أطباء .. أدباء
أطبـــاءٌ .. أدبــــاء
“الأطباء الأدباء” موضوعٌ مثير ، متعدد الجوانب . وإذا كان يأخذ في عصرنا صورة الظاهرة ، لكثرة الأطباء المشتغلين بالأدب ، من الشعراء ، وكتّاب المسرح ، والقصة ، فإن هذه الظاهرة ليست بالجديدة ، بل كانت موجودةً في عصور وبيئات مختلفة، ويكفي أن نعود إلى كتاب “العمدة” لابن رشيق ، لنجد عنده اقتباسات كثيرة من شعر العلماء ، وقدلا يكون هؤلاء العلماء من الأطباء بصفة خاصة ، وقد يكون أكثرُهم من الفقهاء والنحويين ، ولكننا سنجد بينهم أطباء أيضا ، وهنا يمكن أن نستعين بمصدر آخر ، مثل : “طبقات الأطباء” ، لابن أبي أصيبعة ، وسنجد لعدد وافر منهم قصائد وحكايات ، ومن اشهر أشعارهم قصيدة الشيخ الرئيس ابن سينا ، وهو طبيبٌ فيلسوف ، ومطلعها :
هبطت إليك من المحلّ الأرفع
ويقصد بالتي هبطت : النفس الإنسانية ، والقصيدة طويلة ، ومعدودة في الشعر العالي القيمة ، بالنسبة للتراث الشعريِّ العربيّ .
في عصرنا الحاضر كثُر الأدباء من بين الأطباء بصفة خاصة ، وأذكر عبارةً قالها عميدُ الأدب العربي ، الدكتور طه حسين ، وهو يكتب عن يوسف إدريس ، حين لمع نجمُه في عالم القصة ، عقب ظهور مجموعته الأولى : “أرخص ليالي” ، والعبارة تقول إن في الأدب متعةً لا يمكن الاستغناء عنها ، ولا مقاومة إغرائها ، بدليل إقبال الأطباء على الأدب ، مع أن الطبَّ – كما يقول طه حسين – مهنةٌ ممتعة ومشبعة .
إنني أحب أن أتناول هذه الظاهرة _ إذا أمكن أن تعتبر كذلك – بشيء من التفسير، لا لأنها أمرٌ واقع ، نبحث له عن أسباب ، فهي موجودةٌ ، دون افتعال ، ولكن ، لنحاول تحديد حجم ، وشكلِ العلاقة بين الأديب ذي الثقافة العلمية ، أو الطبية ، على وجه التحديد ، وبين الأدب ، كصناعة ، لها موروث ، وتحتاجُ إلى خبرةٍ من نوع خاص ، بعد تحقق شرطِ الموهبة بالطبع .
وقد يحسنُ أن نتذكر ، أنه في الربع الأخير من القرن الماضي ، في أوربا ، كانت الحركة الرومانسيةُ قد استهلكت قدرتها على التجديد ، ولم تعُدْ تناسبُ عصر العلْم ، ومن ثم راحت تتراجعُ أمام تقدم أسلوبٍ جديد ، أو مدرسةٍ أدبية جديدة ، هي المدرسة الواقعية. ويذكر مؤرخو المدارس الأدبية ، أن كتاب “مقدمة في الطب التجريبي” ، الذي ألفه طبيبٌ فرنسيٌّ يدعى كلود برنار ، كان من أسباب التفات الأدباء هناك ، إلى المنهج الواقعي ، وما يتطلب من اهتمام بالواقع المادي ، ومقاومة شطحات الخيال ، وإيثار التحليل العلمي للطبائع والسلوك .
