هكذا تكلمت أحجار سمير عبد الباقي
هكذا تكلمت أحجار سمير عبد الباقي
عندما يؤثر شاعر شعبي معروف ، راسخ الموهبة في مجال القصيدة العامية ، أن يكتب رواية “وحيدة” فلابد أن هذا الاختيار له مسوغاته ، ومن واجبنا أن نستخلص هذه المسوغات دون أن تستدرجنا إلى منطقة الرمال المتحركة في التنظير النقدي المتفلسف عن مدى قصدية السارد وتعمده أو المدى الذي يستطيع به أن يوجّه إرادته لتفضيل قالب فني على غيره في حال الإفضاء بتجربة ضاغطة تستحثه أن يعلنها بالكتابة ، وإن كنا نميل إلى الاطمئنان للقول الذي يرى أن مجال “المزاجية الخاصة” أو “الرغبة النفعية” محدود جدا ، ولا يصمد طويلا أمام الإمكانات المذخورة في التجربة ذاتها ، التي تجتذب كاتبها إلى سُلطتها المستنبتة بقواها الداخلية من حيث هي هاجس أو خبرة خاصة ، تتشكل بقواها الذاتية لتسفر عن محتواها وقضيتها أو فكرتها بسياقها الطبيعي المستجيب لهذا لتشكيل . إن عمليات القسر المزاجي ، أو الالتواء المتطلّع إلى هدف ، أو أهداف نفعية ، (كالشهرة ، أو الربح المادي ، أو الإعلان عن طاقة الموهبة وقدرتها على التنويع) لن تكشف إلاّ عن اضطراب في التكامل ، وربما عن تصنّع يعلن عن الخلل في هذا التوجّه القسري ، القشري ، تسقط به المحاولة من أساسها .
إن رواية “هكذا تكلمت الأحجار” تنهض وحيدة في نمطها ، ولكن ليست معزولة عن مجمل إنتاج الشاعر سمير عبد الباقي ، وليست بعيدة عن إبداعه الشعري والمسرحي، بل إنها تتأسس على ذات القاعدة ، تنشر الفوح نفسه ، وترش الألوان ذاتها: روحا وتصويرا وفكرا ، مع الإقرار باختلاف النسب والمسافات بين وحدات التشكيل ، ومن ثم : اختلاف المدى الكاشف ، أو المشاهد المكتشفة بالرؤية ذاتها . وحين يستقر في ضمير القراءة النقدية أنها تتعامل مع رواية وحيدة لمبدع تعددت مصبّات ينبوعه ، وغزرت في اتجاه آخر ، فإن النقد سيكون محاصرا بالتفكير في الكاتب أكثر من التفكير في المكتوب ، وقد يسعى إلى تحقيق التوازن والموضوعية بإعلان أن هذه الرواية الوحيدة – عادة – بنت تجربة ذاتية مباشرة ، وأنها قناع للوجه الذي نعرفه جيدا ، وجه الكاتب ، وأنه لا تثريب على النقد أن يبذل جهده أو قدرا من هذا الجهد في تحديد منحنى التأويل ، وانحراف التصوير .. بين الوجه الأصل ، والوجه القناع . وأرجح أن هذا المدخل إلى الرواية حاضر مستمر الحضور ليس من زاوية المنهج النفسي ، الذي يعدّ المنتج الأدبي “وثيقة” تفضي بأسرار نفس الكاتب وأفكاره ، وحسب ، بل من زاوية أن اسم المؤلف “سمير عبد الباقي” جهير ، بازغ ، يتجاوز جهر أشعاره ذاتها وبزوغها ، عند عامة جمهور الشعر ، وفي هذا الاعتقاد المسبق – على افتراض حدوثه – ما يسلب رواية “هكذا تكلمت الأحجار” قدرا كبيرا من خصوصيتها الفنية ، وتميزها البنائي الملحمي الطموح إلى استحداث طريق غير مألوف لفن الرواية العربية الحديثة ، بصفة خاصة إبان صدورها الأول منذ نحو عشرين عاما أو تزيد .
