السلطان الحائر
السلطان الحائر
* تأسيس أول : الكاتب ومجالات إبداعه
لأكثر من ستين عاما حمل توفيق الحكيم أمانة القلم في إخلاص فني وشجاعة أدبية ، يتجلى إخلاصه في تجديده المستمر ونزعته الإنسانية ، وتتجلى شجاعته في إبدائه الرأي في كل ما يمر بأمته من أحداث جسام ، وهو يقول هذا الرأي في صورة فنية وليس بطريقة مباشرة ، ولهذا أخذ مكانه الواضح رائدا للفن المسرحي في أدبنا ، وواحد من رواد الرواية أيضا .
تخرج الحكيم في مدرسة الحقوق وذهب إلى باريس بغية الحصول على الدكتوراه في القانون ، ولكن حاسته الفنية كانت قد نضجت فغلبته على أمره ، ورجع دون الدكتوراه ، ولكن محملا بتجارب ودرايات متنوعة،بل إنه كتب في باريس أول أعماله الفنية : رواية ” عودة الروح ” التي تعتبر بحق أول رواية حققت مستوى فنيا رفيعا واستهدفت غاية قومية نبيلة ، ثم أعقبها بأولى مسرحياته : ” أهل الكهف ” التي لفتت إليه الأنظار ، وبخاصة حين أشاد بها طه حسين ، على الرغم من أنها من مسرحياته الذهنية التي لم تنتشر جماهيريا ، وعرضت على خشبة المسرح زمنا قصيرا جدا . ولقد عرف الحكيم ” بأديب البرج العاجي ” و” عدو المرأة ” ، وهذا كله من قبيل المبالغة والتسرع أو الدعابة والدعاية ( مثل لبس الكاسكيت ، والإمساك بالعصا المعقوفة ، وتوجيه خطابه إلى الحمار ) ، حقا لقد بدأ الحكيم بمسرحيات عرفت ” بالمسرحيات الذهنية ” وهي وليدة التأمل والجدل النظري وليست مستمدة من حركة المجتمع وحياة الناس ، ولذا فإنها تكتب للقراءة لا للتمثيل ، ولكنها مجرد مرحلة لها دوافعها ، أما المضمون الاجتماعي والسياسي فإنه موجود في الكثير من أعماله ، وكيف يمكن أن نهمل ” مسرح المجتمع ” و ” يوميات نائب في الأرياف ” و ” شجرة الحكم ” و ” بنك القلق ” وغيرها ، كما سنجد في مسرحية ” السلطان الحائر ” مشاركة واضحة في الاتجاهات السياسية التي كانت سائدة في الستينيّات من القرن العشرين حين ألف هذه المسرحية .
لقد بدأ الحكيم بالمسرح الذهني ولكنه كتب المسرحية الاجتماعية مثل ” الصفقة ” و ” الأيدي الناعمة ” والمسرحية السياسية مثل ” أشواك السلام ” و “براكسا أو مشكلة الحكم ” وكلتاهما في قالب رمزي ، والمسرحية الإنسانية مثل :” رحلة إلى الغد ” و” الطعام لكل فم” . كما جرب الحكيم في القالب المسرحي فتجاوز القالب التقليدي إلى مسرح العبث أو اللامعقول – وهو يفرق بين المصطلحين – في ” الطعام لكل فم ” ، و ” يا طالع الشجرة ” ومزج الشكل الروائي بالشكل المسرحي في ” الورطة ” وكذلك ” اجتهد ” في مجال لغة الحوار فكتب مسرحية ” الصفقة ” – بما أطلق عليه : اللغة الثالثة ( التي تقرأ معربة ويمكن الوقوف عليها بالسكون فتبدو أقرب إلى العامية ) .
وللحكيم عدد قليل من الروايات أهمها : ” عودة الروح ” و ” يوميات نائب في الأرياف ” و ” الرباط المقدس ” وهي روايات جيدة صنعت تيارا واضحا في تطور فن الرواية العربية .
وله دراسات نقدية ، يحاول في بعضها أن يشرح فنه وأسسه الأسلوبية والفكرية ، أو يطرح بعض المشكلات المتصلة بالثقافة والحضارة مما يؤثر في تطور الأدب العربي وقدرته على تجديد نفسه ، ومن أهم هذه الدراسات ” فن الأدب ” و ” تحت المصباح الأخضر ” و ” التعادلية ” و ” قالبنا المسرحي ” . أما كتابه ” زهرة العمر ” فقد صور فيه جانبا من حياته في باريس ، وموقفه من المذاهب الأدبية الغربية في ذلك الحين ( منتصف عشرينيات القرن العشرين ) .
