المشترك والخاص في روايتي محمد قاسم
المشترك والخاص في روايتي محمد قاسم :
- أشياء لا تملكها المرأة
- اغتصاب ملكة
حين تتعدد تجارب الكاتب في إطار النوع الأدبي ذاته ، فإن ممارسة فعل القراءة ستستبقى من العمل الأول بعض المقتنيات تختزنها ذاكرة المتلقي ، لا تلبث أن تبعث مع فعل قراءة جديد للكاتب نفسه ، فتعانق مقتنيات مستحدثة تتواشج مع تلك السابقة ، لتقيم في ذهن القارئ ما يؤسس طريقة خاصة : عالما أو أسلوباً ، يتميز به هذا الكاتب .
لقد حدث هذا مع قراءة روايتي الأستاذ محمد قاسم : “أشياء لا تملكها المرأة” [ الطبعة الأولى صدرت عام 1989 أما النسخة التي نرجع إليها فقد طبعت عام 1998 ] – ثم رواية : “اغتصاب ملكة” [ صدرت عام 1994] ولكن وجود قدر مشترك من خصائص الصناعة الفنية ، لم يعن مطلقا أن الكاتب – أي كاتب – يكرر نفسه ، أو أنه لا يملك طاقة المغامرة الفكرية أو التجريب الفني . وهذا يستوجب – بدوره – أن تحاول القراءة المتفحصة أن تكشف وجه “الخصوصية” في كل عمل فني على حدة ، من حيث هو بناء خاص لا يمكن أن يتكرر ، محكوم بعلاقاته وقوانينه الداخلية ، وله منتج فكري أو فلسفي تبوح به تلك العلاقات الخاصة التي تحمل سر البناء ، ويسعى القارئ عبر التدرج في التلقي وإعادة تكوين “السرد” في سياق القصة ، في تعاقبها الزمني أن يستخلص هذا المنتج ، فيضمه إلى مقتنياته التي يتفاعل معها ، إيجابا أو سلبا . هذا دور البحث في الخصوصية ، الذي لن يكون في موقع النقيض للمشترك أو المتكرر ، لأن هذا المشترك أو المتكرر هو بدوره مؤسس لتلك الخصوصية داعم لها ، بل إنه يتجاوز خصوصية العمل الإبداعي ليؤصل خصوصية المبدع نفسه .
هذان – باختصار – هما المحوران اللذان تحاول هذه الورقة أن تجلوهما في روايتي الأستاذ محمد قاسم ، المشار إليهما . وقد يكون هذا القدر المشترك يرجع بعضه إلى شخصية الكاتب الإنسانية الاجتماعية ، غير أن الخصوصية تجد مستندها في شخصيته الفنية وقدرته الإبداعية . ومع هذا سيكون وضع حاجز حاسم بين المستويين لا يخلو من مخاطرة وتداخل ، فنحن نعرف أن الكاتب يمارس مهنة المحاماة ، ولكن هذه المعرفة التي يمكن أن تفسر أو ترجح أن تكون نادية حجازي تعمل بالمحاماة أيضا ، وكذلك حبيبها الأول عادل رمزي ، [أشياء لا تملكها المرأة] وأن تكون شخصية القاضي (فهمي) وعقيد الشرطة (رفعت) بهذا القدر من الوضوح والسيطرة على الفعل ، صالحا لاحتواء الرمز ، حاملا لمؤشرات المستقبل في رواية ذات نهاية مفتوحة [اغتصاب ملكة] هذه المعرفة المفسِّرة أو المرجحة ، لا تفيدنا شيئا أو لا تضيف إلى الرواية شيئا لا يمكن إدراكه أن فهمه إلاّ باكتشاف تقارب المدى المعرفي بين الكاتب وبعض شخصياته ، بل إن هذا المدى المعرفي المشترك لا يملك وحده مفاتيح التوجيه للأفعال في القصة ، فإذا كان من الصحيح أن بؤرة الرواية في العملين كليهما يمكن أن تنتمي إلى ما يعرف لدى أهل القانون بأنه من “الأحوال الشخصية” ، فإن هذا الحل السريع سيكون متسرعا وغير قابل لاحتواء حركة العمل الروائي وتفصيلاته التي تنتمي إلى “الدراما العائلية” بخصائصها الفنية ، كما يعرفها التلفزيون ، وكما تشاهد في السينما ، وليس كما يؤطرها قانون الأحوال الشخصية . لقد تحركت قصة نادية حجازي بين ابن الخال وابن العمة ، الذي أصبح زوجا [أشياء ..] وكانت ملكة تعي في البيت الملاصق لبيت الأباصيري [اغتصاب ..] مما يعني أن الرواية – في المرتين – لا تنشيء حدثا من فراغ ، إنها ترعى علاقات اجتماعية متوقعة ، ولكنها حين تقوم بتشريع هذا المتوقع تكشف عن جوانب المفارقة فيه، والتناقضات الحادة التي ينطوي عليها ، وهذا هو الجانب الإبداعي الخاص الذي تصنعه الموهبة ، وليس المعرفة . لا نستطيع أن نهمل خاصة أسلوبية ، تصدر مباشرة عن خبرة عملية ، وهذا الأمر متحقق في الرواية الأولى .. [أشياء …] أكثر مما هو في الأخرى التي تحقق فيها بدرجة أقل ، كتعريف الزواج بأنه عقد احتباس (ص54) والجانب الإجرائي الذي تمارسه النيابة أو المحكمة ، قبل الحكم بالتطليق (ص65) وقدرة نادية على تجنب الخطأ اللفظي (ص76) وتحديد المدى المتاح للزوج في ولوج بيت الزوجية وما هو من حقه فيه (ص91) وغير هذا مما يسهل اكتشافه ، ولكن هذا كله ينسجم مع الشخصية الفاعلة في الرواية ، فهي محامية ، ويلتحم بالفعل أو الحدث ، إذ هو صراع – وليس مجرد نزاع – حول حق المرأة في الحب ، وحرية أن تفارق دون ضرار . وهذا هو ما لا تملكه المرأة ، وأنشئت الرواية كي تبرزه وتوجّه إليه اهتمام المتلقين . ومهما يكن من أمر انعكاسات المهنة ، المباشرة أو غير المباشرة ، فإنها ليست هي التي تصنع رواية ، وإلا استطاع أي محام آخر – غير محمد قاسم – أن يقدم إلينا هذه الرواية ذاتها مستندا إلى مشكلات وكلائه ووثائقهم وأحاديثهم . وهكذا يصدق ما أشرنا إليه من تأثير “المشهد” التلفزيوني ن والسينمائي ، وهذا النمط من التصوّر أصبح يفرض سلطته على أخيلة الأدباء وطرائق تفكيرهم ن وتطويرهم للأحداث ، ولسنا نعدّ هذا غريبا ؛ لأن تبادل التأثير بين الفنون موضع اعتراف ن وكذلك تتقارض وسائل التوصيل شيئا من قدراتها الخاصة ، ومن هنا عرف فن القصة “السيناريو” كشكل من أشكال السرد ، بل عرف “الكولاج” وهو شكل آخر من أشكال التعاقب في سياق الأحداث ، وإذا كان السيناريو وفد إلى الأدب من السينما ، فإن الكولاج وفد من الفن التشكيلي . ستجد التفكير بالكاميرا وحركتها ، والمشهد وزواياه وردود أفعاله في مواقع مختلفة من الرواية الأولى [أشياء …] بصفة خاصة تصويره لقاعة المحكمة ، والمحامية ذاتها هي طرف المقاضاة أو المدعية ، ضد زوجها (ص55) ويتحرك المشهد ، أو ينفتح في الصفحة التالية حين تتولى المحامية ذاتها حق الدفاع عن ضرتها ، ضد زوجها نفسه ، فهذا مشهد سينمائي شديد الإثارة ، شديد الطرافة ، وكذلك حين يعرض عليها زوجها أن تكون حكما بينه وبين ضرتها (سعاد حنفي) (ص85) وحين يمزق الزوج ثياب زوجته فيصف الكاتب كيف “اندفع جسدها الأبيض النضر..” (ص93) أو حين تضج قاعة المحكمة بالضحك إذ يعرض الزوج أن يطلق زوجته الثانية ليفسد على الأولى أساس ادعائها (ص96) في كل هذه المشاهد نجد الصورة مرسومة بالكاميرا على الشاشة ، ولكن هذه المشاهد – على طرافتها وتشويقها – ليست هي التي تصنع الرواية وسنعود إلى هذه النقطة لنبرز وجه الخصوصية ، الأساس الجمالي ، الذي جعل من “أشياء لا تملكها المرأة” رواية جيدة . وهكذا يتحتم علينا أن نستقصي – ما أمكن – الجوانب المتصلة أو المتكررة بين الروايتين – فيما يتجاوز انطباع مهنة المحاماة . وهذا يبدأ من طريقة الكاتب في اختيار عناوين رواياته ، فهو في المرتين يعتمد على حسّ المفارقة ، وسنرى أن هذه المفارقة هي التي تقيم بناء الرواية الثانية ، ولكننا نحصر الاهتمام الآن في العنوان ، إننا عادة – نفكر ، ونتكلم عن الأشياء التي تملكها المرأة ، وفي هذا المدخل الإيجابي يتوافق وهوانا في الحديث عن “لغز” المرأة ، وقدرة