لابد أن يلفتنا عنوان الرواية ، وإذا كان تصدير كلمة “هكذا” يتضمن اعترافا بوجود “الوسيط” الذي يبيّن “لمن لم يشهد” أو لم يملك الوعي : كيف تكلمت الأحجار ، فإن صيغة الماضي في “تكلمت” تفتح باباً إلى الماضي غير المحدد ، وتجعل من السارد شاهداً حاضراً ، عايش هذا الماضي ، وانفعل به ، عاناه بعذاباته الدافقة الماحقة ، وأحلامه المحبطة والواعدة ، برغم غياب “الأنا” الراوية بضمير المتكلم المشارك ، وإيثار صيغة المشاهد من بعيد ، وإن يكن عليما بكل ما جرى . إن “الأحجار” تضمين معادل للوجود البشري ، مجسّد للمحطات الأساسية أو الركائز التي تميز هذا الوجود عن غيره من الكائنات . تجمع الكتب المقدسة ، على ما قررته الجيولوجيا بعد ، أن الماء بداية الخلق ، كما أن اليابسة ، الأرض ، الحجر ، بداية الوجود البشري ، بل إن الإنسان نفسه مكوّن من طين الأرض ، من “صلصال كالفخار” متحجّر ، على أن تاريخ الحجر هو بذاته تاريخ المجتمع الإنساني الذي سجّل تجربته على جدران الكهف .
وكذلك فإن للحجر في حياة أنبياء الشرائع الكبرى دلالات رسخت قيما وتوجهات أساسية لا تزال ماثلة في الحلم الإنساني الطامح إلى التخلّص من اغتراب الإنسان عن ذاته ، بتحريف فطرته . ضرب موسى الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ، فتحددت اصول القبائل واختفى الصراع ، وقال المسيح بصدد المجدلية ك من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !! فأقر نسبية الخطأ ، واحتمال الخطيئة ، وحق الغفران . وهدم محمد أحجارا (أصناما) وأعلى من شأن حجر ( الأسود) بإيثار سماوي يحدد الوظيفة ويوحّد الرمز ، ويصحح النسبة . على أن رواية سمير عبد الباقي تجري في مصر ، بين دروب قرية ، وزنزانة في معتقل ، وللأحجار في كليهما : القرية والسجن انعكاسات شتى ، ولكن المكان “المصري” الذي يساوق الامتداد الزمني (اللانهائي) يحمل شارته الأساسية من الأحجار : الأهرام ، والمعابد ، والمسلات ، والتماثيل ، وقد تكلمت جميعها ، ولا تزال ببيان لا اختلاف على فصاحته ، وإن اختلفنا في مدى ونوع وأسلوب الاستجابة . وخلاصة القول هنا أن أحجار الرواية التي تكلمت هي أحجار التجربة الإنسانية (الاجتماعية) منذ محاولاتها الأولى لمواجهة عصف الطبيعة والحفاظ على كيان الإنسان ، وهي أحجار ركائز وجوده الروحي ونضاله العقائدي المتطلع إلى التغيير ، ومقاومة الجبروت بالدفاع عن الحلم وقبول الاستشهاد من أجله . وإذا كان طرح “الرؤية” بهذا المدى الأسطوري ، الذي يتجاوز الرصد التاريخي فضلا عن المعاينة ، لا يمكن إدراكه في غير إطار ملحمي ، ومفردات حكائية تنتمي إلى هذا المستوى من القص المجاوز للواقع والممكن أيضا ، فإن الكاتب – وهو يدافع عن قضيته – أقام ، بإرادة واعية ، عدداً من المنارات الهادية ، أتصورها جزرا مشمسة مكشوفة ، تعيد ، أو تعين على إعادة “ضبط” البوصلة الموجهة ، التي “قد” تغشيها أدغال الأسطورة ومبالغات الملحمة . إنه ، في بقعة محددة من رحلة شخصيته “هو” القدرية بين مستويات تختلف أدوات الانتهاك فيها ، وتتفق غايتها ، وهي – بالصيغة المعلنة : “إعادة التأهيل” !! أو محو ذات المواطن ، وصياغته وفقا لما تريده السلطة الفردية ، يقيم تلك المنائر أو الجزر المشمسة لتعيد “معايرة” الفكر وتصحيح التوجه :
- يقودهم صغارا لغزو جنينة أو حسن ، للحصول على الفاكهة التي لم تنضج بعد ، أو يدفعهم صبيانا لعبور البحر الصغير إلى التلول لاصطياد طائر أبو الخضير ، أو يحرضهم رجالا على إسقاط العمدة وتغيير مجلس إدارة الجمعية . ص9 .
