سجادة حمراء صغيرة

سجادة حمراء صغيرة

سجادة حمراء صغيرة

حين تنحصر العلاقة – مؤقتا – في كتابة مقدمة لكتاب عن شاعر ، ما النغمة الملائمة التي ينبغي عزفها في حفل استقباله ؟ استبعد أن تكون ” دراسة ” عن جانب من خصائص فنه ، فهذه تمثل جسد الكتاب ، وليس رأسه ( أو مقدمته ) فإذا تحدث كاتب المقدمة عن علاقته بالمحتفى به فقد انتقل بما هو عام إلى مستوى ما هو شخصي وخاص ، ولست أبرئ نفسي من شعور خاص ، معجب ، بهذا الشاعر ، محمد إبراهيم أبو سنّة ، رجلا دمثا راقيا ، وشاعرا له ثوابته الفنية والفكرية ، كما أن له اجتهاداته وكدحه في سبيل تمكين أسلوبه وتقنياته من الإفضاء بأسرار عالمه الخاص وتجاربه الروحية والعملية ، ومثقفا صاحب رأي ورؤية في أهم ما يعترض حياته من أحداث على أصعدة مختلفة . على أنه طوع حياته لجانب الشعر فيها ، فلم يكن نقيضا لما يبدع ، وهذا مستوى نادر في صناعة الشعر ، ولو فتحنا باب القول في العلاقة بين الجانب العملي والجانب الفني في حيوات كثير من مجايليه خاصة لتكشفت أمور تؤسى أصحاب الضمائر ومن يؤمنون بشرف الكلمة وأمانة الإبداع .

ليس هذا أول اهتمام بالشاعر أبو سنّة في شكل الاحتفاء وإصدار كتاب عن إبداعاته ، فقد أصدر المجلس الأعلى للثقافة ( لجنة الشعر ) كتابا موسوعيا جامعا ( 585 صفحة ) عام 2007 ، تضمن جهود اثنين وعشرين باحثا من أعلام نقادنا ومبدعينا ، حرثوا أرض دواوينه الإثني عشر ، ما بين : ” قلبي وغازلة الثوب الأزرق ” – عام 1965 ، ” وموسيقى الأحلام ” – عام 2004 فاستخرجوا من طبقاتها الظاهرة والخفية الكثير من الكنوز والأطياب والأسرار . ولعله من واجب هذه المقدمة – فيما أرجح – أن تعيد إلى الذاكرة عبر اختيارات مختصرة بعض ما قيل هناك توثيقا لمعنى الاستمرار . ومن بعد هذه الموسوعة النقدية عن شعر أبو سنّة ، ألف عبد الحكم العلامي كتابه عن الشاعر بعنوان : ” الخطا والأثر ” ( 2008 ) فكأنما كان الدكتور العلامي يستكمل ما يرى أنه لم ينل القدر المناسب من إضاءة المشهد الشعري عند أبي سنة .

هاتان محاولتان سابقتان على صدور هذا الكتاب الذي عهد إليّ بشرف تقديمه ، وهنا يلح سؤالان : ماذا يعني هذا الكتاب ( النقدي / التكريمي ) الثالث عن الشاعر في هذا المدى الزمني المتقارب ؟ وهل يعني الاتجاه إلى انتقاء عبارات دالة من الكتابين السابقين أنها تعبر عني ( أيضا ) أو بعبارة أشد وطأة : ليس لديّ اهتمام محدد أو خاص ، بجوانب تعنيني قصدا من تجربة هذا الشاعر الكبير ؟

بالنسبة للسؤال الأول لا يفوتنا أن احتفال الهيئة العامة لقصور الثقافة ، بالشاعر وشعره ، في يوم خاص ، بعاصمة الإقليم الذي شهد مولده ( محافظة حلوان ) وقريبا من مسقط رأسه ، له دلالته المميزة ، ففضلا عن أن هيئة قصور الثقافة ، ( وشعارها الثقافة الجماهيرية ) رسالتها العمل بين الجماهير ، وحين تحتفي بواحد من المبدعين فإنها تضيف إلى قيمته الفنية تعبيره عن الجماعة وتأثيره في وجدانها وفكرها ، وهذه سمة أساسية في شعر أبو سنة ، وفي مسرحه الشعري أيضا ، فإنها – الهيئة – تعمل على إحياء الرابطة بين العاصمة ( الأم ) والعاصمة ( الإقليم ) وحتى القرية الصغيرة لتضخ دماء الحياة وروح التواصل بين الشرايين والعروق وحتى الشعيرات لتسري دماء الحياة في جملة الجسد على استواء لا يتصف بالكمال إلاّ حال تحققه .

هذا بعض ما تضفيه احتفالية ” ثقافة حلوان ” في تكريمها الخاص للشاعر . أما السؤال الآخر فإنني أحمل من الثقة بفن هذا الشاعر واستحقاقه للاهتمام ( العلمي ) ما يحملني على ممارسة ” التحفظ ” أكثر مما يدفعني إلى إرسال القول الذي قد يبتسر الإشارات إذا لم تتح له فرصة الوقت والمساحة للتقصّي والاستدلال . لقد أبديت أفكار وملاحظات مهمة ، سواء في بحوث كتاب المجلس الأعلى للثقافة ، أو كتاب العلامي ، وكما كان بعض منها يضيف إلى فكرتي عن الشاعر أو ينظم هذه الفكرة ، أو يكشف عن جذورها أو تعدد وجوهها ، فإن بعض هذه الأفكار والملاحظات كان يدل على تعجله أو محدوديته بما يحتاج إلى إضافة أو إضافات واعية ، تتطلب ” إعادة ” الطرح العلمي الهادئ الموثق ، وهذا ما يستدعي التحفظ من جانبي ، فلعلي اقترح بعض هذا على الباحثين من طلبة الدراسات العليا الذين يقصدونني ، ولقد أشار كتاب العلامي إلى الرسائل العلمية ، والكتب التي اتخذت من شعر أبو سنة مجالاً للبحث ، وهي في جملتها ، ومع التقدير لمن قاموا بها ، لم تصل إلى اكتشاف ما ينبغي أن يعدّ خصوصية مميزة لفن هذا الشاعر :

فقد أشارت – غير دراسة – إلى ظاهرة ألفاظ الألوان ، وما تحمل من دلالات ورموز ( على سبيل المثال انظر في كتاب المجلس الأعلى للثقافة الصفحات : 314 ، 400 ، 499 ) ومع هذا التنبه فإنني أرى أن ظاهرة استخدام محمد أبو سنة لألفاظ الألوان تتجاوز ما ذكره الباحثون ، وأن لهذا الاستخدام خصوصية لا تنحصر فيما تعارفنا عليه على أنه لون أو وصف للون ، مثل الأزرق ، والأبيض .. الخ . لقد ركّب كثيرا من الألوان فصبغ بها حالات وجدانية وعقلية نادرة ، لا يتسع المجال لرصدها ، والاكتفاء بالمثل الواحد يفسد إدراكها ، بل أستطيع أن أزعم أن أبو سنة ، في جملة شعره، دأب على أن تكون لغته – بوجه عام – ذات طابع لوني مميز ، تراه صريحا ، كما تستخرجه انطباعا أو استخلاصا من السياق ، وهل الصبح ، والغسق ، والشروق ، والمغيب … وأمثالها تنحصر في الدلالة الزمنية ، أم أنها ذات مرجعية لونية كامنة في ضمير الشاعر ، كما في ذاكرة المتلقي ؟وهل الغصن ، والسحابة ، والرمل ، والحطب ، مجرد ” أشياء ” ، أم أن اللون الكامن فيها متحقق عند استحضارها ؟!

