يوسف الشاروني وتراثنا العربي
يوسف الشاروني وتراثنا العربي
(1)
تتعدّد محاور نتاج يوسف الشاروني ، من ثم تتعدد مداخل دراسته ، وقد أرى أن المحور التراثي يكتسب أهمية زائدة ، لما يثير من قضايا وأسئلة حول ثقافة الأديب ، وتشكلاتها عبر الأطر والأنواع الأدبية ، ولقد قدّم يوسف الشاروني نفسه إلى القارئ العربي منذ أوائل الخمسينيات كاتبا للقصة القصيرة ، التي لا يزال يُعدّ أحد مؤسسي نزعتها التحديثية ، ولا تزال مجموعاته قادرة على إثارة اهتمام الدارسين والنقاد . غير أن هذا الوجود القصصي لم يقلّل منه ، أو يقلل هو من وجود آخر نقدي يمتد ما بين النظرية ، والمتابعة العملية النشطة لما صدر ويصدر من إبداعات متنوعة ، فضلا عن وجود آخر بحثي يتصل بالتراث في مختلف مستوياته وأعصره .
وإذا كنا نميل إلى القول بأن هوى الموهبة غلاّب ، وأن المبدع لانحياز الإطار أو الشكل وإنما يختاره هذا الإطار ويوجه مقتنيات ذاكرته ؛ تلك المقتنيات التي ستكون – مع الدأب – مخزونه الاستراتيجي ومرجعيته الحاضرة في نشاطه الإبداعي ، فإن هذا لميل يؤدي – أو قد يؤدي – إلى التسليم بخط جوهري واحد ، أو أساسي ، تتحقق به ذات المبدع ، وفي حال تعدّد الخطوط ، فلا مفر فيما نرى ، من القول بنوع من “الهيمنة” أو اللون المسيطر . قد تفرض “صورة” أفلاطون نفسها في هذا السياق ، وهو ليس بعيدا عن تكوين يوسف الشاروني تلميذ الفلسفة ، المستحضر لها في أثناء أوراقه المختلفة . إن أفلاطون الناقد المنظّر أحلَّ الشعراء منزلة راقية ، ولكنه في جمهوريته توجس منهم ، وتوقع أن يفسدوا عليه نظام مدينته الفاضلة . قد يبدو الأمر تناقضا ، ولكنه تناقض ظاهري ، فهذا التوجّس ذاته يعود إلى اقتناع عميق بقوة الأثر . فهل نجد في هذا إغراء بطرح سؤال التكامل والتناقض بين محاور النشاط الفني في نتاج كاتبنا ؟! مهما يكن من أمر هذا فلابد من القول بأن الذين أثبتوا لأنفسهم قدما في مجال الإبداع ، وتميزا في مجال النقد والدراسة .. قلة ، وهم في الثقافة العربية الحديثة يصلون حدّ الندرة ، ولا أريد أن أتجاهل يحيى حقي ، فقد غلب عليه فن المقالة ، أما الاسم الواضح هنا فهو الشاعر صلاح عبد الصبور .
مع هذا يظل يوسف الشاروني يملك خصوصية لا ينافسه فيها أحد ، وهذه الخصوصية هي موضوع هذه الصفحات ، التي تعنى بجهوده البحثية في مجال التراث العربي . وبالطبع .. ليس القصد أن يوسف الشاروني – دون غيره – حقق التواصل مع التراث ، وبذل في رعايته جهدا أضاف إليه ، مع حضوره الواضح في ثقافة العصر ، فقد تحقق هذا لمبدعين وباحثين كثر ، وستدلنا قراءة آثار صلاح عبد الصبور على توسُّع مدقق خبير في قضايا التراث الشعري والصوفي خاصة . ولكن الأمر مع يوسف الشاروني يختلف ، وهذا هو ما تضفيه تجربة الشاروني وتتميز به ، فالشاعر مثل أحمد شوقي ، أو صلاح عبد الصبور حين يتصل بالتراث فإنه يحقق واجبا عليه لا تكتمل قدرته إلاّ به ، لأن التراث الشعري حاضر إلى اليوم وغدا ، مهما اختلفت توجهات بعض الشعراء ، أو تقنيات القصيدة ، أما كاتب القصة فإنه لا يشعر بأهمية هذا الاتصال ، بل قد يشعر بأنه سيكون معوِّقا ، من ثم يندفع في الاتجاه المضاد .