المرأة على الكيد ، وسلطان المرأة على الرجل ، أو الرجال ، ومأتى هذا السلطان . إن محمد قاسم يختالنا ، ويفاجئنا ، بأن يتحرك لنا هذا كله لنتكلم فيه ، ليقوم – كلاعب ماهر – بخلط الأوراق ، والكشف عن الجانب الآخر المسكوت عنه ، في حياة المرأة ، ويختار مستند قضيته “عيّنة” غير متحيزة ، إنها فتاة جميلة ، مهذبة ، ذات شخصية ، مثقفة ، وحتى حين عانت في تربيتها بعض القصور ، فقد جاء هذا القصور من جانب امرأة أخرى (هي أمها ، في مونولوج ص10 تقول نادية: ” نعم يا أمي ، أنت منذ مات أبي تختارين لي كل شيء حتى الثوب الذي أرتديه”) وهذا يعني أن الطريق كان ميسرا تماما لحياة جميلة مع رجل مرموق من أقاربها اختارها عروسا له ، فنفرت قليلا ، ولكنها ما لبثت أن سلّمت بالواقع وأخذت تترضاه وتبذل في سبيله ، لكنها – أبدا – لم تحصل منه على الأمان ، كما لم تجرّب معه الفرح !! هذا هو سر العنوان ، فأوراق لعبة الحياة في المجتمع العربي ، المسلم ، كلها تقريبا ، بيد الرجل ، وإذا روّج الرجل لغير هذا ، فإنما ليبرر لنفسه المزيد من الانفرادية والسطوة .
لقد مضى اتجاه العنوان في الرواية الثانية إلى صيغة المفارقة أيضا ، فأين إيحاء الاسم “ملكة” وما يعني من ترفع وتحكم وخصوصية ، وما يعنيه الاغتصاب من القهر والمذلة والدنس !!؟ ، ولعل هذه المفارقة التي أسست زاوية الرؤية في الحدث هي التي شكلت النهاية ن فكان هذا التشابه بين النهايتين ، فهناك عادل رمزي ، العاشق المتوازن النبيل ، يتزوج غير من أحب ، وكذلك تزوج القاضي فهمي بمن لم يكن يحب ، وتموت زوجة عادل لتترك بين يديه وليدة يمكن أن تكون مدخلا لاستئناف حياة جديدة بين نادية وعادل [أشياء …] وكذلك تموت ملكة نفسها ، تاركة وليدتها أمانة في رعاية القاضي فهمي ، وكأنها تجسيد متجدد لحلم لم يتح له أن يتحقق [اغتصاب ..] وفي العملين يحرص الكاتب على انتقاء أسماء شخصياته مستوعبة لطباعها وخصائصها النفسية ، فنادية حجازي ، وعادل رمزي ، وحسين الدمنهوري ، وجميلة ، ومحمد الجنايني ، وإحسان عمر ، ومراد ، لهم من أسمائهم نصيب الموافقة ، أو التضاد ، في الرواية الأولى ، وفي الرواية الثانية : الأباصيري ، والأشموني ، وملكة ، وسامح رضوان ، والقاضي فهمي ، والمأمور رفعت ، وحمدي .. يخضعون تقريبا للقاعدة ذاتها ، بل نستطيع أن نلمح في كل من الروايتين إشارة إلى الأخرى ، ففي رواية “أشياء لا تملكها المرأة” إشارة إلى المرأة/الملكة مرتين ، فحين تتسلل نادية إلى غرفة عادل وهو غارق في أوراقه : “رفع رأسه ، نظر إليها ، كأنه لا يصدق أن تهبط الملكة إليه” (ص21) ولكن نادية لم تشعر يوما بعزة الملكة وجلالها ، ولهذا طمحت إلى أن تحقق هذا المعنى لابنتها ن فأوصت خالد (خاطب ابنتها) أن يجعل من بيته مملكة صغيرة ، تكون حنان فيها الملكة (ص108) وبالمثل سنجد في “اغتصاب ملكة” إشارة حاسمة إلى القضية/المحور التي صنعت جديلة الشكل الفني في الرواية الأولى ، إذ حرصت “ملكة” في زواجها الثاني ، ثم الثالث أن تحتفظ بالعصمة في يدها ، لقد عانت ذل الزواج عقب اغتصاب مدبر ، ثم خلصها صراع الأشرار من رابطة تلعنها ، فتعلمت أن تكون صاحبة قرارها المصيري ، ولهذا احتفظت بحق تطليق نفسها : “ولماذا أضايق نفسي من جديد .. هي كلمة أقولها كما يقولها الرجال في هذه الأحوال ، وينتهي الرباط …” [اغتصاب ص130] فكأن نادية وملكة قد تبادلا موقعيهما ، أو أفادت كل منهما من تجربة الأخرى على نحو من الأنحاء .