هذه إشارة أولى تستحق أن توضع تحت ضوء النقد الأسلوبي ( الإحصائي ) والنفسي وما يتأسس في طياته من رموز وأساطير . أما الجانب الذي أرجح أنه ينافس سابقه في طابع العجلة في طرحه فهو العناية بمبدأ بناء القصيدة ، أو الشكل الفني للقصيدة ، لا يختلف كثيرا في هذا من كتب عن جملة شعر أبو سنة ، أو من آثر ديوانا بعينه ، أو اختار قصيدة واحدة ، هذا مع ثقتي بأن مبدأ ” البناء ” هو جوهر الحداثة ، وميزة الفن العظيم ، لأنه الكاشف عن الرؤية للذات وللعالم ، وحامل سمة المرجعية الحضارية التي تستند إليها ثقافة الشاعر ، وهو المعبر عن قدرته على إعلاء تجربته المباشرة التي قد تكون مغرقة في طابعها الشخصي الخاص ، إلى عمل إبداعي يكتسب موضوعيته من تركيبه ( بنائه ) فينطلق أثره القوي في المتلقي عبر قدرته على تجاوز الشخص – بما فيه المؤلف – إلى النوع الإنساني أو النوع من الإنسان .

عبر ثلاثة دواوين فقط ، صدرت في مجلد واحد ( مختارات : أجراس المساء – رماد الأسئلة الخضراء – تأملات في المدن الحجرية ) – صدر عام 2008 – أجد من تقنيات البناء :

القصيدة المبنيـة على التناقض  : قصيدة : الموت بالبكاء والضحك ( ص 15 )

القصيدة المونولوج            : قصيدة : دون كيشوت على فراش الموت ( ص 57 )

التشكيل بطابع العديد      : قصيدة : طائر الغناء السجين ( ص 70 )

القصيدة الحوارية             : قصيدة : أترى يكون هو الوطن ( ص 77 ) وفيها يتحول

                                        التشكيل إلى مضمون ، فالوطن يتحقق بالحوار بين الأجيال .

القصيدة / الصورة الجدارية    : قصيدة : خريفية ( ص 102 )

القصــــيدة الســــــرديــــة    : قصيدة : حصار  ( ص 126 )

قصيدة النثر                          : رسالة إلى الحزن،( ص 193) وهذه القصيدة التي وصفها

الشاعر بأنها من قصائد النثر ، لا ينطبق عليها الوصف       ( القصيدة في 168 سطرا ) ومن سياقها استخرجت قصيدتي نثر ، بشروط سوزان برنار، طول الأولى 29 سطرا، وطول الأخرى 36 سطرا .

هذه القصائد ذات الطابع البنائي المميز ليست على سبيل الحصر ، وإنما تشير إلى أنواع ، وآمل أن تكون موضوعا ، أو مدخلا للبحث في بنية القصيدة في شعر أبو سنّة .

لقد أدليت بأقوالي ، فرشت سجادتي الحمراء الصغيرة احتفاء بالشاعر الكبير ، وآمل أن تتسع – على حجمها المتواضع – لأن نقف حول الشاعر ، في وسطها ، لنظهر حرارة الفرح بحضوره والتقدير لإنسانيته وجمال إبداعه الشعري . وأرى – ولعلي على صواب – أن اقتطف أزهارا / اقتباسات / من أقوال سابقة ، تعضد هذه الاحتفالية ، وتعيد إلى الذاكرة – كما سبقت الإشارة – بعض ما قد يندّ عن قارئ هذا الكتاب .

 

