الكعبة .. كما تراها العيون

الكعبة .. كما تراها العيون

الكعبة .. كما تراها العيون

الكعبة ، بيت الله الحرام ، تلتقي على أركانها ملايين العيون الخاشعة في أي لحظة من ليل أو نهار ، تطوف بها القلوب الضارعة ، منذ بداياتها الضاربة في غموض الاحتمالات ، فاكتسبت قوة الرمز المقدس ، واحتضنت معنى توحيد الخالق ، وتوحّد البشر . يدل وصف “القرآن الكريم” لعمل إبراهيم وإسماعيل أنه استئناف أو تجديد لعمل سابق : )وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل( وفي تفسير ابن كثير للآية الكريمة : ) وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود( يقول : ” وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة . فقيل : الملائكة قبل آدم ، ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة . وقيل آدم عليه السلام ، رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضا ، وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدَّق ولا يكذَّب ولا يعتمد عليها بمجردها ” . وهكذا ترك ابن كثير قضية “البدء” معلقة . أما الأبشيهي – الباحث عما يستطرف من كل فن مستظرف – فيروي أن آدم حج البيت فلما قضى منا مناسكه لقيته الملائكة ، فقالوا : يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفيْ عام .

 

ويذكر الأبشيهي أيضا خبرا يقرر أن ” الحجر الأسود” ياقوتة من يواقيت الجنة ، وأنه يبعثه الله يوم القيامة وله عينان ولسان ينطق به ، يشهد لمن استلمه بحق وصدق!! 

 

هذه البداية الضاربة في الزمن ، وهذا الاستمرار المتحدي ، في موقع لم يألف العمران ، اكسب الكعبة قيمة رمزية عالية ، ودرجة من التقديس تجاوزت بها “بيوتا” أخرى ، وقضت عليها ، والكعبة – من حيث هي بناء هندسي – أعيد بناؤها وتغيير درجة ارتفاعها وأطوال أضلاعها أكثر من مرة ، (يراجع في هذا كتاب الأديب السعودي أحمد السباعي ، بعنوان : مكة) لكن البساطة في الخطوط ، والتوازن في الشكل ، والحفاظ على المكوّنات الأولى قوّى مبدأ التجريد ، والكمال ، وتجاوز القياس بالزمن .

 

في تاريخها القريب من عصر الإسلام تحيط بالكعبة أحداث طريفة ، تختلط فيها المعجزة ، بالنادرة ، بالسخرية ، كما يتولد المشهد التراجيدي في صميم الموقف الكوميدي ، إذ يذكر المسعودي (في كتابه :مروج الذهب) أن الكعبة كانت في رعاية قبيلة خزاعة ، وأن فتح بابها وغلقه انتهى إلى رجل يعرف بأبي غبشان الخزاعي ، فتنازل أبو غبشان عن هذا الحق ، أو باعه لقصيّ بن كلاب (جدّ الرسول) ببعير وزقّ خمر !! وتروي العرب في هذه الحادثة العجيبة – المثيرة للقلق والشك – شعرا ، على أساس مقولة “أن الشعر ديوان العرب” : اللغوي ، وأنه – كذلك – مصدر توثيقي لأهم أحداث زمانهم قبل عصر التدوين . أما هذا الشعر الذي يدعي توثيق “تنازل” ذلك الخزاعي السكير عن رعاية الكعبة ، فيقول :

أبو غبشان أظلم من قصيّ      وأظلم من بني فهر خزاعه

فلا تلحوا قصيا في شـــراه     ولوموا شيخكم إذ كان باعه

وقد هجيت خزاعة بهذه البيعة الخاسرة ، ولم تعد لمفاخرها القديمة قيمة :

إذا افتخرت خزاعة في قديم     وجدنا فخرها شرب الخمور

وباعت كعبة الرحمن جهــرا      بزقّ ، بئس مفتخر الفخــور

 

هذا التناقض في بيع الجليل بالحقير سلوك “فني” وليس شرطا أن يكون تاريخا ، وله نظائر وأشباه في “ديانات” أخرى ، كتقديس قدماء المصريين للجعران ، لأن “الحياة” تتخلّق في “الروث” ، وكأن يروى أن المسيح عليه السلام ولد في “مزود” !!