إن يوسف الشاروني لا يتجاهل هذه القضية ، بل إنه يفسر بها بدايته في هذه “السباحة” التي تبدو عكس التيار السائد . يقول في “كلمة” يمهد بها لدراسته في “الحب والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة” :
“هذه الدراسات كانت مدخلي إلى تراثنا الأدبي العربي المزدحم بالكنوز ، وأنا على صلة بهذا التراث منذ شبابي المبكر ، لكنني كنت أكثر اتصالا بجانيه العشري وقتئذ ، حيث كنت أحلم بأن أنصرف إلى كتابة الشعر ، وإن كنت قد اطلعت في ذلك الوقت على كتب مثل كليلة ودمنة ، والمكافأة وحُس}نُ العقبى ، وبعض القصص الشعبي مثل ألف ليلة وليلة ، فلم تكن كتابة القصة أيضا بعيدة عن أحلامي . فلما أتيح لي أن أدرس الفلسفة بالجامعة تبيّن لي جانب هام آخر في هذا التراث ، فقرأت قراءة منظمة تاريخ الفلسفة الإسلامية ، ولكني في الوقت نفسه اكتشفت الفلسفة الغربية ، وكان عودي قد اشتدّ في لغة أو لغتين أجنبيتين ، فأقبلت على قراءة الفكر الغربي : فلسفته وأدبه ، حتى خشيت ذات يوم أن تقع غربة بيني وبين تراثنا العربي ، كما أثار انتباهي أن كثيرا من شبابنا ممن لهم محاولات أدبية بعيدون كل البعد عن جذورهم في الفكر العربي ، وإنه ربما كان السبب في ذلك ظنهم أنهم لن يجدوا في هذا التراث إلاّ أفكارا لا صلة لها بعصرنا ، مكتوبة بلغة بعيدة عن أفهامهم ، فأردت أن أكشف لهم – ولنفسي قبلهم – جوانب هذا التراث الإنسانية ، وكيف أنه تناول أرق الموضوعات ، بأرق لغة ، وأن الفكر الإنساني – ومن بينه التراث العربي – ليس إلاّ سليلة متصلة الحلقات …” إلخ .
هذا الاقتباس الطويل يتصدر الطبعة الثانية لكتاب “الحب والصداقة” عام 1982 ولكن الكتاب نفسه صدر في طبعة (غير كاملة) عام 1966 ، وهذا التحديد الزمني المهم ، لأنه يصدر عن قائله بعد أن حقق في مجال القصة القصيرة إنجازا واضحا مقدرا من أدباء جيله ومن يليهم . وفي هذا الاقتباس أفكار دالة على مواقف ومفاهيم إيجابية كاشفة تغني عن كثير من القول . لا تغيب عنا نبرة التقدير والتعاطف مع هذا التراث ، فهو أول: “تراثنا الأدبي” وهذا الضمير المتكلم الجمعي بكل ما يعنيه حرص عليه يوسف الشاروني ، بل إنه صيغة مستقرة ومستمرة ، ففي دراساته المتعاقبة في كتابه الآخر : “مع التراث” (الجزء السادس من الأعمال الكاملة) تتوارد هذه التعبيرات : تراثنا العربي – لغتنا العربية – قصصنا الشعبي البحري – تراثنا الأدبي – تراثنا البحري – من نصوص التراثية . وهكذا . وهذه الـ”نا” الذهبية تصدر عن وعي وشعور بالتوحّد ، فإذا قال – فيما بعد – “ثم لنا وقفة أمام التراث العماني” فأقام فاصلا واقفا بين “نا” و “التراث” دون التحام تفرضه الإضافة ، فإن هذا يكشف عن وضوح “علمي” بين ما هو تراث عربي مشترك ، وما هو تراث شعبي خاص ، وسيعود هذا الالتحام عبر الإضافة حين يعرض للمستوى الشعبي من التراث المشترك في ألف ليلة ، وعلي الزيبق ، وغيرهما .
ليس بعيدا أن نجد عبارات حماسية كأن يقول في مدخل “مع التراث” إن اهتمامه يهدف إلى الاحتفاظ بذاكرتنا (وقد سطعت “نا” مرة أخرى) “لأن من فقد ذاكرته فقد شخصيته” ، ولا تعني حماسية العبارة مجافاتها للحقيقة العلمية والنفسية ، بقدر ما تعني أنها متداولة في صيغة “شعار” ، أما علميتها فتمثل في تأصيل المنحى المنهجي ، الشديد الوعي بمطلب التجديد ذاته ، وهو حتمي وواجب ولكن الاستسلام له مثل إنكاره ورفضه ، يؤدي إلى دمار الذات واغترابها ، فالتمسك بالقديم المألوف “دليل على تماسك الجماعة وعدم استسلامها المتسرع أمام أي عنصر جديد قبل أن تمتحنه ، فإما أن تقضي عليه وحينئذ يتضح أنه لم يكن سوى بدعة ، وإما أن يثبت أنه نابع من حاجتها التي لا مفر منها لتطورها … فهي إذا تقبلت كل جديد دون معارضة كان معنى ذلك أنها عرضة للانحلال وذوبان شخصيتها ، وإذا قاومت كل جديد أيا كان فمعنى ذلك أنها تتحجّر وتحكم على نفسها بالفناء ، من حيث ظنت أنها تحافظ على نفسها ” .
(2)
هذا إجمال للإطار ، ومن قبله الدوافع التي وجهت يوسف الشاروني إلى الاهتمام بالتراث. ويبقى أن نتعرف على مفردات ، ثم توجهات نشاطه في هذا الاتجاه المحدد . وهذه المفردات ، أو الدراسات حسب عنوان الغلاف للطبعة المتداولة .