أولا : من كتاب المجلس الأعلى للثقافة

  • عن فنه الشعري ، وتحت عنوان : ” ميلاد جديد في السبعين ” يستهل الشاعر فاروق شوشة افتتاحيتة للكتاب التكريمي الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة ( 2007 ) بقوله : ” لا يوجد بين شعرائنا المعاصرين من يجسد – في حضوره الإنساني وسلوكه اليومي ، ومواقفه في كل شيء – معنى الشاعر وحقيقته مثلما يفعل محمد إبراهيم أبو سنة .. ونحن معه أيضا أمام نموذج دال على فيض الموهبة وتوهجها ، ساطعة ومستمرة ، وما يزال نهر إبداعه – في السبعين – يتدفق ويغدق ، ويترقرق، كما قال شوقي عن النيل ، ولم يزل يعطي لكل مجموعة شعرية – في سياق مسيرته الحافلة – مذاقها وتفردها ، لم يكرر ذاته الشعرية ، ولم يتوقف ماؤه عن التجدد والحركة ” .
  • وتكتب أميمة عبد الرحمن دراسة عن المفارقة في ديوان ” تأملات في المدن الحجرية ” فبعد أن تعرض للمصطلح ، وقيمته الفنية والفلسفية ، وأنواعه ، تقدم رؤية إجمالية موضوعية لمحتوى الدواوين الأربعة السابقة على الديوان الذي توقفت عنده – أو عن صيغ المفارقة فيه ، فتقول عنها : ” إنها تدور في فلك قضايا محددة هي : الحب والعاطفة ، والنضال الوطني والقومي ، والتأمل الحزين والفلسفي في الحياة ، وتكاد تتوازن هذه القضايا في هذه الدواوين الأربعة ، حتى إذا ما أصدر الشاعر ديوانه الخامس .. خفت صدى الوجدان الذاتي .. وعلت نبرة الوجدان الجمعي الذي يتضافر فيه السياسي الوطني والتأملي الفلسفي والاجتماعي الإنساني ، كما خفتت لديه تيمة أخرى كانت قد احتلت مكانا بارزا في تلك الدواوين ، وهي ثنائية القرية والمدينة التي ألحت على بعض أبناء جيله الذين جاءوا إلى القاهرة من الريف فأصابتهم صدمة المدينة بقدر من العزلة والاغتراب ” .
  • بعد سيل من أسئلة السائح عن عجائب مشاهداته في مصر المحروسة ، يأتي قول     ” أبو سنة ” في قصيدة بعنوان : ” مشاهدات دامية في مدينة لا مبالية ” :

يسألني السائح

ما اسمي ؟

كان الخنجر فوقي

كان المنقار الأحمر يدخل جمجمتي

وتستثير هذه الصورة النادرة خبرة الناقد أحمد عتمان بالتراث الكلاسيكي ، فيقول كاشفا عن مرجعيتها ، وموضحا فضل استقدام الشاعر لها ، وتكثيف الدال واتساع أفق التأويل في المدلول : ” وغني عن البيان أن عبارة ” كان المنقار الأحمر يدخل جمجمتي ” محملة بالمغزى الأسطوري لشخصية بروميثيوس سارق النار من أجل البشرية ، الذي عاقبه زيوس بأن أحال عليه نسرا ينهش كبده نهارا ليجدد الكبدليلا ويستمر العذاب والعقاب أبدا . وهكذا يصل أبو سنة إلى قمة النضج في التعامل مع التراث الأسطوري لأنه يكثف المعنى في كلمات قليلة ، ولا يثقل القصيدة بذكر الأسماء الأسطورية ” .

  • ويعرض علي عشري زايد في مناقشته لديوان ” رقصات نيلية ” لثنائية الحلم والواقع، وتحت عنوان فرعي عن المعجم الشعري يتوقف عند ثنائية أخرى – ضمن ثنائيات تلائم تكنيك المفارقة التصويرية ، وهي ثنائية ” النور / الظلام ” : ” حيث لا تكاد قصيدة في الديوان تخلو من مجموعة من المفردات المحورية المستمدة من نطاق هذه الثنائية سواء بطريق الترادف أو التضاد أو الاشتقاق أو غير ذلك من العلاقات اللغوية”.
  • ويبدي عبد القادر القط اهتماما بعدد من المفردات عالية التردد في شعر أبو سنة ، وفي مقدمتها النجمة والنجوم ، ويعقب على هذه الملاحظة بقوله : ” ولأن الشاعر يستخدم هذه الألفاظ الموحية للتعبير عن صورة العالم الخارجي في عالمه الباطني يضطر في كثير من الأحيان أن يزيد من دلالاتها وقدرتها على الإيحاء ببعض المشاعر النفسية الخاصة ، فيصفها بصفات هي في ذاتها أيضا ضرب من الرمز . والألوان وسيلة الشاعر الأولى إلى هذه الغاية ، وقد يكون اللون مرتبطا في الحسّ البصري بالموصوف ، وقد يجئ بعيدا عن وجوده المادي ليخلع عليه وجودا عاطفيا أو نفسيا خاصا ، وللشاعر ولع واضح بالأزرق والأخضر والأسود ….”.
  • حظي أبو سنّة من قلم لويس عوض الضنين بمقالتين : كوكبة الشعراء ، اهتم فيه بديوان ” البحر موعدنا ” ، ثم : أحزان الشعراء وفيه اهتم بديوان : ” مرايا النهار البعيد ” وفي هذا الديوان تخطف قصيدة ” الإسكندرية ” بصره إذ يرى فيها أجود قصائد الديوان ، وفي أعقاب عرضه لبنيتها يقول : ” وبعد ، أليست هذه القصيدة تعبيرا مركزا صادقا عن جوهر التاريخ ؟ ثم أليست هذه القصيدة خير مصداق لقول أرسطو إن الشعر أكثر صدقا من التاريخ لأن الشعر يتناول الكليات ، بينما التاريخ يتناول الجزئيات ؟ والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه علينا بعد قراءة قصيدة  ” الإسكندرية ” لمحمد أبو سنة : ترى هل يتحدث محمد أبو سنة حقا عن الإسكندر والإسكندرية أم أنه يتحدث عن كل جبار دانت له الدنيا وخرج بنتيجة واحدة ، وهي أن العظمة لا تكون عظمة حقا إلاّ إذا ترجمت نفسها إلى قيم الحضارة ” .