هناك أمور (فنية) أخرى مشتركة بين الروايتين ، تتجاوز هذه العلامات ، والعتبات، إلى ما هو من صميم الأسلوب الفني ، وطريقة الكاتب فيهما واحدة ، بما يعني استقرار لغته وطريقته ، فإذا انفردت إحدى الروايتين بصفة أو وضع تقني معين ، فإن هذا سيكون استقراراً من نوع آخر ، ونعني استقرار الوعي الفني بمتطلبات الموضوع ، ونمثل لهذا بتقنية الاسترجاع ، وهي إحدى خصائص الرواية الحديثة ، وارتبطت – في بدايتها – بالرواية النفسية ، ثم بتيار الوعي ، على أن الاسترجاع هو الفارق بين القصة والسرد ، حيث ينكسر به التراتب الزمني ، وتكتسب الحوادث مواقعها خارج الزمن الموضوعي منتمية إلى زمانها الخاص . هذه التقنية توسع فيها الكاتب في روايته الأولى، بما يدل على وعيه بها ، والقدرة على توظيفها ، لصنع المفاجأة ، وكسر ملل التلقي ، في حين أنه لم يكد يلجأ إلى تقنية الاسترجاع في الرواية الثانية ، وهنا نبحث في طبيعة الشخصيات والحدث الرئيسي المسند إليها . إن نادية – التي نعرف الآن أنها محامية – تفتتح الرواية ، ولكن لا تمضي غير ساعة تقريبا ، في صفحة أو صفحتين ، حتى يتم الاسترجاع الأول ، عبر حوار بينها وبين زوجها بعد زفافها إليه بأسبوع ، ثم يحدث في مسار الزمن لينتقل الاسترجاع إلى فترة أخرى ، حين هدد الزوج بإجهاضها ، وفي فصل تال يمضي الاسترجاع في الطريق العكسي حتى نتعرف على مشاعر نادية تجاه حسين ، الذي سيصير زوجها ، والطريقة التي تقدم بها للزواج بها ، وسيكشف استرجاع آخر ، بعد عشرات الصفحات ما يملأ مساحة خالية في هذه المنطقة ، حين نعرف أن حسين هذا حاول التسلل إلى اقتناصها تحت غطاء القرابة ، ولكن أمها كانت له بالمرصاد، وهذا ما حمله على التقدم للزواج بها . وهكذا تتراكب الاسترجاعات ، كما في (صفحة 23 وما بعدها) فقد نزلت من سيارة عادل ، فعادت بها الذكرى إلى الحنين ليوم رأته فيه ، فكاشفته بتعاستها ، فيتولى هو بدوره – في ذلك اليوم – إلى أن يسترجع معها أيام كان يراجع لها دروسها في المرحلة الثانوية .. وهكذا .
