت بموته” فهنا يؤدي التقديم والتأخير وظيفة دلالية نفسية مهمة ، وفي كثير من قصصه القصيرة توجه هذه التراكيب المعنى إلى عمق متجاوز يدخل في صميم تصور الشخصيات . مثلا في “ليست حيوانا أليفا” يقول : ” أتعلم .. عصام بك أثناء الانصراف همسا دعاني إلى منزله” إن تحديد المخاطب مدخلا ، وما يدل عليه لازم الفائدة – بالمعنى البلاغي – والبدء باسم المتكلم الآخر ، وتحديد المناسبة زمنياً وحركيا قبل المعنى ، والنص على طريقة الدعوة وما تعنيه هذه الطريقة ، كل هذا يجسّد القضية موضوع القصة . مع هذا قد نجد عبارات تخطاها فن القصة ن كالقول : “يثرثرون بكلمات طنانة رنانة زنانة (بئر في صدر رجل – ص71) ومثلها في “فاتنة الرجال” يقول : “الثلاث سنوات بكل ما احتشدت من شجون ومجون وجنون” (ص18) ولكن هذا الضرب من الإيقاع السطحي قليل بل نادر ، وهناك أخطاء قليلة أيضا أو نادرة ، ولهذا فإنها لم تقلل من شعرية القص عند عماد الدين عيسى الذي نرى أنه ميزة تستحق المحافظة عليها ، وأن اختياره الريفي يقوي هذه الشعرية بل يستوجبها بدوافع الحنين ، وبدوافع الطبيعة ، وبدوافع تلك النزعة الصوفية التي تقدس الأرض ، وتجعلها محوراً تدور حياة البشر من حوله ، وهذه رسالة نبيلة تستحق أن يحتشد لها ويجتهد فيها ليصنع القصة القصيرة والرواية الأكثر اتقانا ، لأن كل المؤشرات تؤكد أن هذا في حدود الاستطاعة بالنسبة إليه . 

   

اترك تعليقاً