** تأسيس ثان : مصدر فكرة المسرحية
لا بد أن تلفتنا فكرة هذه المسرحية والقضية التي قامت عليها وأسباب طرحها في ذلك الوقت الذي ألفت فيه ، وإذا جاز لنا أن نجمل فكرة المسرحية في أنها تصور الصراع بين القوة والقانون ، فإننا لا نستطيع أن نغفل أن الحكيم رجل قانون في الأصل ، وشغل منصب وكيل النائب العام ، كما عمل مفتش تحقيقات بوزارة المعارف بعد ذلك ، ومن ثم فإن مثل هذه القضية ( أن الحياة لا تستقر والعلاقات الاجتماعية لا تأخذ صورتها الصحيحة إلا بسيادة منطق العدل) – هذا التصور ليس ببعيد عن مرمى اهتمامات الحكيم الأساسية ، فضلا عن أن الجانب الذهني الذي يتجسد في مسرحية الصراع بين الأضداد مستمر عنده كتيار وهذا من صميم التشكيل للمادة الدرامية التي لا تقوم إلا على منطق المواجهة بين الأضداد ( الحق في مواجهة القوة – الفردية في مواجهة الجماعية – الوطنية في مواجهة الخيانة – الوفاء في مواجهة الغدر – الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية .. الخ ) ، ولكن التوقيت في طرح المواجهة بين القوة والقانون هو الذي يدعو للتساؤل ، وبصفة عامة فإنه منذ أوائل الخمسينيات بدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية في عديد من دول الوطن العربي ( بخاصة سورية ثم مصر) ، وكثيرا ما ترتب على هذه الانقلابات تعطيل الدستور ، والحياة النيابية ، وتعطيل القوانين أحيانا ، بل ربما أدى الأمر إلي تعطيل أحكام القضاء بدعوى أن هذه الأحكام تستند إلى أوضاع قديمة ملغاة ولا تحقق الاندفاع في طريق الإصلاح بالسرعة المطلوبة . ومن الطبيعي أن ينظر الحكيم – رجل القانون ذو المنطق المرتب والتأمل الهادئ – إلى هذه الظاهرة بانزعاج وشك وتخوف من النتائج التي ستنتهي – أو يحتمل أن تنتهي – إليها . يضاف إلى هذا السبب المباشر ( المصري ) سبب أخر ، فقد عمل الحكيم مندوبا لمصر في اليونسكو بجنيف نحو عامين ، وحين عايش تجربة العمل الدولي على هذا المستوى لابد أن يكون قد روعه خفوت صوت الحق واستخذاؤه أمام جبروت القوة ، فقرارات الهيئة الدولية تعبر عن حق دائما أو غالبا ، ولكنها لا تجد طريقها إلى التنفيذ إن لم تساندها القوة ، فإذا انعدمت القوة انتهى القرار بمجرد صدوره ، وبقيت القوة تفرض الأمر الواقع شامخة مغترة لا تعبأ بقانون أو نظام .
من هذين المنطلقين نبعث مسرحية السلطان الحائر ، مع خلفية رجل القانون الذي نعرفه من قبل ونعرف كيف تنفست توجهاته في مسرحيات سابقة على هذه المسرحية .
وجد الحكيم جذور فكرة هذه المسرحية في حادثة طريفة روتها بعض كتب التاريخ ، منها كتاب ” النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ” لابن تغري بردي الاتابكي ( 813 – 874هـ ) – وكتاب ” بدائع الزهور في وقائع الدهور ” لابن إياس الحنفي ( 852 – 930 هـ ) وفيه يؤرخ لشخصية الشيخ العز بن عبد السلام ، في ترجمة مختصرة ، لا تخلو من مبالغة مألوفة في الإشادة بالكبراء ، يقول [ وفي هذه السنة ، أعنى سنة ستين وستمائة ، فيها ، في عاشر جمادي الأولى ، توفى شيخ الإسلام سلطان العلماء ، الشيخ عز الدين عبد العزيز أبو محمد بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي ، رضي الله عنه ؛ ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة ، وقدم مصر وأقام بها عشرين سنة ، وهو ناشر للعلم ، آمر بالمعروف ، ناه عن المنكر ، تغلظ على الملوك والأمراء ، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر ، وأخذ الأصول عن السيد الشريف الأموي ، وسمع الحديث من الشيخ سراج الدين عمر بن طبرزد ، وبرع في الفقة والأصول والعربية .
قال الذهبي في ” العبر ” : انتهت إليه معرفة المذهب مع الزهد والورع ، وبلغ رتبة الاجتهاد ، ولما دخل مصر بالغ الشيخ زكي الدين المنذري في الأدب معه ، وامتنع من الفُتيا لأجله ، وقال : ” كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين ، وأما مع وجوده فلا نفتي ” .
وهو أول من ألقى التفسير بمصر دروسا ، وله من المصنفات : تفسير القرآن ، ومجاز القرآن ، والفتاوى الموصلية ، ومختصر النهاية ، وشجر المعارف ، والقواعد الكبرى والصغرى ، وبيان أحوال يوم القيامة .
وكان له كرامات خارقة ، ولبس خرقة التصوف من الشهاب السهر وردي ، وكان يحضر عند الشيخ أبو الحسن الشاذلي ، ويسمع كلامه في علم الحقيقة ، ويحضر السماع ، وربما تواجد ، وكان ينظم الشعر ، ومن شعره قوله في إمام :
وبــــارد النيــة عنينهــــا يكـرر الـرعــــدة والهــزّة
مكبر سبعين في وقفة كأنما صلى على حمزة
قال ابن كثير : كان الشيخ عز الدين في آخر أمره لا يتقيد بالمذهب ، ويفتي بما أدى إليه اجتهاده .
وقال الشيخ جمال الدين بن الحاجب المالكي : ابن عبد السلام أفقه من الإمام أبي حامد الغزالي .
قيل ، فلما بلغ الملك الظاهر بيبرس وفاة الشيخ عز الدين ، قال : ” ما استقر ملكي إلا الآن ” ، وكان الشيخ عز الدين يزجره عن المظالم ، وينهاه عن ذلك ، انتهى ] .
لقد تعددت وجوه الاجتهاد الفقهي والتصوف والتفسير والبلاغة .. الخ ، هناك عبارة تدل على أن الشيخ العز كان ” يزجر ” الظاهر بيبرس عن المظالم ، وأن الملك الظاهر كان يتهيب مواجهة الشيخ واحتمال معارضته له . أما حادثة أنه اعترض على قرارات بعض أمراء المماليك ( وليس السلطان ) فقد رويت مرتين في ” النجوم الزاهرة ” ، منسوبة في إحداهما للشيخ العز ، وفي الأخرى لتلميذه ابن دقيق العيد ، وفي المرتين يسكت المؤلف عن كيفية انتهاء القصة ، فهل استسلم المملوك لحكم الشرع حين عرف أنه لا يصح له أن يقضي بين الناس وهو عبد مملوك ، أم أن الأمر الواقع فرض نفسه ؟!