- الحب والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة : 1966 .
- شكوى الموظف الفصيح : 1980 .
- سندباد في عمان : 1986 .
- قصص من التراث العماني : 1987 .
- القصة تطورا وتمردا : 1995 .
- مع التراث : 1996 .
- عجائب الهند : 1998 .
وهنا لابد أن نشير إلى أن هذه التواريخ التي حاولت أن تحافظ على التسلسل التاريخي ليست دقيقة أو حتمية الدلالة ، لسببين : أن بعض هذه الكتب قامت مادته على بحوث مجموعة ، ومقالات كانت متفرقة على مساحة زمنية ثم جمع بينهما وحدة الاهتمام أو الموضوع ، وهذا أكثر وضوحا في كتاب “مع التراث” الذي تعود مادته إلى بحوث سبق نشرها مفردة قبل تاريخ نشره بأكثر من خمسة عشر عاما . السبب الآخر أن الكاتب نفسه يعيد النظر في فصول كتبه ، من ثم قد يتضمن كتاب جديد فصلا أو بحثا سبق نشره في كتاب آخر ، غير أنه يبدو للمؤلف أنه أكثر تناسبا ودخولا في محتوى كتابه الجديد فيضمه إليه ، وهذا التدوير للمادة ليس نادرا . وهو يؤثر في إمكان وضع تصور دقيق لتطور علاقة الكاتب بالتراث ، كيف بدأت ، وفي أي اتجاه تطورت ، ولماذا عن غيره توقفت ؟!
مع هذا لابد أن تمدنا قراءة هذا النتاج الغزير بملاحظات أساسية :
أولا : تدل عبارته في اقتباس سابق على أن معرفته المبكرة بالتراث انحصرت في التراث القصصي : كليلة ودمنة ، المكافأة وحُسن العقبى ، وبعض القصص الشعبي مثل ألف ليلة وليلة . ومع أن اليافع أو الشاب يوسف الشاروني كان يحلم بأن يكون شاعرا فإن ما تحت الحلم من وعي فطري متأصل قاده في اتجاه القراءة القصصية ليمكن لموهبة التشكيل السردي . ومن الطريف أن الأديب الشاب المتطلع لأن يكون شاعرا لم يذكر اسم شاعر أو ديواناً قديما قرأه ، على أهمية هذا التواصل مع الماضي بالنسبة للشعر ، وتراجع درجة الأهمية بالنسبة للقص . ولقد توقف – فيما بعد – عند هذه الكتب الثلاثة ، وتجاوزها إلى ما يشاركها في محتواها أو شكلها ، ولكنه لم يبدأ بها ، وهنا حدثت الفرقة بين مدخل القراءة ومدخل التأليف ، إذْ حظى “الحب والصداقة” – في طبعته الأولى (1966) بأن يكون البداية . وهي بداية تناسب الكاتب كما تناسب القارئ وأكثر توفيقا عن تلك البداية (المفترضة) بالتراث القصصي الذي تعرّف عليه أولا ، ذلك لأن مكانة الشاروني في كتابة القصة ، تلك الفترة من أواسط الستينيات ، كانت قد استقرت تماما ، وكان منحاه التجريبي التحديثي قد أخذ أهم ملامحه ، ولم يكن من هذه الملامح استحياء بعض خواص القص التراثي ، أو استلهام بعض موضوعات تلك القصص من التراث ، بحيث يتحقق هذا البدء (المفترض) في دائرة التواصل والتكامل والتأصيل . أما والمسافة شاسعة بين نشاطه الإبداعي القصصي ونشاطه القرائي القصصي ، من ثم تكون محاولة الربط غير ممكنة ، كما يكون تجاهل الربط بمثابة قفزة في فراغ تفتقد التعليل !! أما موضوع “الحب والصداقة” فإنه يحقق حلولا وسطى كما يؤسس للموضوع الآخر القصصي ، ذلك لأن الكاتب قصر مادة كتابه على التراث النثري ، والتراث النثري في موضوع الحب خاصة هو في تشكيله أخبار ونوادر وقصص ، بل إن كتاب “طوق الحمامة” يرسل أضواءه القصصية في اتجاه القصة الاعترافية ، وعلم النفس ، والصورة الاجتماعية ، وهنا نذكر أن ابن حزم من بين سائر المهتمين بقصص الحب رفض عن عمد الاستعانة بالأخبار والقصص التراثية (المأثورة) عن الأعراب ، وقال عبارته المشهورة :”فسبيلهم غير سبيلنا” ، ومن ثم اعتمد على تجربته المباشرة ، ومشاهداته الحاضرة ، وهذا أمر أو ملمح شديد الحضور في قصص يوسف الشاروني ، ولا يعني هذا أنه استمد هذا الجانب من التراث بعامة ، أو من طوق الحمامة خاصة ، إذ هو من خصوصيات أسلوبه المبكرة ، التي حرص عليها طوال رحلته الإبداعية ، وهنا يمكن القول إن اتجاه الكاتب إلى موضوع الحب كان يوسع له مكانا وسطا بين القصة التي وضع اهتمامه فيها ، والعناية بالتاريخ (النفسي الاجتماعي) للأمة ، وهو موضوع يستجيب له حاسته الفلسفية التي غذتها الدراسة الجامعية . ولعلنا نتذكر إشارته إلى الشباب من الكتاب وحرصه على اجتذابهم إلى التراث الذي تناول “أرق الموضوعات بأرق لغة” ، فهذا حق الإبداع الأدبي ، كما يحرص على إرشاد هؤلاء الشباب إلى أن الفكر الإنساني سلسلة متصلة الحلقات ، وهذا حق الفلسفة .
