مُلاعب الأسنة – الأستاذ الدكتور أحمد درويش

مُلاعب الأسنة – الأستاذ الدكتور أحمد درويش

مُـــلاعب الأســـنّة

مهداه إلى الصديق الرائع

الأستاذ الدكتور أحمد درويش

 

حين حدثني عنه صديق أديب أطرى ذكاءه العملي وقوة حضوره ، ولم يعرج على ذكائه العلمي ومنهجه الفكري ، فتساءلت في نفسي : إذا كان هذا الدكتور قضى بين جدران السربون عدد سنين ، ويعترف له بهذا التميز الخاص في نوع الذكاء ، فهل تغيرت خطة السربون في التنشئة فخالفت ما أقامت عليه دعائم محمود قاسم في الفلسفة وغنيمي هلال في النقد ، أم أجرى هو جراحته لنفسه وعدّل في مواصفات التخرج في هذا المعهد العريق ؟ بان لي حين التقينا بعد سنوات أن عبارة الواصف لم تحط بجوهر الموصوف ، وأذكر من طرائف ملابسات هذا اللقاء الأول أنني الذي سعيت إليه دون موعد لأطلب نسخة من كتابه عن الأدب في عمان . وكان صاحب الوصف حاضرا ، بطريق المصادفة ، على رغم أنف الحبكة الفنية التي تستبعد حق المصادفة في التأثير ، وبخاصة إذا قاربت نقطة التنوير . كانت الصورة المنقولة إلىّ عنه لا توحي بنداوة المودة ، فيها قدر من توتر الثقة المفرطة بالنفس ، أو التلهف على إثبات الذات من مدخل مداهمة الآخر ، لست أدرى بالدرجة الواجبة من الدقة القادرة على ترصد الفروق ، تأكدت هذه الصورة حين أجاب على سؤالي بسؤال يحمل قدرا مما أشرت إليه ، ضرب يده في الجيب الخارجي للجاكيت السمني ، يلبسه على بنطلون رصاصي عادة ، وقال : وبدوّر علىّ ليه ؟! ( وترجمتها : لماذا تبحث عني ؟ ) قلت ببساطة من لم يعتد التفكير في إجابة تناسب المواقف المتغيرة : أنا في حاجة إلى كتابك عن أدب عمان ، لا يصح أن أتناول الموضوع دون استيعاب تجربتك !!

قال الصديق الأديب في وصف هذا اللقاء غير المدبر والطريقة التي سلكها الحوار القصير : كانت مواجهة غريبة ، قلت في نفسي : التقي أرطبون الروم بأرطبون العرب !! عجبت لمبالغته واستطرفتها أيضا ، لم أتساءل عن موقعي في هذه الاستعارة المركبة الجديدة ( وقد فاتت شيخنا عبد القاهر الذي لم يتجاوز : تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فظل كتابه يشغل هذا الموقع إلى اليوم ) فأيّ الأرطبونين كنت ؟ وتقبلت المشهد دون تدقيق ، غير أني لم أوافق على ظن الصديق الأديب بأن الدكتور كان حين أطلق سؤاله يسنّ أظفاره ليهبش ، وعلامات غضب الطبيعة تتجمع من جهات وجهه لتستقر وقدا في عينيه ثم تنطلق لذعا . لكنه قبل أن يأخذ في استكمال تأهبه حسب توقعه ، كنت بادرته أنت بجواب لين فوضعته في جيبك في حركة واحدة !! . استنكفت هذا التصور ، ورفض ذوقي هذه الاستعارة ، وفي نفسي وصفت مقولة صديقي الأديب بأنها من بقايا أفكار المصطبة في القرية ، فقد كنت على طبيعتي تماما ، ولا أظن أنني أتمتع بسرعة التفكير الذي ابتكر الصواريخ المعترضة للصواريخ ، كما أنني أصبحت بعد تعدد اللقاءات أثق بأن صاحبي لا يُحمل حملا على أن يوضع عنوة في جيب أحد مهما كان مقامه ، وأن هذا – إذا حدث وهو أمر أقرب إلى المحال ، أو هو المحال ، فإنما يتم بحركة طوعية لحاجة في نفس يعقوب طواها ، ويمكن تلمس تعليل الطيّ في قاعدة استبدال نائب الفاعل بالفاعل نفسه !!