ولكن كتابا ألفه ابن الشيخ العز عن والده يذكر أن المملوك هاجم بيت الشيخ مع ثلة من أعوانه ، وكان ينتظر أن يذوب الشيخ رعبا ، ولكنه فوجئ به يخرج إليه ويسأله عن حاجته ، بل يأمره بإغماد سيفه ، ارتبك المملوك الجبار وانكب علي يد الشيخ يقبلها ويسأله أن يدعو له ويسامحه !! وقد أشرت إلي هذا كله في كتابي عن الشيخ العز وهو بعنوان ” بائع الملوك ” .
كما ترى فإن القصة الحادثة يكتنفها غموض كثير وبخاصة في خاتمتها ، ولعل هذا ما حدا بالحكيم ألا يشير إلي الأسماء التاريخية ، وحتى لا يتقيد بالنص التاريخي والجو التاريخي ، ولقد أحسن بذلك ، لأنه منح مسرحيته مغزى إنسانيا شاملا ، وجعل القضية المطروحة قادرة على مغادرة إطارها الزمني المرحلي لتصير قضية كل عصر ، كما أفاد من الحرية التي منحها لنفسه بتجاهل أسماء الأعلام ، فغير في الأدوار ، ولون في الشخصيات ، وقدم مسرحية مشوقة ، قد يراها بعض النقاد امتدادا لمسرحه الذهني وليد تأملاته وأفكاره وليست صادرة عن تجربة حياتية معيشة ، ولكن هذا – على افتراض صحته – بعض الحق وليس كل الحق ، فليست هذه المسرحية شكلا من أشكال الجدل النظري كما كان الأمر في مسرحية ” شهرزاد ” أو ” أوديب ” مثلا ، فالسلطان الحائر كتبت لتمثل ، وقد نجحت على الخشبة نجاحا لا يمكن إنكاره ، وباستعراض النص سنرى عوامل التشويق والإثارة المتنوعة التي أسهمت بإنجاح العرض ومنحته حياة حقيقية بالرغم من وضوح النزعة الجدلية في بعض المواقف .
لا نستطيع ، حتى مع الجو التاريخي المملوكي في لغة المسرحية ومشاهدها ، وانتسابها للعصر المملوكي منصوص عليه في وصف المشهد الأول : ” ساحة المدينة ، في عصر سلاطين المماليك ” لا نستطيع أن نصف ” السلطان الحائر ” بأنها مسرحية تاريخية ، لأن شروط المسرح التاريخي غير موجودة ؛ من الاستعانة بشخصيات تاريخية ( حقيقية ) معروفة سواء في الأحداث المهمة أو غير المهمة ، والحرص على رسم صورة عصر المسرحية ، وإن يكن كما يراه الكاتب ( رؤيته أو وجهة نظره ) ، أما محاكاة الثياب أو اللهجة أو ألقاب الوظائف فإنها تعطي شعورا بالجو التاريخي ، ولكنها لا تكفي لتحديد زمن بعينه . لقد حرر الحكيم موضوعه المسرحي من قيد التاريخ ولهذا أطلق على شخصياته صفات وليس أسماء : السلطان والوزير والقاضي والنخاس ، والمؤذن ، والجلاد ، والغانية ، والإسكاف ، والخمار .. فليس فيهم من يحدد باسم يمكن أن يرجع إليه أو يشعر بالذاتية ، فكأنما هو – في سياق العمل – مجرد أداة لتقديم أمثولة أو حكاية شارحة طريفة .
عناصر البناء المسرحي
تعد مسرحية السلطان الحائر مسرحية تقليدية ( كلاسيكية التكوين ) فأحداثها تجري في ثلاثة فصول ، يتولى الفصل الأول التعريف بالشخصيات ، والتمهيد لتقبل الحدث الرئيسي في المسرحية وتحديد أطراف الصراع ، ويقوم الفصل الثاني بتنمية الصراع وتنويعه لكي يصل بالحدث الرئيسي إلى حائط مسدود تستحكم معه الأزمة ، ثم يأتي الفصل الثالث ليبلغ بالصراع ذروته ويمهد – بعد ذلك – للحل الذي ينبغي أن يكون مؤسسا على ما سبق من أحداث وطبائع شخصيات واحتمالات أي أن الحل لا يكون مفروضا على الشخصيات ، أو مجلوبا من خارج المسرحية .
إن المسرحية الجادة هي تلك التي نستطيع أن نستخلص جوهر مادتها الدرامية في شكل مقدمة منطقية ( المقدمة المنطقية The Premise ) ، كما سماها لاجوس آجري ، في كتابه : ” فن كتابة المسرحية ” وشرحها بأنها الفكرة الأساسية التي بنيت عليها الحكاية المسرحية أو الغرض الذي تهدف إليه . وهذه المقدمة مطلوبة حتى في المسرحية الكوميدية أو الهزلية ، التي لابد أن تقول شيئا أو تحقق هدفا ( فالجدية لا تعني الجهامة أو الغموض مثلا ) ، وبهذا يمكن أن نضع ” فكرة ” السلطان الحائر في شكل قضية منطقية تقول : إن الانتصار للقيمة ، والتمسك بها إلى النهاية يؤدي إلى الظفر حتى وإن صادف بعض أنواع الخذلان . ليس شرطا أن المؤلف المسرحي يجب عليه أن يحدد المحور الأساسي أو الهدف من المسرحية قبل أن يشرع في تأليفها ، فهذه الجوانب ( الأساسية ) يمكن أن تتوالد وتتشكل أثناء ممارسة التأليف ، والمهم أنه لا ينتهي من كتابة مسرحيته إلاّ وقد اهتدى إلى القضية التي تدور حولها ، والحكاية التي تعرض هذه القضية ، والهدف الذي توصل إليه ويريد أن يجتذب المشاهد أو القارئ إلى الانحياز اليه واعتناق موقفه .