ثانيا : من الواضح أن علاقة يوسف الشاروني بالتراث انتقائية ، بعيدة عن الاحتراف (من ثم عاشقة ولكن بعيدة عن التعصب) ولهذا تحركت بمرونة واستجابة لمطالب “فنية” ما بين “تراثنا العربي” و “التراث العماني” . أما تراثنا العربي فقد انقسم إلى شقين : تراث مكتوب باللغة العربية الفصيحة ، وتراث مروي بالعامية . وللوهلة الأولى سنكتشف أن الإطار القصصي هو العامل المشترك بين هذين الشقين . ولكن سمة أخرى ينبغي أن ندركها تتجاوز تلك الوهلة الأولى ، فالتعلق بالمستوى اللغوي للتفريق بين ما هو فصيح وما هو شعبي لا يكفي لوضع حد فاصل بين نوعين من القصص ، هذا إذا سلمنا بأن لغة “حسن العقبى” أو “الفرج بعد الشدة” -“فصيحة” – بالحد العلمي للفصاحة ، وليس بالحد الفني الذي يربط الفصاحة بدقة التعبير وملاءمته للحال ، وليس للمعجم ، فالفصاحة بالحد المعجمي قد تحققت في كليلة ودمنة ، وفي رسالة الغفران ، وما يرجع تأليفه لأصحاب الأساليب من مستوى ابن المقفع والمعري . أما القاضي التنوخي ، أو ابن عربشاه وأمثالهما فلم يكونوا من أصحاب الأساليب . وكذلك نتأمل الكتابة والرواية الشفاهية التي تعد فاصلا بين الشعبي وغير الشعبي ، إذ سنجد قدرا ليس بالقليل من المسجل كتابة ، والمحقق بسلسلة الرواة ، مثل أخبار وقصص الفرج بعد الشدة ، والمكافأة وحسن العقبى ، يرجع في أصله إلى حكايات مروية ، متداولة في المجالس ، فهذه الكتب أدب شعبي عريق في انتسابه إلى الإبداع العام ، والتذوق العام ، حتى بعد أن سجلت كتابة ، وحملت أسماء رواتها ، وجامعيها . إذا صح تصورنا هذا فإن الاتجاه الغالب لاهتمام يوسف الشاروني بالتراث العربي كان يستهدف استخراج النوازع الشعبية ، وفنون الحكي الشعبي من تلك الحكايات ، أو النصوص التراثية ، سواء كانت محسوبة – في الإدراك السائد – على التراث الشعبي ، أو التراث “الرسمي” أو “الكلاسيكي” .
إن هذا المسلك الخاص – غير المسبوق – في حرية التنقل بين الفصيح والعامي – أو الرسمي والشعبي ، يدل على أن ما يبحث عنه يوسف الشاروني في هذا التراث ليس اللغة ، أو هو عنصر ليست اللغة مصدره الوحيد . إنه معنّى بالتراث القصصي من حيث هو بناء ، ومن حيث هو موقف من الكون (وليس من الحياة وحسب) ومن حيث هو حلقة أساسية في سياق حضاري تتنقل مراكز الثقل فيه بين الحضارات العالمية . وهو في بحثه بين هذه القضايا : الفنية – الحضارية – الفلسفية ، يضع عينه على حركة الأدب العربي المعاصر ، والاتجاهات النقدية السائدة . وفي مقدمته لكتاب “مع التراث” وتحت عنوان :”التقليد والتجديد” يفجر قضايا مهمة ينبثق عن موقفه من هذا التراث ذاته . فبعد المبدأ العام الذي أشرنا إليه آنفا ، الذي رأى فيه أن الاعتصام بالتقاليد هو الأساس ، وأن التطور حتمي ، وهذا التمسك بالتقاليد هو الذي يعصم التطور والتجديد من العشوائية والذوبان في الآخر.. بعد هذا المبدأ العام يخصص حركة التقليد والتجديد بالدب ، فيقول :
“إن الأشكال الأدبية تحتاج من حين لآخر إلى إعادة صياغتها من جديد ، بل هي أحيانا تختفي لتبعث في صورة جديدة” .