 

وحين هاجم أبرهة مكة يريد هدم البيت ، يتقدمه فيله الضخم لإرهاب فرسان الخيل ، روى المسعودي القصة ، وسجّل ما قال عبد المطلب من شعر ممكن ، أو منتحل. والمقابلة بين الرجلين ترسم مشهداً “تفاوضيا” من طراز رفيع . قال أبرهة : سلني يا عبد المطلب .

فأبى أن يسأله إلاّ إبلا له ، فأمر بردها عليه ، وقال له : ألا تسألني الرجوع ؟ فقال : أنا رب هذه الإبل ، وللبيت رب سيمنعه منك . وفي “مروج الذهب” أن عبد المطلب انصرف إلى مكة وهو يقول :

يا أهل مكـــة قد وافــاكم مــلك       مع الفيول على أنيابها الزَّرَدُ

هذا النجاشي قد سارت كتائبه       مع الليوث عليها البيْض تتّقدُ

يريد كعبتكـــم ، والله مانعــــــه       كمنـــــع تبَّــع لما جاءها حَرَدُ

حصافة عبد المطلب تتجلى في أنه لم يسأل خصمه الرجوع ، فهو يدرك أن هذا مطلب مستحيل إلا بتحقيق الشرط ، هدم الكعبة ، وهو ما لن يوافق عليه ، هنا يؤدي ثبات الأعصاب دوره ، في شكل يقين ديني .

 

ولم يكن فيل أبرهة الفيل الوحيد الذي قارب الكعبة بقصد إرهاب أهلها ، ففي عام 730هـ حج الركب العراقي ومعهم فيل يقول عنه أحمد السباعي (في كتابه : مكة – ج1 –ص246) إنه وقف معهم في جميع مواقف الحج ، ثم اصطحبوه إلى المدينة ، ولكنه مات قبل أن يبلغها بأقل من مرحلة !! وهكذا لم يكن حظ فيل العراق خيرا من حظ فيل الحبشة !!

 

هذه إشارات سريعة تتصل بالكعبة ، والمسجد الحرام ، المحيط بها ، وما يكنه المسلمون عبر الأزمنة لهما من الحرمة والتقديس . من وجهة أخرى ترتبط الكعبة بمكة ، فهي قطعة من مساحة جغرافية محددة ، أو محدودة ، لكنها قطعة متميزة ، لهذا تسابق الناس في البناء حولها ، والزحف عليها ، بدرجة مفسدة لمشهدها ن وقد وصف ابن جبير في رحلته (عام 578هـ) أن البيوت كانت تلاصقها دون فراغ يذكر ، في بعض الجوانب ، بل تشعر عبارة ابن جبير أن بعض الناس كانوا يبيتون فوق الحرم ويبردون الماء في شرفاته ن وبدلا من أن يستنكر فعلتهم يعتبرهم في “عبادة” لأنهم يشاهدون البيت العتيق !! يبدو أن “الألفة” تفعل فعلها في النفوس ، فإذا كان المسلمون يتجشمون الأسفار للطواف والسعي ، فهذا ابن جبير يصف واقع المسعى كما رآه . يقول :”وما بين الصفا والمروة ميل ؛ هو اليوم سوق حفيلة بجميع الفواكه وغيرها من الحبوب وسائر المبيعات الطعامية ، والساعون لا يكادون يخلصون من كثرة الزحام ، وحوانيت الباعة يمينا وشمالا ، وما للبلدة سوق منتظمة سواها ، إلاّ البزازين والعطارين ، فهم عند باب بني شيبة ، تحت السوق المذكور وبمقربة تكاد تتصل بها” .