هذه بدايةٌ ، أو رابطةٌ قديمة ، تستحق أن نذكرها ، لعلّها أن تفسّر لنا سببا خفيًّا وجليًّا معا ، من أسباب ظاهرة : الأطباء الأدباء . “فالإنسان” هو الموضوع المشترك ، قد يتجه الطبيب إلى كشف أسرار الجسد ووظائف الأعضاء وانحرافاتها عن السويّة ، وقد يتجه الأديب إلى كشف أسرار النفس ، وأزمات الشعور ، وانحرافات الفكر ، ولكنْ : هل يُنكر واحد من الفريقين أن النفس والجسد يتعايشان ، ويتكاملان ، بالتوافق ، أو بالمخالفة ، دون أن نتصور إمكان افتراقهما ؟! وهل يمكن أن تقتصر المعالجة الطبية على الجسد وحدّه ؟ والأعصاب : ما موقعها ؟ وهل هي عضو ، أو شعور ، ومن الذي يعالجُها : الطبيب ، أم الأديب ؟ أم أنها مساحةٌ مشتركة ، استدرجت الأطباء ، لأن يكونوا أدباء ، حين توافر لهم شرطُ الموهبة ؟
هناك أسماء عالمية ، في الفن القصصي بصفة خاصة ، لابد أن نذكرها ، حتى وإن حاولنا أن نتجنب إثقال هذه الدقائق بالأسماء . نذكر تشيكوف ، وهو أحد اثنين يمكن القول إنهما اللذيْن وضعا أسس فن القصة القصيرة . كان تشيكوف في روسيا ، وموباسان في فرنسا ، متعاصريْن تقريبا ، ويسيران في نفس الطريق أيضا ، وهما من دعائم المنهج الواقعي . والنظرةُ الحيادية ، في تصوير الواقع ، والاهتمامُ بالتفاصيل الصغيرة ، والتقاطُ المشاهدِ العادية المألوفة ، والكشف عما تنطوي عليه من مغزى إنساني ، هو السمة المميزة ، لقصص تشيكوف ، ومسرحياته على السواء . لقد كان تشيكوف يدعو صراحةً – بالنسبة للقصة القصيرة ، وربما للفن بعامة ، أن يكون تصويرا لناسٍ عاديين ، في ظروف عادية !! هل يمكن أن نلمح أثرا ، أو شرطا من شروط التجربة العلمية في صياغة هذا المبدأ ؟ إن شرط نجاح التجربة أن تكون موضوعية ، ليست نابعة من تصوّرٍ مفروض ، بل من تصورٍ مفترض ، يلتمس البرهان ، وقد يجدُه ، وقد لا يجده ، وشرطُ التجربة أن تجرى في ظروف طبيعية تماما ، لكي تعطى نتائج صحيحة . نتذكر الآن أشهر مسرحيات تشيكوف : بستان الكرز ، أو الخال فانيا ، فنجد الحياة تجري على رتابتها ، وتفرض قوانين تطورها ، أو نموّها ، بهدوء ، دون صراخ . ويمكن أن نتأمل أسلوب تشيكوف الهادئ ، في هذا الاقتباس الذي نختاره من الصفحة الأولى ، من قصة له ، عنوانها : “حياتي” ، وهي مروية بضمير المتكلم :
قالي لي المدير :
” لستُ أحتفظ بك إلا احتراماً مني لأبيك الفاضل . ولولا ذاك لجعلتك تطير من هنا منذ عهد بعيد ..”
فأجبته :
” إنك تغدق عليّ المديح بأكثر مما أستحق ، يا صاحب المعالي ، حين تفترض أني قادرٌ على الطيران ! ”
وعندئذ سمعته يقول :
“أبعدوا هذا الرجل عني . إنه يثير أعصابي “
وبعد يومين اثنين سُرحت من عملي . وهكذا خسرت ، خلال السنوات التي اعتُبرت فيها شاباً أو رجلاً ، تسع وظائف كان فقداني لكل منها يوقع الهمّ والحسرة في نفس والدي ، مهندس بلدتنا المعماري . لقد خدمت في دوائر مختلفة ، ولكن كلا من تلك الوظائف التسع كانت تشبه أختها كما تشبه قطرة الماء قطرة الماء . كان يتعين عليّ دائما أن أقعد ، وأكتب ، واستمع إلى ملاحظات فظة أو بلهاء ، وأقيم على عمل ذلك حتى سُرحت .
وحين دخلت على أبي كان غارقا في كرسيّ منخفض ذي ذراعين ، وكانت عيناه مغمضتين . وكان وجهه الجاف المهزول ، الذي يزين على الجزء الحليق منه ظلٌ أزرق داكن (كان يبدو أشبه ما يكون بأحد عازفي الأرغن الكاثوليك) ينم عن الاستسلام والإذعان . ومن غير أن يستجيب لتحيتي أو يفتح عينيه ، قال :
“لو كانت امرأتي العزيزة وأمك حية ، إذن لكانت حياتك مصدر أسى موصول لها . إني لأرى لطف العناية الإلهية في موتها المبكر” .