هذا التصرف الحيوي في عنصر “الزمن” في الرواية [أشياء لا تملكها المرأة] يناسب رواية سيكولوجية الطابع ، الشخصية الأولى في هذه الرواية أنواعا من مساندة هذه الحركة الخاصة للزمن ، لا نجد لها صدى مشابها في الرواية الأخرى ، فهو – مثلا – يستخدم رنين التليفون ( وليس مجرد الكلام في التليفون) في الصفحات رقم 18 ، 12، 21 ، 41 ، 42 ، وجرس الباب : ص 71 ، 93 ونحن نعرف علاقة ذوي الأعصاب المرهفة بهذه الأصوات الحادة التي تقتحم عليهم عالمهم الساكن . وبمثل هذا يتعامل مع الجانب الدلالي المنافي للمعجم . لقد كانت نادية تجرب غياب الزوج بالسفر الطويل لأول مرة ، فعندما رجع كانت “متلهفة لرؤيته ، ومشتاقة لعنف أذرعه” (ص11) وهكذا تم العدول عن صيغة المثنى ، وهي الصحيحة لغويا ” عنف ذراعيه” وإيثار صيغة الجمع تأكيداً للهفة ، وتحقيقا للإحاطة والاندماج المطلق ، وكأن الرجل كله تحول إلى اذرع – على طريقة المجاز العقلي ، وهنا سيختلف التصوّر ، حين يرتمي إلى جوارها هامدا ، فتدرك أنه منصرف عنها ، إذ ” تتراخى ذراعاه” (ص12) أما حين حاولت استدراجه إلى الحب فإنها “أمسكت يده” (ص13) وحسب !!
لن نجد شيئا يستحق الذكر يعتمد على تقنية الاسترجاع في الرواية الأخرى “اغتصاب ملكة” فجميع شخصياتها – باستثناء القاضي فهمي – شخصيات تآمرية ، ثعبانية ، قد تكون فظّة إلى درجة القتل والنهب والتزوير ، وهذه الشخصيات لا مجال لديها للتذكر ، إنها هاربة من ماضيها ، وقد جاء الاسترجاع من رؤية القاضي ، ثم من رؤية سامح رضوان حين لم يجد بدا من العودة إلى الماضي ، فجارته ملكة قليلا ، ثم أغلقت باب الماضي تماما ، ومضت تشق طريق الغد بضراوة تراجيدية ، لم يخففها الموت “الرومانسي” الذي حاول الكاتب أن يهدي روعنا في مشاهدته . أما التقنية البديل ، فقد كانت “الاستباق” عكس الاسترجاع ، والاستباق نوع من التوقع وطرح احتمالات ما سيكون ، وهو ما يناسب أصحاب التدبير والمؤامرة ، ولهذا تردد في الرواية التوعّد بالقتل (توعد حمدي أباه عثمان الأباصيري بالقتل ، فسبق الأب إلى قتله ، وادعاء انتحاره – وتوعد ملكة بقتل من يعترضها) وتوقع القاضي فهمي محاولة إجهاض ملكة حين عرف خبر حملها ، بل توقع قتلها ، وتوقع العقيد رفعت تأثير الشبهات التي يعيشها على مستقبله الوظيفي ، وهكذا – في هذه الرواية – تكررت الاستباقات ، وتراجع الاعتماد على الاسترجاع ، وهو ما يميز هذا الصنف من الشخصيات المقاتلة .. والقاتلة!! لقد أدت اللمسات الصغيرة العابرة دورها الإيحائي بقوة ، ونتذكر “رنين التليفون” في الرواية الأولى ، وهو يحاصر أذني نادية من مطلع الرواية ، لكنه – مع الملكة المغتصبة – يظهر أول تليفون قرب منتصف الرواية (ص54) دون رنين ، فإذا ما انتهى عصر الصراع الجسدي بمقتل حمدي ، وابتدأ زمن الصراع النفسي ظهر جرس الهاتف وكأنه النذير (ص128 ، 160 ، 171) ليكون مشاركا في توجيه الحدث نحو نهايته . وفي هذا القسم الأخير انبثقت كلمات غريبة على جوّ الرواية ، لتدل على التحوّل الذي ألمّ بأهم شخصية فيها ، فقد اعتبرت ملكة ، حين عرفت بأنها حامل ، أن آيات جميلة تنقش جسدها (ص151 ،152) .
ولقد مزج الكاتب حقائق الطبيعة في الإسكندرية بنفسيات أبطاله في الروايتين ، وكان كثيرا ما تؤدي الطبيعة دور إعداد المشهد لتلقي الحدث وكأنها الموسيقى التصويرية التي “تحضّر” المتلقي للاندماج والتقبل ، على أن المرمى الفلسفي يمكن استخلاصه في مقولة أن الإنسان ابن بيئته ، وهكذا يثور البحر ، وتتآكل الشطآن ، وتدمع السماء ، وتتلون الغيوم ن في الروايتين بما يجاوز المنظور الرومانسي الذي يدمج الإنسان في الطبيعة ، إلى المنظور الفلسفي الذي يعمم قانون الوجود ويؤكد علاقة التفاعل بين شواخص الطبيعة من البشر وسائر الكائنات .