بعد المقدمة المنطقية تأتي ” الحكاية ” ، ويفترض أن تكون مشوقة ، قادرة على إثارة الاحتمالات والدهشة عند المشاهد أو القارئ ، وقد عرفنا أن الحادثة الأصلية في هذه المسرحية لها ذكر في المصادر التاريخية ( وإن تكن موضع شك كبير أو استحالة ) ولكن الحكيم لم يتقيد بما ذكر في هذه المصادر ، وإنما طور الخبر المروي في اتجاه هدفه ( مقدمته المنطقية ) ، ولا نفضل تلخيص الحكاية ، فالنص المسرحي متاح لمن يرغب ، وليس فيه غموض يغري بالكشف والإبانة ، ولكن من المهم أن ننبه إلى أمرين :
– كيف تدرج الحكيم في الكشف عن موضوع المسرحية ، ثم : كيف حافظ على عنصر التشويق وظل المشاهد يقظا يتتبع تطور الأحداث واختلاف مواقف صانعيها حتى المشهد الختامي ؟
تبدأ المسرحية بمشهد المحكوم عليه والجلاد ، ونعرف أن الحكم صدر من الوزير ( باسم السلطان ) دون محاكمة،هذا دون أن نعرف الجريمة التي استحق بها الإعدام، ونعرف أن المحكوم عليه من أغنياء التجار وأثرياء النخاسين ، وحين تدخل ” الغانية ” في المشهد نعرف من النخاس ( المحكوم عليه ) أنه أرسل بظلامة وصلت السلطان ، فأمر بمحاكمته أمام قاضي القضاة .
وهكذا تنعقد المحاكمة ، بحضور : السلطان والوزير وقاضي القضاة ، وأثناءها نعرف أساس القضية التي صدر بسببها الحكم بإعدام النخاس ، هكذا يتحدد كل ما جرى قبل بدء المسرحية ، ويمكن أن نراقب الآن كيف تطورت الأحداث بدءا من مشهد المحاكمة . وبمثل ما تدرج الكاتب في الكشف عن القضية تدرج في الكشف عن طبائع الشخصيات الأساسية في المسرحية ، ففيها شخصيات متطورة ، اختلفت مواقفها تبعا لما تواجه من أحداث أو يتاح لها من المعرفة ، وأهم شخصيات هذا النوع : السلطان والقاضي ، فالسلطان بدأ منحازا إلى استخدام القوة في مواجهة المحنة التي وجد نفسه في دوامتها ، ولكنه – بعد تدخل القاضي وانحيازه إلى الشريعة والقانون وما يمكن أن يتحقق له من الخضوع للعدل ، تغير موقفه ، وصمد حتى تحقق له الظفر بعد أن تعرض للمهانة . أما القاضي الذي بدأ منحازا للشريعة والقانون ، وحرصه على تطبيقهما ، ورفضه أن يبحث عن حيلة ( مخرج من المشكلة )، حتى يقول صراحة للوزير : ” لست أنا الذي يطلب إليه البحث عن الحيل ” ، هذا القاضي المتصلب في الحق هو نفسه الذي أصدر أمره إلى المؤذن بأن يعلن عن صلاة الفجر في منتصف الليل ، ليتاح للسلطان أن يحصل على وثيقة العتق ويغادر بيت الغانية !!
أما الشخصيات الثابتة فأهمها الوزير ، الذي لا يهمه شيء غير مصلحة سيده السلطان ، ولا يعبأ بما دون ذلك ، حتى إنه على استعداد لاختلاق تهمة التجسس لحساب المغول وإلصاقها بالغانية ، فيقتلها الناس الغاضبون ، وتشاركه ” الغانية ” في صفة الثبات ، فإنها ظلت على طبيعتها طوال فصول المسرحية ، أما الذي تغير – فيما يتصل بها – فهو نظرة الناس إليها ، فهي عند بعضهم ” غانية ” ، وقد توصف بالعاهرة ، ولكنها – وقد برأت ساحتها وكشفت مكنون طويتها أمام السلطان ( الذي لا يملك من أمره شيئا ، بل هي التي تملك من أمره كل شيء ) فإنه يصفها بالسيدة المحترمة ، ويمنحها الياقوتة النادرة التي اقتلعها بسيفه من عمامة قائد المغول ، تقديرا لنبل أخلاقها .
وحين نتعقب عناصر التشويق في هذه المسرحية فإن الشخصيات المتطورة التي تنقلت بين المواقف المتضادة تعد من أهم أسباب التشويق ، لأنها تفاجئنا بما لم نكن نتوقع منها : هل توقعنا – بعد أن أعلن السلطان أن سيفه هو الأقدر على حسم الموقف – أن يرضى بأن يباع في مزاد علني وهو البطل الذي لا ينكر أحد عظمته ؟ وهل توقعنا أن القاضي الذي أعلن استعداده لبذل دمه من أجل إعلان الحقيقة يمكن أن ينتقل إلى حالة الخداع المعلن من فوق المئذنة ؟ ربما أراد الحكيم (وهو رجل قانون وخبرته في هذا المجال واسعة) أن يتهكم من ادعاءات من يعلنون أنفسهم حماة الحقيقة وسدنة العدل ، ومهما يكن القصد فإن هذا التحول في سلوك القاضي لم يكن متوقعا ،لبعد المسافة بين موقفه في الفصل الأول ، وموقفه في الفصل الثالث .كما أن طابع التهكم السائد في الحوار أضفى الكثير من التشويق ، بل إنه خفف من النزعة الذهنية الجدلية التي تسود في كثير من مسرحيات الحكيم ، فمند البدء نجد الجلاد يطالب المحكوم عليه بأن يوفر له الراحة ليتمكن من الإجهاز عليه في ضربة واحدة ، فيشرب كأسا من الخمر ( على حسابه ) ويحلو له أن يغنى ولكنه لن يفعل حتى يلح عليه المحكوم عليه في طلب الغناء واستحسان الصوت أيضا ، أما مشهد المزاد وعرض السلطان للبيع وتنافس الإسكافي والخمار في شراء السلطان ، والسعر الزهيد الذي يعرضانه بدعوى أن السلطان لا يصلح صبيا للإسكاف ، ولا يناسب تقديم الخمور لزبائن الحانة ، فإن هذا مما يتجاوز مجرد التشويق إلى التهكم الذي يكشف عن رؤية في الشعب ، وفي الحاكم أيضا .