ثم إنه فتح عينيه ، وأضاف :
“أتوسل إليك ، أيها الغلام التاعس ، أن تقول لي : ما الذي يتعين عليّ أن أعمله بك ؟”
في الأيام الخالية ، حين كنت أنضر عوداً ، عرف أصدقائي وأنسبائي ما الذي يتعين عليهم أن يعملوه بي : كان بعضهم ينصح لي بأن أتطوع في الجيش ، وبعضهم بأن ألتمس عملاً في صيدلية ، وآخرون بأن أحصل على وظيفة في إدارة التلغراف . أما اليوم وقد عدوت الخامسة والعشرين من العمر ، وأخذ الشيب يطلع رأسه في صدغيّ ، والتحقت بالجيش وببعض الصيدليات وبإدارة التلغراف ، فالذي يبدو أن جميع الإمكانيات الأرضية قد استنفدت ، وأقلع الناس عن إسداء النصح إليّ ، فهم يكتفون بأن يتنهدوا ويهزوا رؤوسهم ليس غير .
* * *
أما الكاتب الثاني ، بعد تشيكوف ، فهو الأديب الإنجليزي سومرست موم ، وهو يشارك زميله الروسي ، في أنه طبيبٌ مثله ، وواقعي أيضا ، مع الاعتراف بوجود فروق واختلافات في إطار الرؤية الواقعية ، ومتنوعُ الاهتمامات ، وإن استأثرت القصص بالكمّ الأكبر . وسومرست موم أضاف إلى تجربته العلمية كطالب طب ، كثرة الأسفار ، وكانت أول رواياته “ليزا أف لامبث” ثمرةً لدراسته الطبية ، فقد كان يتدرب في أحد مستشفيات لندن ، ولاحظ شخصية تلك الفتاة ، وشاهد عن كثب قسوة الفقر ، ومعاناة الفقراء ، فهو مثل الواقعيين جميعا ، ينطلق من حادثة حقيقية ، أو شخصية مشاهده ، له بها قدر من الخبرة القريبة ، ثم .. يأتي الخيال ليشكل هذا الواقع ، ويستخرج منه المعنى ، أو المغزى .
والطريف حقا ، أن سومرست موم ، في مدخل بعض رواياته ، يسجل رأيه هذا في العلاقة بين الواقع والخيال في التجربة الفنية ، وكأنه يقدم دراسةً ، يمهد لها بتحديد المنهج الذي آثره في تطويرها ، والوصول بها إلى غايتها .
يقول “موم” في مقدمة :”حدّ الموس” :
لم اشرع في كتابة رواية وأنا في حيرة من أمري أكثر مما فعلت في هذه المرة ، فإذا ما سميتها رواية ، فما ذلك إلا لأني لا أعرف وصفا آخر أطلقه عليها ، فليس لدى إلا القليل لأقصه عليك ، ونهاية القصة ليست هي الموت أو الزواج . والموت يضع حداً لجميع الأشياء ، وهذا هو شأن الخاتمة الشاملة للقصة ، ولكن الزواج ينهي القصة على الوضع الصحيح تماماً أيضاً ، وليس من الفطنة في شيء أن يسخر المتحذلقون مما جرى العرف على تسميته بالنهاية السعيدة ، وإنها لغريزة سليمة تلك التي تغري عامة الناس بأنه بهذا يقال كل ما في حاجة إلى القول عندما يجمع القدر بين ذكر وأنثى ، بعدما يعانيان من تقلب وتحول ، فانهما يحققان وظيفتهما البيولوجية وينقل تأثيرها إلى الجيل الذي يخلفهما ، ولكني سأترك القارئ في الهواء ، إن هذا الكتاب يضم بين دفتيه الذكريات التي أحملها لرجل جمعتني به صلة وثيقة في فترات متباعدة ليس إلا ، ومعرفتي بما كان يلقاه هذا الرجل في هذه الفترات قليلة ، وأظن أن بوسعي أن أسد هذه الشفرات إذا ما لجأت إلى الخيال والابتكار بصورة معقولة مقبولة بما فيه الكفاية ، وبما يجعل قصتي أكثر تماسكا ولكن ليس لدي الرغبة لأن أفعل ذلك فإني أرغب في أن أدون ما أعرف مما لدي من علم .
* * *
لقد استبعدنا بالطبع ، أن نبحث في كتابات “تشيكوف” ، أو “موم” عن آثار مباشرة لمهنة الطب ، منعكسة على أدبيهما . وهذه الآثار موجودةٌ على أي حال ، ودون أن نخوض في تفاصيل ، نشير إلى الأسلوب ، الذي يحقق شرط الجمال اللغوي ، ودقة التصوير الفني ، وصدق َ الرصد للدوافع والانعكاسات ، ففي هذا الأسلوب يلتقي الطبيب والأديب ، في لحظة إبداعٍ من نوعٍ متميز .