ويقول :
“تقدير الجديد لا يأتي إلاّ نتيجة لإتقان دراسة القديم وتذوقه”
ويقول :
“ليس المجدد هو من يجهل القديم أو لا يستطيع تذوقه ، بل هو من أتقن دراسته ، وتذوقه ، ثم تجاوزه ، لأن مهمته أن يضيف”
وهذا تأسيس لما يريد أن يصل إليه من وضع أساس يجمع بين طبيعة الإبداع الأصيل ، والتلقي الواعي في دائرة من التكامل . فالأعمال التراثية الجادة ، الخصبة تقرأ في كل عصر قراءة مختلفة ، فنحن لا نستطيع أن نقرأ هذا التراث الواصل إلينا كما كان يقرأ زمن كتابته ، لأن قارئ التراث الآن لا يستطيع أن يقرأه بمعزل عما وصل إليه عصره من إضافات ، وهذه القراءة الواعية المستولدة للجديد ليست تمحلا أو لعبا ، فهذه الأعمال التراثية الجادة حبلى بهذه الإضافات . هذا دخول آمن إلى نظرية التلقي ، وربط واع إلى قضية التراث ، وإلغاء لحاجز موهوم بين التراث والحداثة .
ثالثا : لقد اختار يوسف الشاروني من التراث العربي نصوصا منشورة محققة ، وهذا يعني أنه لم يقبل عليها بقصد تقديم “صيغتها” الصحيحة الموثقة إلى القارئ ، أو أنه ينقل تلك النصوص من عصر “المخطوط” إلى عصر “المطبعة” . إنها جميعها نصوص محققة مطبوعة ، بل ربما تكرر تحقيقها ، وقد أشار إلى هذا ، من ثم فقد اختار لعمله مجالا آخر ، هو الأكثر ملاءمة لنشاطه الإبداعي النقدي ، وهذه إحدى علامات التكامل في وعي الكاتب وتكوينه الثقافي .
وهذه بعض أمثلة من إضافاته الفكرية والنقدية المهمة ، التي يستخرجها من هذا التواصل المستمر مع التراث ، ووعيه بمذاهب الإبداع والنقد عبر العصور .
- فحين يطرح السؤال (القضية) : هل عرف العرب القصة ؟ يبدأ من انتقاص “رينان” لقدرة المخيلة العربية ، ويرفضه ويتهمه ، ويصف المرددين لمقولته بأنهم “جوقة” ، ويتلمس بذور القصة عند العرب في قصص الحيوان كما تتجلّى في الأمثال العربية ، وهذه الأمثال متأصلة في أرض الثقافة العربية ، تسبق أي اتصال حضاري ، ومن ثم يخلص إلى أن “العرب عرفوا قصة ما قبل المطبعة كما عرفها الأوربيون” وبهذا يستند تطور فن القصة في أوروبا إلى أمر آخر لا علاقة له بفن الأدب في ذاته ، وهو اختراع المطبعة ، فالقصة الشفاهية تختلف عن القصة المطبوعة ، من ثم يرى – بحق – أنه ينبغي أن نحرر مصطلح قصة ، ورواية من مطالب وخصائص القصة المطبوعة ، وفي هذه الحالة لن نقول إننا أخذنا فن القصة عن الغرب ، أو أن التراث العربي لم يعرف هذا الفن القصصي .
- وحين يعرض لأدب الاعتراف في تراثنا العربي يلاحظ ما هو معروف من أن النشاط العربي في هذا المجال اكتفى بالوقوف عند حد “السيرة الذاتية” ، ولم يتوغل إلى مساحة “الاعتراف” ، فجاءت السير العربية وقد اتجه كتابها إلى إضاءة ما يتميزون به من نشاط خاص ، كالتصوف أو القتال ، أو الطب ، منصرفين عما يتجاوز حدود الوجود العام ، الإنساني ، العقلي ، إلى السلوكيات الخاصة ، وما يتصل بها من نزوات أو شذوذ ، لا يجدون فائدة أو جمالاً في ذكرها ، بعكس صراحة فن الاعترافات في الغرب . إن إضافة يوسف الشاروني في هذه القضية تعتمد على توسع وتنظير في قراءة تجليات الحضارة العربية ، بل الحضارات الشرقية ، حتى قبل عصر الأدبان السماوية . إذ يشير إلى أن الفنون التشكيلية ، ومنها التماثيل ، في تراثنا – على إطلاقه – لم تعرف العري ، فالعزوف عن تعرية الجسم الإنساني في فننا التشكيلي الشرقي هو ثمرة نازع روحي ونفسي (حتى قبل انتشار الأديان السماوية) هذا النازع هو الذي يحيد بنا عن تعرية نفوسنا حين نتحدث عنها .
- أما اللمحات النقدية المنبثة في أثناء الدراسات التراثية فإنها تعكس مدى الخبرة بهذا التراث ودقتها من جانب ، والقدرة على إغناء قراءة الإبداع التراثي بالوعي النقدي الحديث .