أما عنصر التشويق الأهم فإنه ماثل في الحدث الذي بنيت عليه المسرحية كلها ، وهو أن السلطان السابق نسي أن يعتق نائبه وقائد جيشه الشجاع ، ومات ، وأن الآخر حمل إلى كرسي السلطنة دون تدقيق في الأهلية أو الأحقية ، وهذا من أثر تسلط الأجهزة المساعدة ( الوزير والقاضي ) التي لا يعنيها غير مظهر الاستقرار . القضية هنا سياسية حضارية ( وليست تاريخية كما يدل ظاهر المشهد ) وقد يبدو توفيق الحكيم مجافيا للثورية ومتعلقا بالشرعية ، وهذا واضح في طرفي الصراع في المسرحية : قوة الأمر الواقع في جانب ، وضرورة التصحيح وإقامة الحكم على أسسه المقررة بحرية ، من جانب أخر هو المفهوم الحق للثورة الايجابية . [ ونستطيع أن نتأمل دور القاضي من هذه الزاوية ، فربما ظهر لنا شخصية ثابتة من أول الأمر إلى آخره ] ، فالظاهر يدل على أن القاضي بدأ نزيها منحازا إلي الحق ومعرضا حياته للخطر دفاعا عن مبدأ الشرع والقانون ، ولكنه حين رأى كيف تحول المزاد إلى فضيحة للسلطان راح يتحايل بالبيع المشروط ، وهو في هذا لا يختلف كثيرا – عند التأمل – عن الوزير ، فهما يتفقان غاية ويفترقان وسيلة ، فمنذ البدء كان القاضي يعرف كما كان الوزير يعرف أن السلطان لم يعتق ، ومع هذا أقرا سلطنته ولزما الصمت إيثارا للعافية ، مع علمهما بأن العبد لا يجوز له أن يحكم شعبا حرا ، فلما وقف واحد من الشعب يجهر بالحقيقة راح كل منهما يحاول الدوران حولها بوسائله الخاصة ، فلجا الوزير إلى العنف ولجأ القاضي إلى الحيل الشرعية والخداع ، بل لجأ إلى الإرهاب والغش فراح يستبيح التملص من البيع حين عرف شخصية المرأة المشترية .
وبصفة عامة يمكن أن نصف الشخصيات في هذه المسرحية بأنها من نوع ” الأنماط ” ، فكل منها يستجمع في شخصه الصفات العامة التي يعرف بها نوعه في نشاطه العملي ، يستوي فيها هذا أصحاب المناصب ( السلطان والوزير والقاضي ) ، ويبقى التاجر ( النخاس ) ، ودوره محدود بإثارة المشكلة ( القضية ) أما الغانية فإنها شخصية ذات بعدين : ظاهر وباطن ، وذات مستويين : واقعي ورمزي . ولكل جانب من هذه الجوانب مردوده على المعنى أو الهدف في المسرحية . لقد تناقض الظاهر – الذي صنعته الشائعات ، وهي – عادة – شائعات محرفة أو منحرفة ، يذيعها ويرتاح إليها أصحاب النفوس القلقة والمريضة التي لا ترى خيرا في أحد ، وتشتفي بأن توجه للآخرين كل ما يقبح في داخلها من تنافر واضطرابات نفسية ( نسترجع هنا محاولة الاسكاف والخمار شراء السلطان مناصفة واستغلاله في الترويج لبضاعتهما ، ومثلهما الجلاد ) فهذا الفريق هو الذي لم يتردد بأن يصفها بالعاهرة ، ومع هذا لم يتردد أحدهم في أن يستفيد منها ، وأن يخشى بأسها ( بل يخشى بأس خادمتها سليطة اللسان ) أما المؤلف ، وأصحاب المكانة الاجتماعية في المسرحية فقد اكتفوا بوصفها بالغانية . وهذه الكلمة ذات معنى قديم ، وآخر مستحدث يعتمد على العرف الشائع ، فمن معاني الغانية ( في القاموس المحيط للفيروزبادي ) :المرأة التي تُطلب ولا تطلب ، والغنية بحسنها عن الزينة، والتي غنيت ببيت أبويها ، والشابة العفيفة، ويضيف المعجم الوسيط إلى المعاني السابقة : التي استغنت بزوجها ، أما العرف الاجتماعي فيرى في وصف الغانية نقصا أخلاقيا أو انحرافا سلوكيا . وبهذين المستويين من الدلالة استخدمتها عبارات الحوار في المسرحية . وفي هذا الإطار المزدوج تستجيب شخصية الغانية للتفسير ( الواقعي ) فهي امرأة ثرية ، وحيدة ، وجميلة ، في مجتمع ذكوري ، فقير العواطف ناضب المشاعر ( يتضح هذا في مواقف مختلفة من المسرحية ، بصفة خاصة في مشهد المزاد ، وفي المشهد الختامي حين تجمع الناس حول بيت الغانية في انتظار حصول السلطان على وثيقة عتقه وخروجه من البيت المشبوه ، كما يعتقدونه ) ، على أن هذه الشخصية يمكن أن تكون ذات بعد رمزي يتضح مداه حين يقابل بالبعد الواقعي . فإذا كان بعض الدارسين يرى أن الغانية مجرد شخصية جئ بها لإثارة التشويق والبلوغ بالأزمة إلى الذروة، ولإسباغ جو من التلوين والطبيعة بظهور المرأة في الموضوع ، وأنها