* * *
يصل بنا المطاف إلى أطبائنا العرب ، الذين احترفوا الأدب ، وعُرفوا كأدباء ، وكتّاب ، فتجاوزوا حدود الهواية ، الهواة أكثر من أن نحيط بهم ، والذين حققوا الشهرة، بناءً على مستوى جودة الإبداع ، ليس عددُهم بالقليل .
ونضع ملاحظة أساسية ، سبقت الإشارة إلى بعضها ، وهو أنه ليس من الضروري أن يظهر أثر مباشر لمهنة الطب في إبداع الطبيب الأديب ، أو أن يكون هذا الأثر واضحا يمكن اكتشافه بغير تدقيق . ونضيف إلى هذه الجزئية أن للفنون المختلفة قوانين خاصة ، تُلغى قدرا من الفروق أو الميول ، التي تفصل بين كاتب وآخر . ويتأكد ما نقصدُ إليه ، ويكتمل ، حين نشير إلى أن الشعر – مثلا- لا يتيح فرصة واسعة لظهور الثقافة العلمية ، فالشعر بطبيعته يصدر عن تجربة انفعالية ، ويؤثر اللغة التصويرية ، وهو تعبيرٌ عن تجربةٍ ذاتيةٍ ، هي غالبا فردية ، تحاول أن تكتسب بالوسائل الصياغية صفة العموم . لهذا ، قد لا نجد شخصية الطبيب واضحةً بازغةً في أشعار أحمد زكي أبي شادي مثلا ، أو إبراهيم ناجي ، ويؤثر الأسلوب التحليلي ، يستطيع أن يتسع من الناحية الموضوعية ، والصياغية معا ، لآثار الثقافة العلمية ، وممارسات الطب ، كما نرى بوضوح عند يوسف إدريس ، ونسبيا عند جاسم الهاشمي .
* * *
أحمد زكي أبو شادي هو مؤسس جماعة أبوللو ، وأحد أعمدة التجديد في الربع الثاني من هذا القرن ، بالنسبة للشعر الحديث . درس الطب في انجلترا ، وعاش هناك نحو عشر سنين ، وتزوج من هناك أيضا ، فكان لهذا كلِّه آثارُ واضحة في أسلوبه ، وتنمية قدراته ، وتنوّع الأشكال الأدبية التي تعامل معها . تخصص أبو شادي في علم الجراثيم ، مع اهتمامه بالأدب ، فكان نشاطه مزدوجا إبان إقامته في انجلترا ، إذ أسس مجلة “عالم النحل” ، كما كان سكرتير “جمعية آداب اللغة العربية” التي أسسها المستشرق “مرجوليوث” ومن الطبيعي أنه قرأ الأدب أو الآداب الغربية ، في تلك المرحلة المبكرة . وقد عاش أبو شادي في مصر ، قبل أن يهاجر منها إلى أمريكا ، مثل هذا النشاط المزدوج أيضا ، فقد كان وكيلا لكلية الطب في جامعة الإسكندرية ، ومديرا للمعمل البكتريولوجي ، ومع هذا فجماهيرُ الأدب ، والأدباء ، يعرفونه مؤسس جماعة أبوللو ، التي أخذت على عاتقها أن تكون بوتقة تفاعل بين الجديد والقديم ، كما يعرفونه شاعرا مبدعا له أكثر من ديوان ، وبحث ، ودراسة لغوية وأدبية .
في عبارات فلسفية رائعة ، يقرر أبو شادي فكرته عن الحياة ، والفن ، والعلم ، فيرى أن الأدبيات – بالنسبة إليه – بمثابة رياضة ذهنية ممتعة ، ثم يقول – وهي عبارة لها مغزى عميق : “وأحسب أني أفهمُ شيئا عن وحدة الحياة ، وأشعر أن الفارق بين الأدبيات ، والعلميات ، فارقٌ وهمّي ، ولذلك لا أوثر الانقطاع إلى الأدب ، وإني أستمدّ من حياتي العلمية غذاءً لنفس الأدبية ، كما استمد نظير ذلك من مشاهداتي ومطالعاتي ، وخبرتي ، وولوعي بالطبيعة” .