- [قال الوالد] كان مالنا ولهذا ، إن أحدا منهم لم يعرف طريقه إلينا أبدا . نحن قوم فقراء يا ولدي وضعاف ، عملنا هو أن نزرع برسيم البغل الذي يعبده أسيادنا . نحن الكوبري الأزلي الذي يعبر فوقه الملوك والغزاة ، وتمرّ فوقه العصور . ص20 .
- كان يحلم طوال عمره بأطفال يضحكون من القلب . ص28 .
- [ ويقول الأحدب ، وهو سجين ينتمي إلى فصيلة السجان ، يعمل على هزيمته “هو” في صميم معتقده ، ويدافع عن السجن والسجان ] : أنت أدرى بالأحوال وإلاّ لما سجنوك . ألست تدافع عن الطبقات الشعبية ؟ إنه من عزّ الطبقات الفقيرة ! ص31 .
- [بعد وجبة تعذيب ، تسلل إليه عميل آخر يواصل تزيين المنطق البديل] : ماذا تظن أنك تكتب ، لست سوى فأر ، وسنلقي بك مع الآخرين طعاما للقطط الجبلية . التاريخ وهمٌ تعيشون فيه ، فهو ليس إلاّ عجوز ذو لحية بيضاء اخترعه الحكام ليحدث الأطفال عندما نريد لهم أن يذكروا شيئا بالذات … ألست من أنصار الواقعية ؟ .. أهلك في حاجة إليك . ص39 .
- ولكن ينبوع الشعر تفجر في قلبه لحظة شاهد عند أول الطريق الصاعد إلى البحر القديم – صديقه غارقا حتى الصدر في طين (المعجنة) فاقترب فاردا ذراعيه في لهفة ، محاولا تذكيره بنفسه ، ولكن صديقه كان منشغلا في عراك مع زوجته الهزيلة العجفاء التي كانت ترضع طفلا (نزازا) من ثديها المترهل المتدلي كورقة الصبار ، وفوق رأسها لمبة غاز عارية تقاتل الريح ، وترسم على الأرض والحوائط ظلالا مرعبة مهولة ! ص49 .
هذه أهم “المحطات” المؤسسة للرؤية ، المحددة للاتجاه ، في تلك الرواية القصيرة، ذات الصبغة الملحمية ، وهي جميعا في النصف الأول من الرواية ، وهي أيضا ذات وضوح وتحدد صارم ، ودلالة العكس صحيحة ، فمثل هذه العبارات المتوهجة المكشوفة (الجزر المشمسة) ستقل وقد تختفي الحاجة إليها حيث يطمئن الكاتب الذي يحرص على ألا يترك الأمر برمته لوعي القارئ بطبيعة الرموز ، وحيث يكون الفضاء الجغرافي قد تحدد تماما (بين القرية والزنزانة) والفضاء الدلالي قد تحدد (دون حرص على الجناس ، فهكذا كانت) فعمق مجرى الرمز وتأطّر مجال الأسطورة بأخذ ود عميق يقلل فرص التباس المراد . وفي هذه الاقتباسات السابقة المحدودة تمّ إعلان القضية ، وعقد المواجهة بين طرفي الصراع [المثقف والسلطة] واختبار الأساس الأيديولوجي لها، وبخاصة في الاقتباس الأخير ، الذي تشكل في “قصيدة” نثرية ، ذات نفاذ وقدرة تخييلية عالية ، برغم محاكاتها لواقع يومي مشاهد ، يبدو في مفرداته نقيضا للروح الملحمية التي نشرت ألويتها على مراحل العمل ، ولكنه – في خلاصته كموقف – تأصيل لهذه الملحمية ذاتها ن وكشف عن روح الفروسية الكامنة في جوهرها . كيف يتم هذا ؟ ها هو ذا العامل ، صديق قديم ، غارق في الطين ، وفي هذا وحده تعليل لعجز الراهن عن استحضار الماضي ، وتأهيل النفس لأداء حقوق اللحظة فضلا عن التفكير في المستقبل ، لقد انشغل بالعراك مع زوجته .. “التي” ، وهذه “التي” تفتح الطريق إلى مشهد آخر ، بقوة الترابط والتداعي معا ، تتحرك الكاميرا كما تفعل في “الدراما العائلية” من فرد لآخر في تزامن كاشف عن أغوار المشاعر ، فليس ثمة فاصل أو جفاء بين مفردات مشهد ما يأتي بعد “التي” ، وغوص الصديق القديم ، الزوج ، في الطين ، فصورة الزوجة تعليل لموقع الزوج . إنها هزيلة ، عجفاء ، برغم هذا تعطي : ترضع ، يعادلها ، أو يختزلها ذلك الثدي (أداة الرضاعة) كورقة الصبار : مريرة ، خشنة ، جارحة ، غير أنها “صابرة” تحتمل من قسوة الجفاف مالا يحتمل غيرها ، أما لمبة الغاز فإنها “عارية” في مشهد عار من أي خداع بصري ، “تقاتل” ، وبرغم احتمال الخسارة ، إذ من الصعب أن تصمد فتيلة للريح ، فإنها ترسم على الأرض (الواقع الملموس المدرك) ظلالا مرعبة !! أما هذا الطفل “النزاز” فإنه يحمل بذرة رجل الطين ، وقد رضع الصبر ، فصنع ما يرعب ويهول . كيف يلتقي المشهد المتردّي بالواقعية النقدية مع الإطار الملحمي البطولي ؟ إنه يبدأ بتفجر الشعر ، بديلا لليأس والشعور بالحطّة ، من مشهد الطين والصبار ، يتولد الطفل الوعد ، ويتفجر الشعر ينبوعا صافيا ، ويتأكد هذا الإعلاء الملحمي بالإمساك بقضية تتجاوز وعي من تعنيهم في الأساس ، وهذا موقف مثالي يصعد بالشعر إلى مستوى الحلم ، حتى وهو يتخلق من طين المعجنة . وهذا الموقع لقضية “الإبداع” ومن أين ينبع وكيف يتشكل بالإدراك الخاص تفتح الطريق إلى محور هموم المثقف في الرواية ، ولكن هذا أمر آخر بعيد عن الملحمية .
وهنا لابد أن نتوقف عند هذه الصفة “الملحمية” لنحدد ملامحها ومصدرها ، وهذا أمر مهم لما فيه من صياغة خاصة ، مخالفة ، لمفهوم البطل الملحمي “التاريخي” ، الإيجابي ن الصانع للحدث ، المتجلي كقدوة ، وحلم ، يشق الطريق إلى مستقبل مغاير لمعاناة الماضي . وليس من مخاطرة في البحث عن الملحمي في الروائي ن الانتساب التاريخي يقدم الجواب ، كما أن الواقعية السحرية تعيد ضخّ دماء الحياة في الوشيجة القديمة ، وإسقاط الحواجز العازلة بين القصيدة والرواية والمسرحية تعطي حرية التشكيل وتنشر “الدرامية” كما تؤسس “الشعرية” من منظور جوهر الشعر كما تبيح توظيفه فنيا دون أن تستبيح خصوصيته ، وقد استجمعت “هكذا تكلمت الأحجار” هذه المعطيات في بناء خاص بها ، في فترة مبكرة نسبيا يسبق بها سمير عبد الباقي غيره ممن عكفوا على هذا الاتجاه وبنو خصوصيتهم عليه ، في حين أغفلت محاولته بسبب تبكيرها ، وأنه لم يتابع إنجازه الفنّي بأعمال أخرى تؤكد انتماءه إلى الأسلوب ، أو انتماء هذا الأسلوب إليه .