غانية تحيط بها الظنون لتهويل المحنة التي اجتازها السلطان ، وعظمة هذا الحاكم الذي تمسك بالحق القانوني حتى وان كان الثمن أن يصبح مملوكا لامرأة ليست فوق الشبهات ، وهو القائد العظيم قاهر المغول !! فإن بعض النقاد يرى في شخصية الغانية دلالة رمزية أبعد مدى مما يتبادر إلى الخاطر ، يصل إلى تفسير الرمز من خلال مقارنة المشاهد والأحداث وإيحاءات الكلمات . فالغانية منذ البداية هي التي تتدخل لإنقاذ المحكوم عليه وتضمن محاكمته ، وهذا يعنى أنه لولاها لتم إعدامه بأمر الوزير ، ولما أثيرت قضية عدم شرعية الحاكم أصلا ، ثم إن الذين أقبلوا على المزاد كانوا – كما وصفهم – من بخلاء الموسرين ، ولذا لم يرتفع سعر السلطان ، بل كان بعض من تقدم لشرائه يفكر في استخدامه والإفادة منه دعائيا في ترويج بضاعته .. ولكن الغانية تدفع فيه سعرا تجاوز قدرات الآخرين ، ولم تهدف إلى غير إثبات براءتها ، وملكته بحر مالها وصارت مالكة لمصيره وفي يدها أن تمنحه الحرية أو أن تبقيه عبدا ، ومع هذا وبكل الإيثار منحته حريته . فمن تكون تلك الغانية ؟ إنها رمز لسواد الشعب الذي يملك أغلبية الأصوات ، فهو وحده الذي يملك حق إعطاء السلطان صفته الشرعية ، وبكلمة منه يعزله ، وهذه الغالبية تكون عادة من الطبقات الدنيا في المجتمع ، التي نسئ عادة الظن بها وبمستواها الفكري والخلقي ، وإن كانت في حقيقة الأمر شريفة سليمة الفطرة تتذوق الفن ، وتعرف بإحساسها الخطأ من الصواب . ويؤكد صحة هذا الافتراض أننا نكتشف – في الفصل الثالث – أن هذه الصفات نفسها هي الصفات الحقيقية للغانية السيئة السمعة .
بقي من عناصر التشكيل الفني للمسرحية عنصران : الصراع ، والحوار . وكما عرفنا فإن الصراع يكون بين الأضداد ، وهما هنا ” القوة والقانون ، أو الأمر الواقع الفاسد ” والعدل . وهنا نلاحظ أن الصراع ظل فوقيا ، بمعنى أن العامة من الناس ، الذين يمثلهم الإسكاف والخمار والجلاد لم يكونوا طرفا في القضية ، بل لعلهم لم يأخذوا بها علما من الأساس . وهنا نقول لعل الحكيم أراد بحصر الجانب المتفاعل مع الموضوع مضاهاة الواقع ، فالجماهير الجاهلة الغافلة تنشغل بالبحث عن أرزاقها الشحيحة ( مثل الإسكاف والخمار ) وتنفيذ الأوامر دون التفكير في عقباها ( مثل الجلاد والمؤذن ) إلاّ أن نأخذ بالتفسير الرمزي الذي يرى في الغانية استجماعا وتكثيفا لخصوصية الشعب . وربما أراد الحكيم اختصار عدد الشخصيات شديدة التأثير في الأحداث ، وهذا ملمح كلاسيكي بوجه عام ، وملحوظ في مسرحيات الحكيم بوجه عام أيضا .
إن الصراع في السلطان الحائر استوعب أهم مستويات وأنواع الصراع التي نعرفها ، ففيها صراع نفسي ( مثل موقف السلطان وهو يحاول أن يروض نفسه على تقبل أن يعرض في المزاد للبيع ) وصراع حسي ( مثل الجلاد في محاولة انتزاع كأس على حساب المحكوم عليه . وفيها صراع مرهص نشاهده في تخاذل المشترين عند شراء السلطان ، وصراع واثب أو صاعد ، عندما يتكشف لنا أن السلطان أصبح في حوزة الغانية ، وهكذا ..
إن أهم المواقف التي تجلى فيها الصراع الداخلي ترتبط بمواقف الاختيار ، و ” الاختيار ” مصطلح وجودي قال به فيلسوف الوجودية ( الفرنسي ) جان بول سارتر ، ففي قوله إن الحياة موقف ، وإن الإنسان في حال من الاختيار المستمر ، وإنه مسؤول عن اختياره . وهذه المسرحية تعلي من قيمة الاختيار وتبرزه لدى أهم شخصين فيها : السلطان، والغانية . وقد رددا هذا المصطلح تحديدا ، وهذا المقطع الحواري جرى في ختام الفصل الأول :
القاضي : بعد أن عرض الرأيين المتعارضين على السلطان :
والآن فما عليك يا مولاي سوى الاختيار : بين السيف الذي يفرضك ولكنه يعرضك ، وبين القانون الذي يتحداك ولكنه يحميك ! ..
السلطان : ” مفكرا لحظة ” السيف الذي يفرضني ويعرضني ، والقانون الذي يتحداني ويحميني ؟! ..
القاضي : نعم ..
السلطان : ما هذا الكلام ؟! ..
القاضي : الحقيقة الصريحة ..
السلطان : ” يفكر مردداً ” السيف الذي يفرض ويعرض ؟! .. والقانون الذي يتحدى ويحمي؟!
القاضي : نعم يا مولاي ! ..