 

هذه إذًا طبائع المكان ، والمستوى الحضاري للسكان تفرض نفسها وتستجيب لحاجتها ن لا تفكر كثير فيما وراء ذلك . ويذكر ابن جبير أيضا أن السيول كانت إذا تجمعت في جبال مكة واندفعت إلى المساحة المنخفضة ، التي تشغلها الكعبة ، فأحاط الماء بها ن طاف الناس سباحة !! ويذكر أن هذا ظل يحدث حتى عصر الخليفة المهدي (العباسي – توفي 169 هـ) فصنعت سدود لدرء السيل . وإذا كان تاريخ الملاهي وبيوت القيان (في مكة) مذكورا مسطورا في العصر الجاهلي ، فإنه لم يتراجع إلا قليلا ، ليعود إلى بيوت الأثرياء في العصر الأموي ، بفعل الثراء (من الأموال المستجلبة من الفتوح) والفراغ ، فأهل البوادي لا يعملون ، وإلى اليوم لا يحترمون العمل اليدوي بصفة خاصة . ويسجّل أحمد السباعي – الأديب السعودي – في كتابه الشامل – محاولات تعديل “شكل” الكعبة عبر الدول ،و مرات توسيع الحرم المكّي ، بشراء الدور حول المسجد وضمّها إليه ، كما يسجّل لنا أن الغناء والرقص على المزمار والطبول شيء مألوف في مكة ، “وكان بعض النساء يعمدن إلى الشعاب البعيدة ويعقدن حفلاتهن على صوت المزمار والطبل (في أزمنة ماضية) وأكثر ما يتمتعن بحريتهن في اللعب أيام عرفات ومنى ، حيث كانت تخلو البلدة بالمتخلفات منهنّ عن الحج “!!

 إن مثل هذه الإشارات “الإنسانية” تكبح جماح التخيّل المثالي أن أهل الأماكن المقدسة في أي مكان ، في أي عصر ، تحت راية أي عقيدة ، هم من الملائكة ، لم يكن هذا ، وليس له أن يكون ، فالبشر … بشر ، والألفة تفقد الأشياء كثيرا من روعتها ن فإذا كان الراغبون في أداء الفريضة يصعدون إلى عرفات ومنى لأداء الشعائر ، فإن هذه بذاتها فرصة أهل الظرف والفرح بالحياة أن يحظوا بمدينة متخففة ، ساكنة ، استراحت من “الرقيب” ، ولو لبضعة أيام !!

 

على أن الحج نفسه ، بما فيه الطواف ، شهد تأجج المشاعر ، وتلصص النظرات، وتصاعد زفرات العشاق ، ودعوات المهزومين في معارك الغرام . يصف عمر بن أبي ربيعة ما يجترح من مزاحمة الطائفات ومطاردتهن بالقصائد والنظرات ، فيقول :

يذهب الناس للطواف احتساباً      وذنوبي مجموعة في الطواف

 

أما الحارث المخزومي المعاصر له فيكتفي بأن يصف أثر أشواط الطواف السبعة ، وكيف تؤدي إلى ضمور بطن المرأة ، إذ يقول :

ففرغن من سبع وقد جهدت      أحشاؤهن موائل الخُمُرِ

 

وقد أنكرت عليه سكينة بنت الحسين هذا الوصف ، إذ تحبّ أن ترى خصر المرأة ضامرا ، يميل عنه الخمار ، دائما وطبيعيا ، وليس لما بذلت من مشقة الطواف ، فانتقدت الشاعر قائلة : “والله لو طافت الإبل سبعا لجهدت أحشاؤها”!!

 

ومثل عمر بن أبي ربيعة ، الذي يعود من الطواف وقد جمع ذنوبا جديدة ، مثله أبو نواس ، بل يزيد عليه ، إذ يعترف :

ألم ترني وموسى قد حججنا       وكان الحجّ من خير التجاره

فآب النـــاس قد برّوا وحجـوّا       وأُبنا موقرين من الخسـاره

 

أما “أبو علي البصير” فإنه لم يكمل رحلته إلى مكة ، إذ صادف ما أغراه بتأجيل أداء الفريضة ، وهو يقدم “اعترافه” بصراحة ، ولغة مألوفة ، غنائية :