إن الإنجاز التشكيلي ، أو التقني ، الذي تتجلى فيه خصوصية “أشياء لا تملكها المرأة” والذي يتجاوز الملامح المشتركة بين الروايتين ، وهي القضية التي وعدنا بعرضها، هو هذه العلاقة المتميزة الخاصة بين “وحدات” الرواية ، والأسلوب المتفرّد الذي اختطه السارد في تشكيل مادته الفنية . إن القصة تمضي عبر أربعة مراحل ، ندركها إذا ما أعدنا توزيع الأحداث تبعا لسياق الزمن المتواتر ، ولكن السرد لما يحافظ على هذا التتابع ، بل إنه لم يحرص على أن يظل قطبا الحكاية : نادية ، وحسين . لقد تغيرت النسب ومستوى العلاقة ، إن نادية – في بداية الرواية ، كما في ختامها ، تتولّى أمور نفسها بطريقة الإفضاء المباشر ، ولكنها – بين البداية والنهاية تمارس نشاطها العملي ، وهي محامية ن فتقوم بواجب الدفاع ، وهو بدوره يؤدي إلى توجيه الاتهام . إنها (ص31) تتولى المطالبة بحقوق زوجة مصرية باعها أبوها العجوز لعجوز مثله من بلد عربي ، وقد واجهت هذه الزوجة مهانة حصدت إنسانيتها وأوشكت أن تعصف بشرفها .. هذه القضية/القصة التي تبدو جانبية ، وكأنها مجرد علامة على حيوية نادية ، ونجاحها المهني ، وفي أحسن الأحوال تبدو رافداً من روافد الموضوع القصصي وهو المضار التي تلحق بالمرأة نتيجة لانفراد الرجل بحق التطليق ، ولكن هذا الجانب بذاته يصب في نهر العلاقة بين الزوجين : نادية وحسين ، ويضع تحت الضوء مستوى واحتمال ، كما يثير توقعا قادما لهذه لعلاقة ، فكأن نادية تؤدي جانبا من قصتها ، أو تعرضه ، عبر تقنية أخرى ، أو تشكيل فني مختلف ، يعادل الحكاية الرئيسية ، ويجدّد في طرحها ، ولا يغادرها ، في حين نظن أننا نتلقى شيئا آخر .
وإذ تأتي سعاد حنفي (الزوجة الثانية لحسين) تستنجد بضرتها ن توكلها في رفع دعوى الطلاق ن فإنها لا تكشف عن سموّ نفس نادية وقدرتها على تجاوز محنتها وحسب ، إنها تدعم موقفها الشخصي ، وتقدم إليها معرفة كانت بحاجة إليها ، إذ عرفت أن هذا الزوج قد تزوج للمرة الثالثة ، أثناء غربته في الكويت . وبهذا تتوحد القضية في المحكمة ، والقضية الداخلية الشاغلة لنادية . وفي قضية ثالثة (ص84) تدافع عن زوجة لحق بها انحراف زوجها ، أو ألحق بها اتهاما شنيعا ، وكان هذا بدوره تطويرا يدفع بأحداث حياة نادية نحو ختامها مع هذا الزوج الذي ألحق بها ضرراً أدبيا ونفسيا لا يستهان به .
إن هذا التشكيل الفني قد أدى وظيفة فنية جمالية أسبغت على الرواية حيوية لم تكن لتتحقق لو أن أحداثها ظلت محصورة ، أو محاصرة بطرفي العلاقة المباشرين ، وظلت هذه الأحداث تتدفق في ذات الاتجاه ..