ويشير أبو شادي تحديدا إلى البيئة العلمية الطبية كمؤثر ، وسَّعَ من مجال تأملاته، وعمق أفكاره ، ويقدم دليلا على هذا أبياته عن “المجهر” حيث يخاطبه قائلا :
صحبتك عمراً في وفاءٍ ومتعــةٍ
فكنت لفنـــي ملهمــا ولأفكـاري
فكم من بيان لاح لي منك مـرشدا
وكــم مـن معـان قد وهبت وأسرارِ
ويُذهل قومٌ أن يحبــك شــاعرٌ
وما عــرفوا فنـي الدقيق وأشعاري
ففي كل مــرئي سـؤال ومبحثٌ
وللغيب نـــزاعُ الحنيــن وأوطاري
أرى فيك سر العيش والموتُ معلنا
مـــرارا وآلام الــوجودِ بتكــرارِ
فمثلك أستــاذٌ لِلبُى وخطــاري
وأكبـــر فنـــانٍ يخــصُّ بإكبارِ
ولست جماداً من نحاس ومجمـع
من العــدسات الهــاتكات لأستـارِ
إذا قلت كان القــولُ للعقل حجةً
ولــولاك ما اعتز الطبيب ولا الداري
وإن لم تبح حيــرت فكـرا منقبا
وحينا بمحض الصمت تفصح عن داري
* * *
ومهما يكن من رأينا في هذه القصية ، ذات الطابع الفكري الجاف ، وإن لم تخْلُ من تأمل فلسفي عميق الصلة بروح الشعر ، فإننا لن نجد مثل تلك العلاقة الموضوعية المباشرة ، عند شاعر طبيب آخر ، هو إبراهيم ناجي ، فعلى تعدد دواوينه ، وامتداد تجربته وممارسته للشعر ، نجده قد حصر نفسه أو فنَّه في الإطار الرومانسي ، ونادرا ما يتسلل التحليل العلمي أو الاجتماعي إلى أسلوبه في قصائده .
لإبراهيم ناجي قصيدة بعنوان “وداع المريض” وقد أهداها إلى “س” وهي المريضة
العزيزة ، التي قضى ليلة كاملة ، ساهرا على رعايتها ، ولعلنا نلمحُ إحساسا بالسعادة ، لمرض المحبوبة ، وقيامه بتمريضها ، انتهى إلى الحيرة والضياع ، حين جاء الصباح ولم تعد دوافع وجوده ملحّة ، فقد مضى ، بعد أن كتب القصيدة الوداعية ، وكأنه يتخوّف على طبقة أخرى من خوف الشفاء ، وليس خوف المرض :
فيم الغدو غدا وأين رواحـي
ويحَ الصباحِ ! لقد مضى بصباحي
عصفت علينا غيـر راحمة لنا
يا صفوة الأحباب ، أيُّ ريــاحِ !
عبثت بمعبود العيون وصيَّرتْ
كالورْسِ لونا تــوأم التُّفــاحِ
ذهبوا به كالورد جافـاه الندى
ومضوا به شبحــا من الأشباح
يا هاتفا باسمي فَدَيْتُ منـاديا
ردّ النداء عليــه حَـرُّ نُواحي !
* * *
وقد نجد عند إبراهيم ناجي قصائد ذات طابع تأملي ، يتجلى فيها التوليدُ ، والتدفيقُ ، والربط بين الجزيئات ، لاستخلاص رؤية نهائية . الموضوع “عام” جدا ، ويكفي أن القصيدة بعنوان : “الحياة” ، ولكنك ما تكاد تستمر في قراءتها حتى تجد ذات الشاعر ، هي التي تختار ، وتصبغُ بالألوان ، ومن ثم تستنتج . إنها قصيدةٌ عن الحياة في الشارع إذاً ، الحياة كما تبدو لعينين مكدودتين ضائعتين ، تبحثان لنفسيهما عن مكانٍ في الخضّم الدافق ، فلا تجدانه ، فسيان أن تعلم أو أن تجهل ، إن الفناء يرقبُ الموكب الزاحف ، والنارُ تترصد تحت الرماد ، وهذا المصيرُ القاسي ينتظر كلَّ أنواع الحُسن مهما تسامت ، وكلَّ أحلامِ البقاء ، مهما تمادت ؛ فالقبح ، والفناءُ ، والعجز هو ما تقوله حركة الشارع ، الصاخبة الجاهلة . وهذه النظرة المتشائمة للحياة بعض ثمار الواقع ، والمنهج العلمي ، ورصد المظهر في امتداده الزمني . وهذه بعض مقاطع من قصيدة :”الحياة” ، كما تبدو في الشارع :
جلستُ يوماً حين حلَّ المساءْ
وقد مضى يومي بلا مؤنسِ
أريح أقداماً وهتْ من عياءْ
وأرقب العالَم من مجلسي!