أتينــا بعـــدكــــم مكـــة      حجـــاجـا وعمّـــــارا

فلمـــا شــــارف الحيــر     ة حـــادى إبـــل حارا

فقلت:احطط بها الرحلا      ولم أحفل بمن سارا

وجــــــدّدنـــا عهـــــودا       أخلفـت منــا وآثــارا

فصادفنـــــا بهـــا ديـرا      وبستــانــــا وخمــارا

وظبيــا عـاقــدا بيـــــن    النقــا والخــصـر زنارا

إذا جـــاذبتــه حـــــارا     وإن حـــاكمتــــه جارا

كشفنــا لـك أخبــــاراً     ودامجنـــاك أخبــــارا

 

هؤلاء بعض “الخاسرين” الذين غلبتهم ملاهي الدنيا على التفرغ للعبادة بضعة أيام، أما اشهر العشاق اللاجئين إلى الكعبة يلتمسون عندها الشفاء من “جنون” العشق ، فهو قيس بن الملوح الذي نجد أخبار حبه لليلى ، وما قال فيها من شعر في صدر الجزء الثاني من كتاب “الأغاني” . في البداية سنجد قيسا يراقب ليلى ، ويزاحم في موقع رمي الجمار ليحظى منها بنظرة ، فلم يفز بغير رؤية أناملها وهي تقذف بالحصى ، لكن هذا كان (بالنسبة إليه) كافيا لإضرام نار الهوى :

فلم أرد ليلـــى بعد موقف سـاعة     بخَيْف منىً ترمي جمـــار المحصَّبِ

ويُبدي الحصــى منها إذا قذفت به     من البُرْدِ أطراف البنــــان المخضَّبِ

فأصبحــتُ من ليلى الغداةَ كنـاظرٍ     مع الصبح في أعقـاب نجم مغــرِّبِ

ألا إنمـــا غـــــادرتِ يا أمَّ مــالــــكٍ     صدى ، أينما تذهب به الريحُ يذهبِ

 

وكما ذكر الأصفهاني ، فقد قال الحيُّ لأبيه (أبي قيس) : أحجج به إلى مكة ، وادع الله عز وجلّ له ، ومره أن يتعلق بأستار الكعبة ، فيسأل الله أن يعافيه مما به ، ويبغّضها إليه ، فلعل الله أن يُخلِّصه من هذا البلاء . فحج به أبوه ، فلما صاروا بمنىً سمع صائحا في الليل يصيح : يا ليلى ! فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشيا عليه ، فلم يزل كذلك حتى أصبح ، ثم أفاق حائل اللون ذاهلا ، فقال :

وداعٍ دعا إذْ نحن بالخيْف من منىً        فهيَّــج أطـراب الفـــؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيــرها ، فكأنمــا        أطار بليلى طائرا كان في صدري

دعا باسم ليلى ضَلَّلَ الله سعيــه        وليلـــى بـــأرض عنه نــازحةٍ قفْرِ

 

ثم قال أبوه : تعلق بأستار الكعبة ، واسأل الله أن يعافيك من حب ليلى . فتعلق بأستار الكعبة ، وقال : اللهم زدني لليلى حبا ، وبها كلفا ، ولا تنسني ذكرها أبدا !!

 

قيس : أشهر متعلق بأستار الكعبة من العشاق ، وقد دعا بزيادة الحب ، وليس بالبرء منه ، فكان ما هو مشهور عن شروده ، وجنونه ، فلا نعرف هل جُنّ بسبب دعاء استجاب ، أو أنه دعا دعوة لا تصدر إلاّ عن مجنون اصلا !!

 

وسنرى الشعر القديم يعرض لواقع السلوك الإنساني وطبائع البشر من الحجاج ، فهذا عمرو بن حبان الضرير يستعطي الحجاج فلم يهد إليه أحد شيئا يرتضيه ، فهم – في رأيه – لم – يحجوا ولم يقربوا المناسك :

كأن الحجيج الآن لم يقربوا منىً       ولم يحملوا منها سواكا ولا نعـلا

أتــوْنا ، فما جــــادوا بعود أراكـة       ولا وضعوا في كفّ طفل لنا نقلا

 

في البيت الأول ملاحظة سلوكية دقيقة ، ففي الوقت الذي يحرص فيه الحجاج على شراء أشياء هيّنة (سواك أو نعل) من الأماكن المقدسة ، لتأكيد الصلة ، وتحصيل البركة ، يجدهم الشاعر يبخلون على فقراء الحرم ، وأطفاله !!