إن البطل الملحمي في الرواية ليس “هو” بالتحديد ، برغم تمسكه بالحلم ن وصموده لمحاولات التخلّي ، ولقد مهّد ليتقبلّ تصوره الخاص لبطل ملحمته بالمدخل “هكذا..” الذي يؤكد موقع الذات المدركة ، الساردة ، المختلفة عن “هو” ، إن الـ”هو” يجسد الجانب المعادل لسيرورة التاريخ ، ويواجه الجانب الكابوسي في تجربته المعاشة ، أما البطل الملحمي المستمر فهو التاريخ “المصري” نفسه ، مترابطا شعريا بالتماثل والتداعي المستمر في سلسلة من انتقاءات السارد التي تتجاوز خبرة الـ “هو” بذاته لتستمد ركائزها المغذية لموقفها المقاوم من مخزون التجربة الجمعية والضمير الوطني الواعي بكل ما جرى في حقب الماضي : ” لن تشفع له تلك المسافات التي قطعها في سفر لا نهاية له ، عبر المكان الواحد ، والزمان الذي لا يتكرر ” وسواء كان هذا المكان الواحد هو مصر ، أو الزنزانة ، أو كوّة الزنزانة حيث يتكور ، ويراقب ، وينتظر مستعيداً زمن ” الرحم ” ومنتظر زمن ” الولادة ” الذي لابد أن يأتي ، فإن الزمان الذي لا يتكرر تسليم بالحركة ، وبأنك – كما قال هيرقليطس – لا تستطيع أن تغمس يدك في النهر مرتين ، ولكن القضية لها وجه آخر ، لأن “زماننا” يتكرر ، ويتكرر بذات الأهداف وإن استجدت وسائل ، وهذا مبحث نلتمس إضاءاته في مستويات منا لتداعيات وأنواع من التناص ، تؤكد “الثبات” من خلال الاختلاف ، فمنذ أقدم العصور ، كما في المشهد الراهن ” أسرع يشبك ذراعيه فوق صدره مصليا يحتمي بإله قديم كان يقدسه أجداده الأوائل ” (ص27) . وفي زمن آخر زجّ به في ساحة النزال ليخوض صراعا حتى الموت ، في مواجهة آخر لم يضمر له عداوة – على نحو ما يشعر الآن تجاه سجّانه – بل لم تسبق بينهما معرفة ، وربما دفع إلى منازلة وحس جائع كما كان يفعل الرومان الوثنيون مع المسيحيين الأوائل في مصر ، بل مع بعض أنبياء (أعمال الرسل) (33 ، 34) وفي زمن سابق اتهمت مملكة الجنوب المصرية بأنها تزعج مملكة الشمال (الهكسوس) بإطلاق أفراس البحر (ص85) . ولكن هذه المعاناة التاريخية لن تكتسب الوعي بها ما دام العامل البائس غارقا في طين المعجنة ، وقد كشف قناع هذا المعنى بأن جعل الحقيقة الباطنة القائمة في ضمير “هو” بفعل إدراكه الواعي الخاص في حال من التناقض الحاد مع الحقيقة الماثلة أمام النظر :
“كانت الحارة التي عرج عليها مألوفة ، فابتهج قلبه . كانت تموج بالحركة والضياء وأصوات الناس ، فاحتضن فراغها بحب ، واندفع يملأ منها صدره وعينيه . كانت الداية تجلس على حجر رشيد ، تبيع (فول نابت) وتنتهر طفلا سرق حبتين ، وتفاصل رجلا يحاول أن يسرق منها مليما . وقف على رأسها فالتفتت إليه مذعورة ومدت يدها ، ظنها تريد مصافحته ، كلنها أسقطت في كفه شلنا ، فشكرها وتركها ونظرة شك وغيظ تلاحقه ، ودعوة صامتة تلعنه هو وأمثاله من الجبارين وآكلي الحرام ” (ص99) .