* * *
أرقبه! يا كَدّ هذا الــرقيب
في طيب الكون وفي باطلهْ
وما يبالي ذا الخضم العجيبْ
بناظر يرقب في ســاحلهْ
* * *
سيان ما أجهل أو أعلم
من غامض الليل ولغز النهارْ
سيستمر المسرح الأعظم
روايةً طــالت وأين الستـار
* * *
انظر إلى شتى معاني الجمالْ
منبثة في الأرض أو في السماءْ
ألا ترى في كل هذا الجـلال
غير نــذيرٍ طــالعٍ بالفناءْ!
* * *
لقد ساعدت الرؤية العلمية ، إن صح التعبير ، ساعدت إبراهيم ناجي على اكتشاف صور شعرية ، وأفكار ، غايرت المالوف ، أو عاكسته ، فكانت منتمية إلى صاحبها ، أكثر من انتمائها إلى المعجم الشعري المأثور . أضربُ مثلا تقريبيا لهذا بموقف الشاعر العاشق من الليل . والنظرة السائدة أن العاشق يكره الليل ، لأنه بصمتِه ووحشته يضع هذا العاشق أمام نفسه ، فلا يجد إلاّ تأمل أحزانه ، واستعادة مشاهد إخفاقه وحرمانه ، أما النهار ، فإنه يتشاغل فيه بالناس والحياة والأمل ، فالصورة المأثورة هنا يمثلها قول ابن الملوّح عن ليلى ، وحبه لليلى :
أقضي نهاري بالحديثِ وبالمنى ويجمعني والهمَّ بالليل جامعُ
أما إبراهيم ناجي ، فقد أعانه التأملُ والتحليل على مخالفة هذا التصوّر ، فالنهار يضعُهُ أمام الناس ، ويكشفُ للآخرين ما يعاني من قهر ، أما الليل فهو ستار ، إنه صديقٌ وفيٌّ ، لا ينمّ على صديقه :”وتولّى الليل ، والليل صديق ، وإذا النور نذير طالعٌ ، وإذا الفجرُ مطلٌّ كالحريق ” .
وهذا الاقتباس من قصيدة “الوداع” ، ومما يستطرف أن أمَّ كلثوم أخذتْه ، فوضعته في سياق آخر ، ضمن ما أخذته من مقاطع قصيدة “الأطلال” ، وكأنه منها .
* * *
حين نصل إلى الفنّ القصصي ، فإننا سنجد آثار الثقافة الطبية ، العلمية ، أقوى وضوحا ، لسببين ذكرناهما : أن الفنَّ القصصي مدين بوجوده – على الأسس التحليلية – للمنهج الواقعي ، ذي النزعة العلمية ، وأن القصة تنبعث من فكرة ، ولابد أن يكون لها موضوع ، هو موضوع خارجي دائما أو غالبا ، وليس مثل الشعر ، ينبعث من حالة وجدانية . لعلنا نتذكر مجموعة قصصية للأديب المرحوم الدكتور سعيد عبده ، الذي كتب الشعر والزجل أيضا ، أما مجموعته القصصية ، فكانت بعنوان : “هياكل في الريف” ، وفيها يصوّر الآثار البشعة للبلهارسيا على جمال النساء ، وفتوة الرجال في الريف .
والظاهرة أكثر امتداداً عند يوسف إدريس ، بل إنه أحق الأدباء بأن يوصف بأنه الذي عمّق مجراها ، وجعل منها ظاهرة .
في مجموعة يوسف إدريس القصصية الأولى ، بعنوان “أرخص ليالي” نجد الرصد العلمي تعلل المجتمع ، وقصة “أرخص الليالي” التي حملتْ المجموعة اسمها ، تفسر كثرة النسل في الريف ، بانعدام وسائل الترفيه الأخرى ، وغياب الجمال ، وسيادة الفقر والقبح. وفي المجموعة يظهر أكثر من طبيب ، ففي مرة يلتقي التلميذ – الذي كبر – بأستاذه القديم في القطار ، كان الأستاذ مدرسا للرياضة في المدرسة الثانوية ، وحين يلتقي بتلميذه القديم ، لا يريد أن يصدق أنه أصبح طبيباً ، المدرس مثل الأم ، لا يتصور أن أبناءَه يكبرون ، أو يمكن أن يتجاوزوه ،
” وسألته عن طلبة هذه الأيام وأنا أضحك ، فلم يجبني ، وإنما أخرج منديله العتيد من جيبه ، ودعك أسنانه ثم بصق من النافذة .
وذكرته بحكاية زعيم الكيمياء فابتسم لأول مرة ، وأخذ ينصت باهتمام حين قصصت عليه كيف دخلت مسابقة الكيمياء وكنت الأول ، وكيف التحقت بكلية الطب وتخرجت ، ولي سنين وأنا طبيب ..