فيشير في دراسته عن الحب في تراثنا العربي إلى أن الجاحظ عرض لرأيه في الحب في موضعين : في كتاب الحيوان ، وفي رسالته عن العشق والنساء ، وكذلك يشير إلى أن السراج – مؤلف : مصارع العشاق – ربط بين الحب والموت. وفي دراسته عن “الصاهل والشاجح” لأبي العلاء المعري يذكر أن إنطاق الحيوان بلغة الإنسان كان لونا أدبيا معروفا من قبل أبي العلاء ، إلاّ أن إنطاقه بالشكوى من ظلم الإنسان كان هو الجديد ، الشائع في أدب القرن الرابع الهجري. ثم يتعقب مواضع الإشارة إلى الحيوان في مختلف مؤلفات المعري ، بما يدل على دأب وتعقب للموضوع .
وحين يعرض لرسائل إخوان الصفاء فإنه يستخرج منها دلالتين :
- حرية المعرفة .
- التأليف الجماعي .
فإذا توقف عند إحدى هذه الرسائل ، وهي أقربها إلى الفن القصصي ؛ رسالة شكوى الحيوان من ظلم الإنسان ، أو كما اختار لها عنوانا فرعيا شارحا :”الإنسان يحاكم نفسه” ، فإنه يقرب شكل الحوار فيها إلى حوار المسرح الذهني ، وأن الطابع المسرحي غالبة على هذا العمل حيث تقدم الشخصيات بصيغة درامية تمزج بين الفعل والحركة . وفي قراءته النقدية المتميزة لهذه الرسالة ذات الطابع الدرامي يغني تلقينا لها بأن يقول إن محاكمة الإنسان لنفسه فيها محكومة بانتصاره ، محسومة لصالحه ، فهي محاكمة صورية مقررة الحكم سلفا ، اشبه بتلك المحاكمات السياسية في النظم الدكتاتورية .
أما ملاحظاته الأسلوبية فإنها تكشف عن هذا الوعي النقدي الجمالي العميق ، والخبرة الحياتية المتوسعة ، فلأن الكركي يطير في الجو صفين صفين ، فإن الطاووس حين يقدمه يستخدم المثنى في التعريف ، كما يجعله يستخدم المثنى في تسبيحه تعبيرا عن هذه الظاهرة الخاصة به ، إذ يقول الطاووس :
“وأما الكركي الحارس فهو ذلك الشخص القائم في الصحراء ، الطويل الرقبة والرجلين ، القصير الذنب الوافر الجناحين ، وهو الذاهب في طيرانه في الجو صفين ، الحارس بالليل نونبتين ..” إلخ . وكذلك تميد بمبدأ التوازن في تكوين محتوى كتاب “المكافأة وحُسْنُ العقبى” ما بين الجزاء الحسن ، والجزاء السيئ ، إلى أن يكون التوازن فنيا في بناء القصة ، وموسيقيا في تكوينها اللغوي الصوتي.
وحين يقرأ حكايات السندباد أو رحلاته يمدنا بخبرة خاصة ، إذ يلاحظ أن شخصية السندباد لا تتطور ، كأنما لا ذاكرة له ، إذ لم يستفد من أية خبرة سابقة ، وهذا المنحى الذي فرض عليه من صانعي حكاياته قد أمكن تحويله من السلبي إلى الإيجابي ، فوظف توظيفا فنيا مؤثرا ، فلولا هذا النقص فيه ما تكررت رحلاته ، ولاستوعب من دروس الخطر ما يردعه عن تجديد المحاولة .
(3)
إن كلية النفس ووحدة الملكة المفكرة وعودة الفروع إلى أصل أو بؤرة مما هو أصيل في الشخصية الواعية تأبى أن تتشرذم الملكة أو تتعارض المقدرات . بعبارة أخرى .. إن هذا المحور التراثي لابد سيتبادل التأثير والتأثر مع المحاور الأخرى ، ولا يتصور أن يتجمد هذا الإحساس الحي بالتراث وأن يظل حبيس اللحظة التي ينفتح فيها قول مباشر من صميم القضايا التراثية . من ثم .. سيكون من الواجب أن نرعى أطياف الترا، وأمشاجه ، ومذاقاته .. المتسربة في جوانب مختلفة من أنشطة يوسف الشاروني ، تلك الأنشطة التي تتجاوز الإبداع القصصي إلى الاهتمام بالأدب العماني ، وإن كان هذا بمثابة استجابة مباشرة لعلاقة عملية ، فلن يغيب عن البال أنها استجابة حرة ، لم تكن مهمة عمل ولا شرطا فيه . لقد تعددت مسارات هذه الاستجابة لخدمة التراث وكان الانتقال بحكايات وخرافات شعبية من مستوى التداول الشفاهي إلى التسجيل الصوتي ، فالكتابي حفاظا على هذه الآثار أن تندثر . إذ لاحظ أن الجيل الحالي مشغول بالثقافة التلفزيونية ، مما يهدد هذه الفنون الشعبية في وجودها ، مع ما تضيء من صفحات الماضي وثقافته وعقائده وأعرافه ، مما يهتم له المؤرخ ، والباحث الاجتماعي ، والنفسي ، فضلا عن الأديب .. ولقد دلت مقدمة الكاتب لأحد هذه الكتب ، وهو “قصص من التراث العماني” على وعيه وقصده إلى كل هذه الجوانب .