السلطان : ” للوزير ” يا لهذا الشيخ اللعين ! .. إن له عبقرية نادرة في أن يوقعنا دائما في الحيرة ! ..
القاضي : إني ما صنعت يا مولاي غير أن طرحت عليك وجهي المسألة ، وعليك أنت الاختيار ! ..
السلطان : الاختيار ؟! .. الاختيار ؟! .. ما رأيك أنت يا وزير ؟!..
الـوزير : أنت الذي يبت في هذا يا مولاي ! ..
السلطان : إنك لا تعرف أنت أيضا ، فيما أرى ؟!..
الـوزير : في الواقع يا مولاي ، إن ..
السلطان : إن الاختيار صعب ؟! ..
الـوزير : حقا ..
السلطان : السيف الذي يفرضني على الجميع ، ولكنه يعرضني للخطر .. أو القانون الذي يتحدى رغباتي ولكنه يحمي حقوقي ! ..
الـوزير : نعم ..
السلطان : اختر لي أنت ! ..
الـوزير : أنا ؟! .. لا .. لا يا مولاي !..
السلطان : مم تخاف ؟ ..
الـوزير : من العواقب .. عواقب هذا الاختيار .. إذا اتضح يوما إني اخترت الطريق الخطأ ! .. ويا لها يومئذ من كارثة ! ..
السلطان : لا تريد تحمل التبعة ؟! ..
الـوزير : لست أجرؤ .. وليس من حقي ! ..
السلطان : لابد من البت في النهاية ..
الـوزير : ما من أحد غيرك يا مولاي يملك حق البت في مثل هذا الأمر ..
السلطان : حقا .. ما من أحد غيري ! .. ولن أستطيع التهرب من ذلك .. أنا الذي يجب عليه أن يختار ، ويتحمل تبعة الاختيار ! ..
الـوزير : أنت مولانا وحاكمنا ! ..
السلطان : نعم ، وتلك ساعتي المخيفة ! .. الساعة المخيفة لكل حاكم ! .. ساعة يصدر القرار الأخير ، القرار الذي يغير مجرى الأمور ! .. ساعة ينطق بذلك اللفظ الصغير ، الذي يبت في الاختيار الحاسم ! .. الاختيار الذي يقرر المصير ! ..
” يفكر مليا ، وهو يقطع المكان جيئة وذهابا ، والكل ينتظر نطقه .. والصمت يخيم لحظة .. ” .
السلطان : ” وهو مطرق في تفكيره ” السيف أم القانون ؟! .. القانون أم السيف ؟! ..
الـوزير : إني مقدر يا مولاي دقة موقفك !..
السلطان : ولا تريد مع ذلك أن تعينني برأي ؟! ..
الـوزير : لا أستطيع .. أنت في هذا الموقف صاحب الرأي وحدك ! ..
السلطان : لا مفر إذن من أن أقرر بنفسي ! ..
الـوزير : هو ذاك ..
السلطان : السيف أم القانون ؟! .. القانون أم السيف ؟! .. ” يفكر لحظة ، ثم يرفع رأسه بقوة ” حسن .. لقد قررت ..
الـوزير : أوامرك يا مولاي ! ..
السلطان : قررت أن أختار .. أن أختار ..
الـوزير : ماذا يا مولاي ؟ ..
السلطان : ” صائحا في عزم ” القانون ! .. اخترت القانون ! ..
* * * *
وقد عاشت ” الغانية ” موقف الاختيار أيضا ، عندما حاول السلطان استرضاءها في ساحة المزاد لتوقع وثيقة عتقه ، وإلا فإنه لا يستطيع أن يكون سلطانا . هكذا تطور الحوار بينهما :
السلطان : أن تسيئي معاملتي ! ..
الغـانية : بل أن أحظى بمتعة الحديث معك ! .. في الواقع يا مولاي ، إنها المرة الأولى التي أراك فيها عن قرب..لطالما حدثوني عنك ، لكني ما كنت اعرف أنك بهذا اللطف! ..
السلطان : شكراً ! ..
الغـانية : حقا لكأننا صديقان منذ عهد بعيد ! ..
السلطان : أو من عادتك أن تعرضي أصدقاءك هكذا للمهانة والسخرية ؟! ..
الغـانية : لا .. مطلقا ! .. بالعكس ! ..
السلطان : إذن ، لماذا جعلت منى استثناء ؟ ..
الغـانية : هذا بالفعل ما بدأ يؤلمني .. ولكم أتمنى الآن أن ادخل على قلبك السرور وأقدم إليك التجلة والاحترام لكن كيف ؟ .. كيف أستطيع ذلك ؟ .. ما هي الطريقة ؟ ..
السلطان : الطريقة بسيطة ..
الغـانية : توقيع حجة العتق هذه ؟! ..
السلطان : أظن ! ..
الغـانية : لا .. لا أريد أن أتركك .. لا أريد أن أتخلى عنك .. أنت مملوك لي .. أنت لي .. لي ..
السلطان : لك ولغيرك من أبناء هذا الشعب كله ! ..
الغـانية : إني أريد أن تكون لي وحدي ..
السلطان : وشعبي ؟ ..
الغـانية : شعبك لم يدفع فيك ذهبا ليحصل عليك ! ..
السلطان : هذا صحيح .. لكن يجب أن تعلمي أنه من المستحيل قطعا أن أكون لك وحدك ، وأبقى بعد ذلك سلطانا ! .. ليس هناك غير وضع واحد يستقيم معه أن أكون لك وحدك ! ..
الغـانية : ما هو ؟ ..
السلطان : هو ألا أكون سلطانا .. أن أنزل عن العرش ، وأعتزل الحكم ..
الغـانية : لا .. لست أريد لك ذلك .. أريد أن تبقى سلطانا ! ..
السلطان : في هذه الحالة لابد من التضحية ! ..