وحين وصلت إلى هذا الحد ، انفجر في ضحكة طويلة اهتزت لها كل أرجاء جسده ، وزغدني في كتفي وهو يقول :
- يا شيخ اتلهي ! .. اتلهي ! ..
وحتى حين أطلعته على بطاقتي الشخصية وأنا أقول له :
- كل ده بفضلك ..
بان عليه حرج كبير وضرب كفا بكف وهو يقول :
- في المدة القصيرة دي .. تبقى دكتور .. دكتور ! ..
فقلت مرة أخرى :
- كل ده .. بفضلك .
وكنت أقولها في حماس الصبي الذي كان في دمياط ، وفي رهبة الفتى أمام أستاذه ، وفي تلعثم المبتدئ حين يقابل الفنان الذي وصل .
وطول المدة التي أمضاها في مدرستنا ما رأيت الحفني أفندي سعيدا أبدا ، ولذلك التي تفرست في ملامحه وقد بان فيها تعبير بدائي عن سعادة تطرق وجهه ربما لأول مرة .
وأخذ يفرك كفيه ، ويطبطب على فخذه ، ثم يروح بالجريدة عن وجهه الذي احتلته ابتسامة واسعة بانت لها أسنانه وقد أسود صفارها القديم .
وبين الفينة والأخرى يردد :
- والله عال .. أهو واحد من دمياط نفع .. والله عال .. واحد نفع ..
وأقول له أننا كلنا نفعنا ، ولكنه لم يكن معي ، وإنما كان يستغرقه شعور قوي يشيع فيه أحاسيس لا عهد له بها .
وجاءت المعادي ، وكان ينسى أنها محطته ، وشد على يدي بحرارة وهو يشكرني بأنصاف كلمات ، ولا أدري على أي شيء كان يشكرني ، وودعته حتى باب العربة وابتعد القطار بي ، وهو يلوح بيده ، وفرحة كبيرة تقلقل خطواته ، والابتسامة تتموج في وجهه، وسعادة غامرة تطفح من عينيه ..
كأن الطفل الذي نجح لتوه في الشهادة الابتدائية .
* * *
والقصة بهذا تجمع في ذكاءٍ بين التجربة الشخصية ، والموقف الفكري ، فهي تبدأ بنظرة مرتابة يائسة ، وتنتهي إلى التفاؤل ، فإذا كان هذا المدرس الكادح ، يعاني شخصيا، ويعيش حياة محرومة قاسية ، مملوءةً بالتجاهل لكفاحه الصامت ، فإنه – من حيث لا ينتظر ، ولا يتوقع ، يجد ، وإن يكن بطريقة عابرة – من يحسد له أملا ، وعرفانا، وتقديرا .
وتتوالى القصص التي تظهر فيها آثار المهنة ، ممارسة الطب ، والعلاقة بالمرضى ، في “أبو سيد” نرى رجلا من قاع المجتمع ، شرطي مرور ، قد وصل إلى السن التي تؤثر على حياته الزوجية ، ونراقبه وهو يهرب من مصيره ، بالأدوية ، والأدعية ، والأحجية ، والسحر ، ثم لا يكون إلا التسليم بزحف الزمن ، والرضا بالأمر الواقع ، وتعليق آمال الفحولة ، على ابنه سيد ، الذي يمثل بعثا جديدا لقوى الأب المستلبة .
وفي قصة “مشوار” يقدم صورة إنسانية لشرطي آخر ، كان يرافق امرأة مجنونةً ، من الريف ، ليودعها مستشفى الأمراض العصبية في القاهرة ، واضطر إلى قضاء الليل في حماية مقام السيدة زينب ، رضي الله عنها ، حيث لم يجد مكانا للمبيت ، وفي كل هذه القصص ، يتغير موقف الشخصية ، في النهاية ، إلى نقيض ما بدأت به . وفي قصة “شغلانه” يتعرض لتجارة بيع الدم ، التي يلجأ إليها بعضُ المتعطلين ، وآثارِ هذه التجارة على وضعهم الاجتماعي ، والصحي .