أما الرواية الأخرى : “اغتصاب ملكة” فقد تمدد عبر صفحاتها أهم ملمح في عنوانها ، وهو “المفارقة” ، ولقد قامت بنية هذه الرواية على مفارقات مستمرة ، والمفارقة جوهر الدراما – وهي صادمة مفجرة للخيال ، ولتصورات العقل . نجد هذه المفارقة متحققة في الشخصيات ، فقد تولى القاضي والمأمور حراسة جريمة وحماية مجرم ، كما أن الملكة تمّ اغتصابها ، وانقلب الحال ، فكان السعي إلى تطليقها بدعوى عدم التكافؤ (ص65) وهذا بذاته يأخذ أشكالا وصيغا متنوعة ، كأن نضع على رأس المجرم أكاليل الغار (ص47) أو أن نقول إن النجوم غرقت في البحر (ص46) أو يقام مصنع ملوث على البحر (ص67) تماما كما يتناص الكاتب مع العبارة المشهورة “حذار من الشفقة” (ص146) فالتحذير يكون من الشر أو القبح ، وليست الشفقة منهما ..
أما النسيج اللغوي في هذه الرواية فإنه يستحق عناية خاصة ، ذلك لأنه تضمن أسماء عدد غير قليل من الحيوانات ن تتسم كلها بالقسوة والشراسة والغدر ، كما يضمن أوصافا وأمراضا وانحرافات بدنية ونفسية تتدفق في نفس الاتجاه ، وقد توافق هذا مع موضوع الرواية التي تبدأ باغتصاب ، وتقيم حياة زوجية على المقت والعداء ،وتطرح طمع الصهر وجشع الابن والتنكر لكل العلائق الإنسانية ، حتى هدد الابن أباه ، وقتل الأب ابنه ، وتنكر الضابط لواجبه ، وتخلى القاضي عن أمانة حراسته للقيم والعدل . هذا المجتمع الخاص قد غاب عنه الإنسان المتحضر ، وسيطرت فيه انفعالات حيوانية ، ومشاعر وحشية ، وعلاقات افتراسية ، وكأن هذه الأسرة تعيش كقطيع وحشي في غابة . لا يهمنا من الذي أطلقت عليه هذه الصفات أو الأسماء الحيوانية ، فقد تولاها كل منهم تجاه الآخر ، وكذلك تولاها غير أفراد الأسرة فأطلقوها على هؤلاء الأفراد ، كما قاموا هم بإطلاقها على غيرهم . إننا نتذكر هنا مأساة شكسبير الجميلة المؤسية (الملك لير) التي تنكرت فيها البنتان لحقوق أبيهما المترتبة على وضع إنساني متعقل متحضر ن وقد بلغ منهما التنكر حد منازلته في الحرب ودفعه إلى الجنون وقتل أختهما الثالثة (الطيبة) لقد حشد الشاعر الإنجليزي العظيم في هذه لرواية أسماء كثير من أنواع الحيوان ، استخدمها كصور مجازية ، أو شتائم ، أو رموز لأشخاص ، لأنه استقر في “لا وعيه” أن التنكر لحقوق الأب لا يرتضيه إلاّ الحيوان المفترس .
في رواية محمد قاسم جاءت هذه الإشارات :
- يبدو أن جروا قد ضايق الملكة : ص16 .
- سوف يموت الصرصار : ص16 .
- صرصور : ص92 .
- الكلب ، ابن الكلب ، أيها الكلاب ، مثل الكلب ، الكلب .. الدنش .. إلخ : ص : 22 ، 25 ، 27 ، 30 ، 34 ، 45 ، 46 ، 64 ، 66 ، 70 ، 89 ، 119 ، 121 ، وغيرها .
- الذئب الشرس : 34 .
- الطائر المفترس : 61 .
- طائر جارح : 61 .
- خنفستان : 77 .
- كوبرا قاتلة : 22 .
- الأفعى : 61 .
- يلدغ كعقرب : 80 .
- شمبانزي : 120 .
- كالثور : 81 ، 82 .
- الشياطين ، شيطانها ، شيطانه : 36 ، 82 ، 93 ، 126 ، 137 ، 138 .
- كالنمرة : 31 ، 109 .
- الأرنب : 92 .
- المتوحش ، الوحوش ، الوحشية 9 ، 42 ، 43 ، 172 .
إننا لم نرد تقديم إحصائية دقيقة لكل ما ينتمي إلى الحيوانية ، وقصدنا أن ننبّه إلى هذه الخاصية الأسلوبية ، وأن ندلل على قيمتها في تعميق المعنى وتأصيل “شكل” التجربة ، مما يجعل من هذه الرواية ذات خصوصية تنفرد بها سابقتها ، كما انفردت ببنية المفارقة ، على النحو الذي أوضحناه .