الغـانية : من جهتي ؟! ..
السلطان : أو من جهتي أنا ..
الغـانية : أتخلى عنك ؟! ..
السلطان : أو أتخلى أنا عن العرش !..
الغـانية : وعلىّ أنا أن اختار ! ..
السلطان : بالطبع عليك أنت أن تختاري .. لأن زمام الأمر كله في يدك أنت الآن ! ..
الغـانية : ألي كل هذه الأهمية وكل هذا الخطر ؟!..
السلطان : في هذه اللحظة .. نعم ! ..
الغـانية : هذا مدهش ! ..
السلطان : حقا ! ..
الغـانية : أنا إذن املك في يدي زمام الأمر الآن ؟ ..
السلطان : نعم ! ..
الغـانية : بمشيئتي أبقى السلطان ! ..
السلطان : نعم ! ..
الغـانية : وبكلمة مني يتم عزل السلطان ؟! ..
السلطان ” نعم ! ..
الغـانية : إن هذا حقا لمدهش ! ..
السلطان : بدون شك ! ..
الغـانية : ومن الذي أعطاني كل هذه السلطة ؟ .. المال ؟ ..
السلطان : القانون ..
في هذين الموقفين يتجلى مفهوم الاختيار ، وتأثيره في حياة الفرد والجماعة ، فعلى الاختيار الحر تبنى المواقف الشجاعة ، وتأخذ المسؤولية مداها في حماية القيم .
ولا نظن أننا بحاجة إلى الإطالة في تحديد خصوصية الحكيم ومقدرته الحوارية ، فالحوار هو موهبته الأساسية ، وبخاصة حين ينبني على تصورات دقيقة ، وخبرة خاصة تدرك أسرار المهن والطبائع ، كما نجد في هذه المسرحية من جوانب استخدام مبادئ القانون أو التحايل عليها ، ولا تتخلى مشاهد الظرف والترفيه عن هذه القدرة على صياغة حوار له عمق المعرفة وذكاء الإشارة وظرف السخرية ، مثل هذا المشهد الذي انفردت فيه الغانية بالسلطان، في بيتها ، وقد أصبح ملكا لها :
السلطان : حتى مطلع الفجر ؟ ..
الغـانية : لا تفكر الآن في الفجر .. إن الفجر لم يزل بعيدا ! ..
السلطان : سأفعل كل ما تطلبين حتى مطلع الفجر ! ..
الغـانية : لن أطلب إليك شيئا غير الحديث ، وتناول الطعام ، والاستماع إلى الغناء ..
السلطان : لا شيء غير هذا ؟! ..
الغـانية : وما تريد أن أطلب إليك أكثر من هذا ؟! ..
السلطان : لست أدري .. أنت أعلم ! ..
الغـانية : فلنبدأ إذن بالحديث ! .. حدثني ! ..
السلطان : عن نفسي ؟! ..
الغـانية : نعم .. عن قصتك ؟! .. احك لي قصتك ! ..
السلطان : تريدين منى أن أحكي لك قصصا ؟! ..
الغـانية : نعم .. في الحق إنه لابد أن تكون لديك ذخيرة من القصص الرائعة الممتعة ! ..
السلطان : أنا الآن الذي يحكي القصص ؟!..
الغـانية : ولم لا ؟! ..
السلطان : حقا .. هذا ما ينبغي ! .. ما دمت أنا في وضع شهرزاد ! .. هي أيضا كان عليها أن تحكي القصص الليل بطوله ، في انتظار الفجر الذي سيقرر مصيرها ! ..
الغـانية : ” ضاحكة ” وأنا إذن شهريار الهائل المخيف ؟! ..
السلطان : نعم .. أليس هذا عجيبا ؟! .. كل شيء اليوم يسير مقلوبا معكوسا ! ..
الغـانية : لا .. أنت السلطان دائما .. أما أنا فهي التي في وضع شهرزاد الجالسة دائما عند قدميك !..
السلطان : شهرزاد القابضة على رقبة شهريارها القلق حتى يدركه الصباح ! ..
الغـانية : لا .. بل شهرزاد التي تدخل الانشراح في صدر سلطانها ، والفرح والبهجة في قلبه .. سترى الآن كيف أعالج قلقك وشكك ! ..
” تصفق .. فإذا بموسيقي لطيفة قد تصاعدت من وراء الأستار ….. ” .
السلطان : : بعد أن أصغى ” عزف جميل ..
الغـانية : وأنا بنفسي التي سترقص لك ! ..
” تنهض وترقص ….. ” .
السلطان : ” بعد انتهاء رقصتها ” جميل ! .. كل هذا جميل ! .. أوَتصنعين هذا كل ليلة ؟!..
الغـانية : لا يا مولاي !.. هذا استثناء ! .. لك أنت .. فأنا لم ارقص بنفسي منذ عتقي وزواجي ! .. أما في بقية الليالي فإن الجواري يقمن بالرقص والغناء ! ..
السلطان : من أجل زبائنك ؟! ..
الغـانية : بل قل ضيوفي ! ..
لنتأمل هذه العبارات الرشيقة المتبادلة المختصرة ، ذات الإشارات الثقافية والنفسية العميقة والحساسية اللغوية المرهفة .
لقد قدم توفيق الحكيم ، في مسرحية السلطان الحائر ، نموذجا متميزا في قراءة أحداث التاريخ قراءة مختلفة – من جانب – ومشاركة في توجيه حياتنا الحاضرة من جانب آخر ، وقد تميز التشكيل الفني بالمزج بين الموروث الخطابي العربي ، وما أفاده الحكيم من المذاهب الأدبية والفكرية السائدة في الغرب ، وصنع من هذا نصا مسرحيا أنيقا مشوقا جمع بين المتعة الجمالية ، والرسالة الحضارية ، والتوعية السياسية .