ومن أطرف تجارب مجموعة “أرخص ليالي” قصة بعنوان :”ع الماشي” ، وهي تبدأ بمحامٍ يركب الأتوبيس الصحراوي من الإسكندرية إلى القاهرة ، وهو يتوجّس خيفةً من أنه كلما جلس في مكان ، كالأتوبيس مثلا ، وجرى حديثٌ بينه وبين جاره في المقاعد ، على سبيل تسلية الطريق ، فإن هذا الجار ، بمجرد أن يعرف أنه محام ، فإنه يستغلّ على الفور هذه العلاقة الموقوتة ، بسؤاله في فتوى قانونية كانت تشغله . هكذا ركب المحامي الأتوبيس وهو يستحضر عدد المرات التي استغله الناس فيها ، بفتاوى عابرة ترهقه وتضايقه .. ولكنه ، وبعد أن ركب ، وجد جاره طبيبا ، ومن ثم اتجه حوارُهُ معه إلى الطب، وعندما بلغ الأتوبيس محطة للراحة في منتصف الطريق ، في الرست هاوي ، جرى الكلام بين الرجلين مناصفة ، ولكن ، عندما بلغ القاهرة ، كان الأول .. تحوّل ، وجرى الحديث في اتجاه مغاير :
- إلا حضرتك بقى دكتور في الطب .. وإلا في ..
وحين وصلت العربة إلى القاهرة وغادرها الركاب كان الأستاذ لازال يقول للطبيب:
– لا .. لا .. متتعبشي نفسك .. بلاش روشتة .. آدي القلم والورقة .. اسند هنا على ضهر العربية .. بس والنبي عايز دوا يقضي عليه .. دا مغلبني قوي الصداع ده .. زي ما قلت لحضرتك .. من سنة 36 .. والروشتات أهيه .. أوعى أكون ضايقتك يا دكتور .. والنبي ؟!. متشكرين .. متشكرين قوي .. بقى حضرتك بتشتغل في إسكندرية .. يا سلام عالصدف السعيدة .. يا سلام !! .
* * *
إن منهج التحليل عند يوسف إدريس يأخذ امتداده في الروايات ، ويكفي أن نتذكر رواية “الحرام” التي كتبها عن عمال التراحيل ، العمّال الموسميين ن وصوّر فيها معاناة الطبقة الدنيا ، حتى من طبقة مستغلّة مثلها ، ولعبت الخطيئةُ ، ولعب المرض فيها دورا بنائيا ، ما كان يتيسر إلاّ لكاتب ، له معرفة واسعة مطمئنة ، بعلوم الطب .
أما الدكتور جاسم الهاشم ، الذي يشغل منصبا مرموقا في كلية الطب ببغداد ، فإنه يكتب عدة روايات ، من أهمها رواية بعنوان :”أم الشينّ” ، و”أم الشين” قرية في منطقة الأهوار ، في جنوب العراق ، قرية تعاني الجفاف رغم قربها من النهر ، وتعاني الفقر المادي ، والجهل ، وإن تكن حياتُها الروحية عامرة بالرموز ، والقصص ، والأساطير ، التي تنظم وجدان الجماعة .
لم تأخذ الدراسة الطبية ، أو ممارسة الطب مكانا في رواية “أم السين” ، فالرواية مكتوبة بأسلوب شاعري ملحمي ، وتصور الحياة الروحية لهذه الجماعة القريبة من البدائية ، وكيف بدأ اتصالهم بالحياة العصرية ، عن طريق المدرسة قبل كل شيء . فالمدرسة وإن تكن ليست أكثر من ساحة من البوص ، أقامها السكان أنفسهم ، جاءت إلى القرية بعدد من المدرسين ، وجاءت بالعلم ، وعرف الأطفال ، وآباؤهم أن هذا علم العراق ، وهتفوا في طابور الصباح باسم وطنهم ن بل عرفوا عن هذا الطريق أن هذه القرية المعزولة جزءٌ من كلٍّ كبير ، اسمُه الوطن ، أو اسمه العراق .
ليست الرواية مجرد سر ، أو مرآة لرصد التطور الحضاري والاجتماعي ، ففيها الحب ، والجريمة ، والحياة الروحية السامية ، والمغامرة ، والتمرد ، والموت ، ومن كل هذا الخليط ، جاء الطابع الملحمي ، البطولي ، والمغزى الاجتماعي ، على السواء ، وهذا الطبيب الذي ألفها ، مثلُ كثير من الأطباء الذين احترفوا الأدب ، ينطوي على روح شاعرة ، وحلم إنساني ، يرفض أن يكون الإنسان مجرد جسد ، حتى وإن كان يدرس الجسد ، إنه روح ، بل روح عظيمة ، قبل أن يكون جسدا ، ولأنه كذلك فإنه يحلم ، ويتطلع ، ويتمرد ، ولا يمتنع أن يضحي بذاته الفردية من أجل بقاء أنقى ، وأرقى .