وكما امتد نشاطه التراثي إلى ما هو شعبي إقليمي خاص بعمان ، وليس تراثا عربيا مشتركا ، فكذلك امتد إلى ما هو منتسب إلى العربية بعدها المرجع والإطار اللغوي الثقافي حتى وإن كان المؤلف غير عربي ، وذلك حين اهتم بكتاب “عجائب الهند” لمؤلفه بُرُزْك بن شهريار ، وهذا الكتاب يصفه خيري شلبي في تقديمه له بأنه أكثر إشارة من حكاية ألف ليلة ، “وأنه كتاب يجمع بين الحسنيين : الإثارة الفنية التي تقدمها هذه الحكايات ، كما رواها أصحابها بتلقائية وتدفق وحرارة واقعية ، والغثارة العلمية التي تقدمها هذه الدراسة الأدبية العلمية معا ، بقلم واحد من أساطين القصة العربية والنقد العربي” . ليس في هذا التقديم مبالغة ، فقد بذل الشاروني في خدمة هذا الكتاب النادر ، المحقق ، الموثق ، ما يتجاوز التحقيق والتوثيق ، بأن منحه وجودا حقيقيا من خلال التحليل ، وتقصي المنابع ، والمقارنة ، والموازنة ، وتعقب الأشباه من السوابق واللواحق .. وهذه الدرجة من الوضوح العلمي هي التي تمنح أي نصّ تراثي أو غير تراثي حياته الحقيقية ، القابلة للتفاعل ، والنمو ، والتشعب عبر إبداعات أخرى جديدة ، هي بمثابة قراءات جدلية مع هذا الأصل القديم .
هناك أمران آخران ، لا ينفرد بهما يوسف الشاروني في نشاطه المتنوع ، ولكن اهتمامه الكمي والكيفي أو النوعي يعطي مؤشرا إيجابيا ليس بعيدا عن تأثره بهذه الحالة العاكفة على التراث المشغوفة به . الأمر الأول ما هو نقيض أو معاكس للتراث ، في مجال القصّ خاصة ، وهي القصة التنبئية ، الضاربة بحدس الاحتمال في حركة المستقبل، مما جرى العرف النقدي على تسميته : قصة الخيال العلمي . إن كتابات يوسف الشاروني هنا ، في جانب التأصيل الفني لهذا النوع ، كما في متابعة إبداعات كتاب قصة الخيال العلمي في مصر ، وفي أنحاء الوطن العربي ، تحقق السبق ، والغزارة ، والدقة النقدية . ومما يحتسب له أنه من بين القلة من النقاد الذين اهتموا بهذا النوع من الكتابة الفنية .
الأمر الآخر العناية الواضحة بشخصيات الأدباء والمبدعين ، فضلا عن الرواد القدماء المنتمين إلى عصور التراث من أمثال أسامة بن منقذ ، وابن ماجد البحار العماني الشهير . وقد صدر له أخيرا كتاب “مع الأدباء” الذي قامت مادته على رسم حيوات أهم شخصيات النهضة الفكرية والأدبية ، مثل أحمد أمين ، والزيات ، والعقاد ، وهيكل ، وتيمور .. ويكتسب هذا الاهتمام بالشخصيات دلالة نفسية وإنسانية رفيعة حين يكتب عن معاصريه من أنداده في العمر ، ومن بعدهم ، مثل عبد الرحمن الشرقاوي ، وسعد الدين وهبة ، وسليمان فياض ، وأبو المعاطي أبو النجا وغيرهم . إن الخدمة الجديرة بالتقدير أن هذه الأسماء على شيوع المعرفة بها ، وتداول أسمائها ، لا يكاد القارئ لها يهتدي إلى المعرفة بثوابت حياتها من الميلاد إلى الثقافة ، والنشاط العملي ، والمؤلفات .. إلخ . إن المعاصرة حجاب .. هكذا قالوا ، ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة ليوسف الشاروني ، الذي نشر أزهار كلماته المتعاطفة في أعناق عشرات من أدباء الوطن العربي .
ولكن : لماذا يعد هذا الضرب من النشاط البحثي أثرا من وحي التراث ؟
سنلاحظ أولا أن الشاروني يكاد يكون نسيج وحده في هذا الاهتمام .. أو على الأقل بهذا الحجم من الاهتمام . أما لماذا التراث ؟ فلأن عناية التراث بالشخصية لا يعدلها اهتمام آخر ، كما لا ينافس التراث العربي فيها تراث آخر . إن التاريخ الإسلامي نفسه مكتوب (على تعدد الكتابات) على هيئة تاريخ شخصيات : أنبياء وخلفاء وملوك وسلاطين وقادة !! هذه خاصية واضحة يدركها أو يتشربها كل من يعايش هذا التراث العربي .. فإذا كان الاهتمام بالشخصية شعاع من التراث انعكس على عقل يوسف الشاروني فإن هذا التعاطف الدمث الذي كتب به عن تلك الشخصيات شعاع من قلبه المصري الذي يعتنق السلام والحب ويرعى المعرفة فطرة وسليقة ..