ويندد شعراء آخرون بالذين يحوّلون الحج إلى شعيرة شكلية ، وطقس عملي ، لا علاقة له بالسلوك والأخلاق والاعتقاد ، فيحجون بمال حرام ، أو يرتكبون في حجهم ما هو ضدّ أهداف الحج ، متوسعين – دون سد – في وعد المغفرة لمن يحجّ :

يحجّون بالمال الذي يجمعونه      حراما ، إلى البيت العتيق المحرَّمِ

ويــزعـــم كلٌّ منهـــمُ أن وِزْرَه      يحّط ، ولكــنْ فـوقــــه في جهنمِ

وقال أبو الشمقمق :

إذا حججت بمال أصله دَنسٌ       فما حججتَ ولكنْ حجَّتْ العيرُ

ما يقبل الله إلا كــل طيبــــةٍ       ما كل من حجّ بيت الله مبرور

 

وفي الشعر الحديث والمعاصر افتتح شوقي أمير الشعراء الالتفات إلى البيت الحرام في قصيدته التائية ، التي قالها في وداع الخديو عباس حلمي ، ولهذه القصيدة مناسبة لطيفة ، فقد نوى الخديو الحج ، وطلب من شوقي أن يكون في معيته ، فوافق محرجا ، لأن أمير الشعراء ما كان ليصبر عن حياة المدينة (القاهرة) وسهر الليالي السعيدة بالصحبة ، فضلا عن خوفه الغريزي من السفر وركوب البحر . وهكذا اختفى شوقي تماما من القاهرة يوم السفر ، ولم يظهر حتى اطمأن إلى أن الخديو ركب البحر ، فصنع هذه القصيدة وأرسلها إليه في الحجاز ، ومطلعها :

إلى عـــرفات الله يابن محمد      عليـــك سلام الله في عرفات

 

وهي طويلة (63 بيتا) اختارت أم كلثوم بعضا منها ، وغيرت فيه ، كما نلاحظ في هذا المطلع ، لتحرره من المناسبة ، ويتقبّله كل الناس ، وكأنه عن جميع الحجاج ، وفي تلك القصيدة تظهر “الكعبة” مرحبة بخديو مصر ، فهو أيضا كعبة القصاد :

وفي الكعبة الغراء ركن مرحب      بكعبــــة قصّــــاد وركــن عفاةِ

وما سكـــب الميزاب ماء وإنمـا      أفـــاض عليك الأجر والرحمات

وزمزم تجري بين عينيـك أعينا      من الكوثر المعسول منفجرات

ويذكر شوقي صنيع محمد علي باشا ، وولده البطل إبراهيم باشا ، وكيف قضيا على فوضى القبائل في الحجاز ، فيخاطب الخديو قائلا :

تريك القرى آثار جدّيْك عـندها       وما أسلفــــا مــــــن حجـةٍ وغـزاةِ

هما أمَّنا البيت الحرام وأنقـذا       ربوع الهــــدى من مفسدين عصاةِ

تدول أحاديث الرجال وتنقضي      ويبقى حديث الفضـل والحسناتِ

 

ويتأصل موقف شوقي المؤازر لدولة الخلافة العثمانية ، ضد حركات الاستقلال القومي ، حين يستعدي السلطان عبد الحميد ، في قصيدة بعنوان : ضجيج الحجيج ، عام 1904 ضد الشريف حسين وأعوانه ، الذين يصورهم متعسفين قساة في معاملة الحجاج، مسيئين لشعائر الإسلام :

ضـــجّ الحجــــاز وضجّ البيت والحـرم      واستصرخت ربَّها في مكـة الأممُ

قد مسَّها في حماك الضُّرُّ فاقض لها     خليفــــة الله أنت الســيد الحَكَـمُ

لك الربـوع التي ريـع الحجيـــج بهـــا      أللشريف عليهـــا أم لك العلــم ؟!