* * *

من الواجب أن ننبه إلى أن في المرجع السابق دراسات عالية القيمة لأساتذة فضلاء شارك بعضهم في مادة هذا الكتاب الذي نحن بصدده ، فلم نقتطف منهم ، كما أن أصحاب بحوث هذا الكتاب أحق بأن تتحدث عنهم كتاباتهم .

 

ثانيا : من كتاب : الخطا والأثر

والعبارة الأولى في هذا الكتاب : ” الحياة مواقف ” ، وهي مبدأ وجودي ، يومئ إلى  ” الالتزام ” ولم يكن شعر أبو سنة بعيدا عن ذلك ، وإن تجاوز التحديد أو التدرج الذي افترضه سارتر للالتزام ، إن الباحث ( الدكتور العلامي ) ينقل عن عبد الرحمن بدوي ، وعن سارتر ما يؤصل ماهية الفن وسعي المبدع إلى تحقيق عالم أكثر عدلا ، وأقرب إلى العقل والمنطق ، من ثم يتمرد على حياته الفردية ، ليجعل فرديته اجتماعية . وهكذا يربط بين الثلاثة أصحاب الشهوة المتحكمة – الساعية إلى إصلاح العالم : الفيلسوف والنبي والشاعر : ” لأن كلا منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه ، بل يجتهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه ، ويجعل دأبه أن يبشر بها، وقد يحمل الفلاسفة والأنبياء رؤية مرتبة للكون ، وقد يصطنعون منهجا مرتبا في النظر إلى نقائصه، وقد يبشرون بنظريات مرتبة في تجاوز هذه النقائص ، ولكن الشعراء يعرفون أن سبيلهم هي سبيل الانفعال والوجدان ، وأن خطابهم يتجه إلى القلوب ..”

لقد شكل العلامي الفصل الأول من كتابه ، متخذا نفس عنوان الكتاب ( !! ) والمهم أنه أضاف محورا مهما في شعر أبو سنة ، هو المحور الصوفي الذي وصفه بأنه رافد ومعيار ، كما بين أصالة هذا الاتجاه الصوفي وعمقه عند الشاعر بأن أعاد إلينا التذكر بإهداء ديوانه الأول وهو يفضي بهذا الذوبان الصوفي الكوني ، إذ يقول :

إن يكـن غيـري قــــد يعــزف في نـاي ذهب

فاغتفر يا شعـب أن اعـزف في نـــاي حطب

ليس فـي الآلة حسٌّ ، إن في الروح الطرب

أنا مــا جـئت أغنــــــــي ، إنمـا جـئت محـب

هذه البداية المبكرة تأصلت ، وتناسلت ، وتحورت ، وتشكلت .. وهذا موضوع آخر يحتاج إلى عناية خاصة تلحق بما أشرنا من مساحات تستدعي الشعراء والنقاد معا إلى تأملها ، واستيعاب ما تضمر من بشائر التجديد ، الذي كان دائما – عند هذا الشاعر – جسرا من النور يمتد ما بين ديوان، والذي يليه ..

 

اترك تعليقاً