ترى .. ماذا لحق بانطباعات اللقاء الأول وقد مضى عليه أكثر من عشرين عاما ؟

كما هو متوقع ستكون احتمالات التغيير والتبديل محدودة جدا ، بالنسبة له ، كما بالنسبة لي ، ولكل كائن حيّ غادر مرحلة ” سفر التكوين ” واقترب من ” صفر الخروج ” ، لا يملك إلاّ أن يكون هو نفسه ، ومع هذا ، بالنسبة لي ، فقد قضيت زمنا ليس بالقصير ” على دكة الاحتياطي ” ، غير مأذون لي بالنزول إلى الملعب إلاّ لفترات متقطعة يمكن أن تكون استثناء ، أو ” على لغة من ينتظر ” ، أما هو ، فعلى الرغم من غيابه عن مصر زمنا متصلا ليس بالقليل ، يكاد يقارب مدة عملي بالخارج ، فإنه – في غيابه كما في حضوره – مذكور يدخل في الحساب ، ويشغر مكانه إذا غاب حتى يئوب ، فإذا عاد تصدر الساحة وكأنه على رأس الموكب يوم الزينة ، وبهر الأنظار كما بهرها بندر شاه ، فليس لمثله صنعت دكة الاحتياطي ، وهو وإن لم يضع حول عضده علامة كابتن الفريق ، فإنه أقرب ما يكون إليه طوعا أو كرها ، حتى كأنه هو ، فإذا تحدث إلى غيرك أيقنت أنه يتحدث إليك ، وبعد قليل تشعر أنه يتحدث عنك ، ولا تستغرب أن يملأ وجدانك فإذا انصرفت إلى نفسك وتحدثت في داخلك وجدت أنه هو الذي يتحدث وما عليك إلاّ أن تستعيد معجبا ، وربما قادتك حلقات الكلام إلى أن تحاول العثور على نقطة البدء فلا تجدها ، أو تستحضر المناسبة فتتماهى في كليات يصعب فرزها ، وينتهي دورانك في اللونا بارك السحري لتسلم بأنه الذي صنع الموقف ، وخلق المناسبة ، وشكّل الحديث ، ووجّه حلقاته ، وأصدر توصياته ، وما كان لك منه إلاّ أن تكون نواسيا : ” يراها ويشم نسيمها ” دون أن يتطلع إلى مغادرة الدكة إياها . على أنه بكل ما يختزن من لباقة وخفة ظل وذكاء وقدرة على الحكي يقف أمامها ” فقي القرية ” مبهوتا ، يتقن فن الصرف : فلا يلحن في اللغة مطلقا ، ويجيد فن الصرف بمعنى إنهاء المواقف الحرجة بحلول غير تقليدية ، فربما أعطاك كرة من السكر الملون تبهرك بحجمها وعبيرها ومذاقها ، حتى ليخيل إليك من سحرها أنها تسعى ، ولكن حين تخرج من دائرة التوهم تكتشف أنها كرة ” غزل البنات ” لا تزيد عن ملعقة سكر قلبت على نار هادئة ، ثم أدارتها يد صناع ، فأثارت تشهيك ، وأيقظت أطماعك ، وجددت دواعيك ، فاختطفتها عينك قبل أن تلمسها شفتك ، فأشبعت حواسك حتى التخمة ، وأشعرتك معنى الريّ بعد الصدى ، مع أن الكوب المملوء في يده وليس في يدك .

قالوا : إن مريديه يصنعون كتابا تكريميا ومن اللباقة أن تشارك !! قرأتها مصحفة     ( اللياقة )، ورأيتها مناسبة طيبة أن أكتب ، ولكني وجدت صعوبة حقيقية في أن أكتب عن شخصية هي كما وصفتها تحب الكلام جدا ، وتحب الحياة جدا ، وتحب نفسها جدا ، وتحب الفلوس جدا ، وتحب التعبير الجميل جدا ، وتحب جلسات المرح والفضفضة جدا .. وتحب أن تكون موضع اهتمام الآخرين جدا جدا ، وتحب أن تكون ممسكة بخيوط المسائل عارفة بأسرارها جدا جدا جدا ، اعتبرت هذا بمثابة عائق يعطل إمكان الإحاطة بهذا الفيض من الإمكانات ، ولكن سنح لي أنني أحمل نفس هذه الصفات – ربما مع اختلاف في الكميات ، وهنا قررت أن أكتب عن نفسي ، ثم أقوم بعملية إعادة تأهيل أو صيانة ، ( يسمونها في مصر ” تنكيس ” ولا أدرى لماذا ، وهي كلمة قليلة الذوق مع أنهم يزعمون أن الذوق ما طلعش من مصر ) ، وبهذه ” النية الجوانية ” يمكنك أن تقرأ الكلام السابق ، وتختار منه ، وتعيد توزيعه على الكاتب والمكتوب عنه كما يحلو لك دوم أن تقع في محظور .

لما داهمني وقت الكتابة تذكرت اسم رجل كان والدي يحبه جدا ، مع أنه توفى منذ ألف وأربعمائة عام ، كان مشاركا في حروب الردة ، وكان اسمه عامر ( ولعل هذا سر التجاذب فهو اسم جدي الأكبر أيضا ) ولكن اسمه الشائع في زمنه ( أو لقبه ) كان ” ملاعب الأسنّة ” أنا أزعم أن صديقي العزيز الذي أكتب مستمدا رؤيتي له تجتمع خصاله في هذا اللقب أو تقاربه إذا وضعنا في الاعتبار اختلاف أدوات الصراع وأسلحته مع اختلاف العصور ..

” ملاعب الأسنة ” ، فلا يعني هذا أنه رجل قتال ودماء وشر ، لا يوصف القتال بأنه لعب ، إنه أقرب إلى طبيعة رجل الأكروبات عاشق الخطر ، إنه حريص على حياته أكثر من حرصك على حياتك ، لكنه يملك قدرة إبهارك فيلاعب الأسنة أو يلعب بالأسنة ، ليستشعر لذة الولادة الجديدة عقب كل لعبة ، يؤديها وعينه على التي بعدها !!

 

 

 

اترك تعليقاً