هذا المشهد بتركيبته الحركية المسرحية بُنى بدقة فلسفية وعمق فكري ، مبرزا أوجها من التناقض الذي يتوازن به المشهد ويكتسب موضوعيته ، إنها “حارته” المألوفة ، يقبل عليها مبتهجا . في النهاية ستنكره الحارة ، فيتركها واللعنة تلاحقه ، إذ لم تفهمه على صورته الصحيحة . الحركة والضياء والأصوات ، سمات مصرية راسخة ، والداية – التي تشهد وتعايش ميلاد البشر ، وتجلس على مفاتيح أسرار وجودهم التاريخي تجهل المعنى ، من ثم تتناقض الوظيفة والسلوك ن تقوم بالتوليد وتنتهر الطفل من أجل التافه ، وكان حقه أن يجد في عطفها دفء الملاذ ، وتفاصل في المليم ، وتعطي بخنوع من تظن – مجرد ظن – أنه وقف ليبتزها ن وتعطيه بسخاء ، ثم تلعنه ، دون أن تجرؤ على إعلان رأيها . إن نظرة الشك والغيظ من جانبها نظرة مهزومة بلا معنى ، بل تعلن عن انفصام لا شفاء منه ، لأنها جاءت تابعة لفعل تلقائي جاهز لا يصدر إلاّ عن فزع تاريخي تكون عبر ممارسات السلاطين التي لم تتوقف عن اختراع وسائل جديدة لإخضاع الناس واستلاب إنسانيتهم . إن فصول الرواية لم تخل من ذكر السلاطين ومواكبهم وإعلان الفرح “الرسمي” باستقبال السلطان الجديد ، المقترن – عادة – بالكشف عن مساوئ السلطان الراحل ، غير أن الأمر لا يتجاوز هذا المدى الرسمي ، أما الناس ، الشعب ، فإنه يعرف أنه ليس طرفا في معادلات السلطة ، لا يعمل أحد له حسابا ، أما اختلاف السلاطين فإنه تجديد في استحداث وسائل الاستلاب وفنون النهب ، ولهذا تعاقبت أجيال وأجيال من الشهداء ، جادوا بدمائهم لمدّ أجل الحلم بالخلاص ، وذهبوا ” وابتسامة عريضة ارتسمت على محيا الرأس المقطوع ” كما يقول آخر سطر في الرواية . فإذا كانت ” كآبة الحقيقة وابتهاج الحلم ” (ص80) عبارة جامعة لوصف الرواية ، فإن هذه الكآبة الماثلة ، والإصرار على حلم التغيير لم يفترض عبر لمع تقريرية أو نصائح مملاة، وإنما تجلى عبر هذه السلسلة المتعاقبة من سلاطين المواكب الدموية ، التي تعارضها سلسلة من شهداء الحلم وطلائع التغيير ، وهذا جوهر التعارض الدرامي في الرواية ، فهناك دائما الجلاد والسجان والبصاص وكافة أدوات القهر ، وقد توجهت إرادتهم على أن التاريخ ليس أكثر من عجوز ذي لحية بيضاء ضخمة ، هو عميل للسلطة ، يغرس في وجدان الناس ما يدفعهم إلى الخضوع ، وهناك دائما الحالمون بوعد النصر ينتظرون كلمة الرب المخلّص ، يأكلون خبزه ن يعظمونه ، طقوس تعميدهم عذاب المعتقلات ، ومواكب أفراحهم استشهاد ، وبين الفريقين يجري الرهان على مساحة هائلة من الغافلين الذين يتخذون من حجر رشيد مقعداً ، يتشاجرون على المليم وهم يملكون خزائن الأرض. لا ينتبهون إلى كنز “التاريخ الراكد المتراكم فوق الحجارة” (ص94) .
ويكن كيف يمكن الشاعر أن يقدم للقارئ رواية دموية كابوسية غير قاتمة ، غير بائسة ولا يائسة ، برغم أن كل أحداثها الراهنة التي تسند إلى “هو” ليست أكثر من ألوان من الخيبة والتعذيب والإحباط ، وكل ما يستحضره من مشاهد التاريخ يؤكد رسوخ الخيبة و … إلخ ؟ من ناحية بناء فكرة الرواية حافظت على خط يتألق ويتصل تألقه غير قابل للانقطاع ، نستطيع أن نطلق عليه تسمية “التطهر” وهذه التسمية واردة في الرواية ، وهي تناسبها وتجسد كلمة السر في الضمير المصري ، و “التطهر” أوفق من “النقاء” ، لأنه نقاء على أساس روحي وتوجه عقيدي ، ولهذا توسعت الرواية في الاقتباس النصّي، والمعنوي من القرآن الكريم ، ومن الكتاب المقدس ، ومن تاريخ الاستشهاد ، فضلا عن أسماء الأنبياء . هذه خاصة أسلوبية أولى ، لها تأطيرها للفكرة في الرواية ن وحراستها لكيفية تلقي القارئ لها ، فليس مصادفة ، أو عملا خاليا من الدلالة ، أن الرواية التي دفع “هو” أمنه ومستقبله ثمنا لحلم التغيير لصالح جمهور لا يعرف عنه شيئا ، بل قد يعاديه عن غفلة وإضلال ، لم تستحضر في أي مشهد من تداعياتها التاريخية أمثال القرامطة أو من يرفعون لافتات دعاواهم في العصر الحديث . وهناك أمران آخران – إلى جانب العنصر التطهري المتألق المستمر – شاركا في حماية الرواية من القتامة ، أولهما التكوين الشعري الذي يهيمن على الأسلوب ، وهذا التكوين الشعري يتجاوز ما جاء منظوما ، مكتوبا بطريقة الشعر (القصائد) (ص40 ، 43 ، 49 ، 82) إلى ما يمكن اعتباره “وحدات” التشكيل تراوحت بين المألوف والخارق ، فأحدثت تأثيرها في صنع مستواها الخاص من التلقي ، وهو مستوى يجمع بين دهشة الاكتشاف للحقيقة المتجاوزة للمألوف ، والتصديق بإمكان هذا التجاوز “شعريا” في الماضي ، وواقعيا بمعاينة حالة الصمود التي يجتازها “هو” . وكذلك أمكن دمج هذه القصائد – كحالات استحضار نفسي ، وتطهر يتجدد ( ولا نقول كعزاء أو تشجيع على الصمود ، إنها انتساب ) ومن ثم فإن وجود هذه القصائد في سياقاتها ، لم يؤد إلى كسر في الإيقاع ، وإنما إلى هدوء أو هبوط في النغمة ، بعد الصخب المتمثل في صدامات الراهن ، ولم يؤد كذلك إلى مسرب يختلف عن تيار الفكرة ، وإنما أدى إلى تجميع مفردات الرمز عبر كثافة الأداء الشعري ، فاكتسب الرمز مصداقية أعلى ، كما في هذه القصيدة :
سافر فوق جناح الرخّ إلى حافة جزر المرجان
يحلم أن يتمرغ فرحا فوق العشب الأخضر في
آخر أيام العالم ..
يتمنى أن يغتسل بكل مياه الأنهار .
يشمّ جميع الأزهار ..
ويقرأ كتب الحكمة والحب ويسمع كل الأشعار .
فمضى يأكل خبز الذرة الأسود ، يصعد سرا
خيل العمدة ،
ويبول على سلم قصر الوالي ،
ويطارد نحل العسل البرّي ،
ويجري تحت الأمطار يشم زهور البرسيم ،
ويلاعب أطفال الفقراء ،
يقضي الليل بأكواخ منفية ..
يشرب لبن الماعز فوق تلال فلسطين ..
يصلي في معبد (بوذا) عيد الفصح ..
وفي الكعبة يغفو ليطالع وجه رسول الله
وفي دلفى ، والأديرة الأولى ..
يعانق (إيزيس) ويتلو كتب (الخضر)
يشرب خمرة (باخوس)
يضاجع في الزنزانة كل نساء العالم .
وحين رآها أول مرة
كشف العالم عن أول أسراره
فأبصر كيف تدور الأفلاك
وكيف يعيش الشعب الرعب ويقتل خوفا
أو جوعا ، أو خسفاً ،
انكشف الغيب ، فقرأ سطور المستقبل ..
حرفاً حرفاً ..
تقدم مفردات هذه القصيدة إجمالا شعريا لخصوصية “هو” المختزل لطبائع شعبه ، المنتمي إليه ، إن “الكل في واحد” تأخذ كافة تجلياتها ، من عصر إيزيس صانعة الرؤية ، إلى عصر محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي استوعبت دعوته كل ما سبقها ، دون أن تنكره ، وبهذه الكلية – ينفتح باب الحلم إلى كل الأنهار ، كل الأزهار ، كل النساء ، لكنْ .. هل يستوعب ركن الزنزانة وهل تستجيب إمكانات الواقع لهذا الحلم باحتضان العالم ؟! هذه هي المفارقة الموجعة التي تمثل “القرار” في اللحن المستمر المتصاعد .