هل يمكن أن نختم هذه الفقرة بوقفة عند الإبداع القصصي ليوسف الشاروني ومدى حضور التراث العربي فيه ؟
أعتقد أن هذا الموضوع لا يصلح أن يكون فقرة ختامية في بحث يحاول أن يكون شاملا . إنه يستحق أن يكون موضوعا خاصا ، وأن تكون بدايته الإحساس باللغة ، وبناء الجملة ، والتشكيل الإيقاعي للأسلوب ، ثم يمتد البحث ليشمل طريقة انتقاء الحدث ، والميل إلى الغرائبية والقدرية ، وإسباغ ثوب المألوف عليهما .
سأشير إلى أمر واحد ، وإن يكن التمثيل جزئيا ، فإنني أرجح صواب التمثيل وقدرته على أن يرتقي إلى مستوى الخاصية الفنية ، وهذا الأمر يتعلق بالزمن في القصة ، أو الزمن السردي . إن يوسف الشاروني الذي قرأ بتمعن إبداعات عالمية لكبار كتاب هذا الفن : القصة القصيرة ، من تشيكوف إلى موباسان ، وإدجار ألان بو ، وغيرهم ، لا يخفى عليه أن القصة القصيرة تؤثر المدى الزمني القصير ، وأن هذا التركيز الزمني جزء من شعرية القصّ ، ودافع في اتجاه درامية التشكيل . ولكن هذا الوعي “النظري” – ربما – تعارض مع وعي آخر مصدره التراث ، أو هو أحد مصادره الأساسية ، وهو ما أشرنا إليه سابقا من اهتمام بالشخصية ، ليس في مثولها الآني ، وإنما في امتدادها الحيوي التاريخي .. ومن هنا سيطر على الزمن في قصصه القصيرة ميل إلى الامتداد ، بقصد الكشف عن الجذور ، والتعليل للدوافع ، ورصد التقلبات .
نستطيع أن نقرأ قصة “العشاق الخمسة” ، أو “المعدم الثامن” أو “الطريق” أو “الوباء” ، وهي قصص متقنة ، بل إن قصة “الطريق” تدخل في نسق “الشيئية” ، وتضع تحت المجهر ، وتعرض بآلات التصوير البطيء جدا ، ما لا يزيد عن بضع لحظات أو دقائق ، تقارب ، ثم تواجه ، ثم تقاطع فيها شخصان ، كان بينهما لقاء قديم جدا ، نسيه كل منهما ، أو نسي الشخص ، وإن ظل شيء ما عالقا بالذاكرة عن طابع الشخصية . مع هذا التركيز القوي المتوازن بين عنصري الزمان (الخارجي) والمكان (الطريق) في القصة ، فإن الكاتب يرجع بالذاكرة إلى عدة أعوام مضت قد تجاوز العشرة ..
وفي قصة “قديس في حارتنا” ، وهي قصة فلسفية نفسية متفردة بنموذدجها ، تبدأ بعم إسماعيل في مقابل الراوية ، أو السارد للقصة : “أنا أعرفه منذ زمن طويل … منذ كنت صبيا ألعب مع أصدقائي في حارتنا” …
“ولقد حدث ذات يوم أن تشاجر عم إسماعيل مع زوجه الشابة “
هنا نلاحظ إطلاق الزمن ما بين وصفه بالطول ، أوتنكير إدراكه بأنه ذات يوم حدث كذا .. والمهم أن الرجل قضى خمس سنوات (وهذا أول تحديد) في مستشفى الأمراض العقلية !! ولكنه لا يلبث أن يطلق التحديد السابق مع عقاله ، ويفتحه بما يتجاوز السنوات الخمس :
“في هذه الأثناء كنت قد كبرت ، وتزوجت ، وأنجبت لي زوجي طفلا ، وطفلين”
وينتهي اللامحدد .. إلى محدد مجهول : “لكن حدث ذات يوم” – “وقد حدث بعد ذلك بأيام قلائل ” – ولقد مات لي طفل وأنجبت لي زوجي طفلا آخر” – “فقد حدث في غحدى وقفات عيد الأضحى” – “ولقد مضى شهر وشهر ، فما كان الشهر الثالث” .
“فلقد تقدمت بي الأيام ، وكونت بعض الثروة ، وهأنذا أنوي أن أزوج ابني في الأيام القليلة المقبلة ..”
المفارقة التي تستحق أن نتأملها بروية .. أن هذه الأزمنة – إلا القليل منها – تصدر عن وعي الراوية ، وتخصه ، في حين خضع عم إسماعيل – جوهر التجربة في القصة الفلسفية – للزمن النفسي ، المتماوج ، المنطلق بلا ضفاف تحده .. أو تحدّده .