أهين فيها ضيـوف الله واضطـــــهدوا     إن أنت لم تنتقـــم ، فالله منتقــمُ

 

وهي قصيدة مهيجة ، عنيفة ، كشفت قناع شريف الحجاز مبكرا ، وقبل أن يلقى أقنعته ويتجلى سافرا في مكاتباته مع “مكماهون” ، ويقف مع الإنجليز صراحة ، ضد الأتراك في الحرب الأولى .

 

ومن الطبيعي أن يكون لشعراء الحجاز – بصفة خاصة – نصيب موفور في التغني بالكعبة ، والتلبية لرب الكعبة .. في مقدمتهم الشاعر محمد هاشم رشيد ، وأكثر قصائد ديوانه الثالث :”في ظلال السماء” تدور في المعاني الدينية ، وفي قصيدته “أمام البيت” يستوحي لغة القرآن ، وتعبيرات الصوفية معا :

 

من كل فجّ عميق       وكـل أفــق سحيـق

جئناك يارب فاملأ       أكـوابنـــا بـــالــرحيق

فنحن يارب ظمأى      ظمــأى لأفق طليق

لموجة من ضياءٍ       في مهرجان الشروق

لصيِّبٍ من حنـان      يطفي بقايا الحـــريق

وله مقطوعة جميلة بعنوان “حمام الحرم” .

 

وللشاعر طاهر زمخشري قصيدتان : “بين الحرم والهرم” ، بمناسبة زيارة الملك سعود لمصر ، عام 1954 ، وأخرى بعنوان “فضل الله” وهما في ديوانه :”أنفاس الربيع” .

وللشاعر حسن عبدالله القرشي قصيدة عن “مكة” :

وفيهـــا انجلـــى الحق للعــالمين     وفـــاض الضياء بها وانتشـرْ

بها كعبـــــة الله طــــــافـــــت بها      قلـــوبٌ تحنُّ ، وأزهت عُصُرْ

هيا “جبل النــــور” كم ذا شهـدتَ     من المعجزات ، وكم ذا ظهر

تحدّث ، ففي “الغار” شعَّ اليقين     وقد تُنطِقُ الذكــرياتُ الحجـرْ

 

وكما اقترن تاريخ الكعبة بأحداث قاسية ، بل دامية ، مثل ضرب الحجاج الثقفي لها بالمنجنيق لإخراج عبدالله بن الزبير منها ، ومثل اقتلاح القرامطة للحجر الأسود من مكانه (عام317هـ) واحتجازه عندهم في البحرين اثنين وعشرين عاما ، ودخول أبي طاهر القرمطي الحرم على فرسه شاهرا سيفه ، ومثل اقتحام قبيلة بني حسن للحرم على خيولها أيضا (عام730هـ) في حرب الأخويْن : عطيفة ورميثة ، وايهما يكون أمير مكة، فإنه تذكر طرائف ونوادر ، منها أن يقف الناس بعرفات يومين لاختلاف الفتوى في تحديد بدء ذي الحجة ، فيذكر أحمد السباعي من غرائب عام 688 هـ أن الحُجاج وقفوا بعرفة يومي الجمعة والسبت ، إذا أفتى أمير الركب الشامي بالوقوف يوم الجمعة ، وأفتى فقيه الحجاز بالوقوف يوم السبت ، ويذكر السباعي أن هذا تكرر عدة مرات في تاريخ مكة .

ولا يخلو الأمر من طرائف مضحكات تقترن بهذا الموقف الجاد ، مثل تلك الخطبة المليئة بالألفاظ المهجورة ، غير المفهومة ، التي ألقاها بدوي صاحب حاجة ، فوقف الناس حوله مبهوتين ضاحكين . وما تحدث به شيخ من الأزد عن رجل منهم كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه ، فقيل له : ألا تدعو لأمك ؟ فقال : إنها تميمية !!

 

وسمع رجل يطوف بالبيت وهو يدعو لأمه ، ولا يذكر أباه ، فعوتب ، فقال : هذه ضعيفة ، وأبي رجل يحتال لنفسه !!

[ هذه المقالة نشرت في مجلة أخبار الأدب ]

 

 

اترك تعليقاً