أما الأمر الثاني ، الذي استبعد القتامة من الرواية وإن سيطر الكابوس ولم ينقطع خيط دماء الشهداء (بعد التكوين الشعري) فهو اللجوء إلى رموز وصيغ تنتمي إلى موروث الحكاية الشعبية ، والحواديت الريفية . وقد حرص السارد على تهيئة التلقي منذ البدء بتصدير الفعل “كان” لأول فقرة ، و”ذات صباح قديم” للفقرة التالية ، ثم تحض القبرة قلب الطفل على التمرد ، وكذلك يهبط إلى الأرض مستعينا بأشعة القمر (كليلة ودمنة) وتظهر رحلات السندباد ، ومدينة النحاس ، وبحر الظلمات ، والوحش العملاق ذو العين الواحدة ، والشيخ الذي احتال على الفتى حتى أخضعه بساقيه الضاغطتين على عنقه (ألف ليلة) وظهر التنين ، وهيكل سليمان ، ويوسف ، وبلوقيا (التراث الديني) والدرويش المحتال ، والسلطان الذي له أذنا حمار (الحدوتة) وينفرد “نشيد الإنشاد” بأن منح الشاعر قدرا من الصور النادرة ، وبناء للجملة قد تميز به ، مثل هذه العبارات : الحرس الطائف بالمدينة – غير أنها مريضة حبا – مثل طين الأسواق تدوسهم ، وتسحقهم كتراب قدام الريح (ص75 ، 76) مشورة الأشرار لم يسلك .. إلخ ، (ص47) قبض الريح (ص48) . وهنا نقول إن اهتداء الموهبة إلى اللغة المناسبة هو أقوى برهان على أنها أخذت مداها في النضج وتبرعمت بقوة طبيعية ، فطابع الحكاية الشعبية ، ممتزجا بمفردات الكتاب المقدس ، مستجلبا عبر المفردة ما حفلت به هناك في موطنها من لوعة الأشواق وثورة التمني ، كان مندغما تماما مع التكوين الشعري الشامل ، وهذه القصائد التي جسدت لحظات تحت مجهر خاص يتجاوز طاقة الرؤية المالوفة . وكذلك انسجمت لغة الرواية في منحاها الشعبي ليس مع خلاصة التوجه الشعبي وحسب ، وإنما مع حرص الكاتب على تجنب المباشرة (إلاّ في القليل ، كما توقفنا عند الجزر المشمسة) وإيثار الرموز ، ويمكن أن نتعقب – على مدار الرواية – لفظا واحداً هو : “الطفل” وسنرى في تقلباته ، والصفات المحددة له ، وعلاقاته ما يمكن أن يكون “هيكلا” للبناء الفني في تفاصيله الأساسية ، تماما كالهيكل الخراساني الذي ينهض بالعمارة كاملة ، رغم اندغامه في المجموع : تبدأ الرواية بقبرة توحي للطفل بالتمرد ، فيتمرد بالحلم ، ثم بالعمل على تحقيق الحلم (ص5) من ثم ينتهي الموقف إلى مواجهة من نوع كاشف أليم بين الطفل والعجوز (ص21) وفي المعتقل يرى جمع الأطفال (ص27) وقد وقفوا يشاهدون القادم الجديد ، وهناك سيعرف – لأول مرة – أن بين الأطفال مشوهين يخالطون سجانيه (ص30) وفيهم أعور وأعرج (ص30 ،31) أما الأطفال الجدد فمشوهو الأسنان (ص108) هكذا تحرر رمز الطفل من أن يكون علامة (تجارية) للبراءة ، فهناك الإدعاء والمسخ والتشويه والنقص ، وقد تحرك الرمز ، أو تقلّب بين أطفال الحياة (الشعب) وطفل الحلم (هو) وأطفال الخيانة … إلخ ، أما قلب “هو” فقد انعقد على الطفل الحقيقي ، إذ “كان يحلم طوال عمره بأطفال يضحكون من القلب” (ص28) .
سيكون من اليسير – الآن – أن نجد جوابا ممهدا لسؤال البداية : لماذا يؤثر شاعر متمكن من أدواته أن يفضي بتجربته (لمرة واحدة) في شكل رواية ؟ فقد رأينا كيف صنعت أو ضفّرت جديلة واحدة من الشعر والحكاية الشعبية ، فكانت هذه الرواية المتموجة عبر التناص الديني ما بين عصر الوثنية إلى عصر الشخوص أمام الكعبة ، استلهاما ليقين الحلم وضرورة الصمود ، ولقد كان باستطاعة الشعر وحده – أو القصيدة بالتحديد – أن تقول هذا ، وأن تزرع هذا المعنى في وجدان المتلقي وقلبه ، ولكننا نعرف أن قدر الحرية المتاح لصانع الحكاية يتجاوز القدر المتاح لصانع القصيدة ، وقد تحركت موهبة سمير عبد الباقي بمهارة وخبرة بين النوعين ، فصنعت دراما شعرية ، في تشكيل روائي ، لا يناقض هذه الدرامية وإنما يغذيها بأقوى روافدها : المكان الواحد ، والزمان الذي لا يتكرر ، والطفل النزق الجميل الذي لا يكف عن إرسال أحلامه في كل اتجاه .