أغسطس من أجل الشعب
ذاكرة المسرح
أغسطس من اجل الشعب
الكاتب الإنجليزي : نيجل دنيس
مؤلف هذه المسرحية روائي بريطاني وناقد ، جرّب كتابة المسرحية فأصاب نجاحا، بخاصة هذه المسرحية التي تعد الثالثة من بين إنتاجه المسرحي ، وتصنّف – نقديا – على أنها مسرحية كوميدية ساخرة ، ونحن نتقبلها كذلك وإن احتاجت إلى جهد وصبر في اكتشاف المواقف التهكمية فيها ، أما السخرية الحقيقية فإنها متسربة فيما بين ” السير أوجسطس ثويتس ” وأفكاره الفلسفية ذات التوجه الوجودي ، وبين واقع الحياة في أقطار الغرب عامة ، وبريطانيا خاصة .لقد أُلفت مسرحية “أغسطس من أجل الشعب ” عام 1961 – وترجمها الدكتور أحمد النادي ، ونشرتها مسلسلة ” من المسرح العالمي ” عام 1984 ،وتصادف أن كان النشر في شهر أغسطس،( فهل كان هذا اختيار مقصودا ؟) فنحن نعرف أن أغسطس هو اكتافيوس ، أعظم أباطرة روما أيام مجدها ، وكان دكتاتورا صاحب آراء لا تخلو من صرامة البحث عن الحقيقة ، وما كتبه عنه ” أوفيد ” في كتابه المشهور ” فن الهوى ” وعن غراميات ابنته له إيحاءات تغني هذا المعنى ، على أن بطل المسرحية اسمه أوجسطس ثويتس ، أيضا .
المسرحية فكرتها – ولابد لكل مسرحية من فكرة واضحة متماسكة تمنحها مغزاها – أن هذا السيد ( السير ) ثويتس – تراءى له ( بعد علامات من القلق والمغامرة انتابت مراحل من حياته ) – أن الحياة وَهْمٌ ، وأن الناس بعيدون عن الحقيقة ، وكأنهم يقومون بأداء مشاهد درامية تجتاح حياتهم ، وأن الخير – كل الخير – أن يواجهوا بالحقيقة ، مهما كانت هذه المواجهة قاسية أو فظة !! وهذا ما حدث . ومع ما في المسرحية من مواقف وحوارات ساخرة ، وذات طابع تهكمي تحمل الابتسامة أو الضحك إلى القارئ ، فإن المتلقي ( العربي ) الذي لم يتعود هذا المستوى من المكاشفة والتجريح الصريح والإشارات الفلسفية ، قد لا يتجاوب – للوهلة الأولى – مع موضوع المسرحية ، غير أنه إذا صبر على استمرار القراءة سيحظى بمتعة ذهنية وفكرية راقية ، تذكرنا ببعض ما قرأنا من المسرحيات الذهنية ( مسرحيات القراءة ) التي بدأ بها توفيق الحكيم مسيرته المسرحية : أهل الكهف – بجماليون – شهرزاد .. إلخ . وفي مقدمة بجماليون أشار الحكيم بذكاء إلى خصوصية هذا النوع من المسرحيات وهو أن ” المفاجأة ” فيها تنتقل من ” الحدث ” إلى ” الفكرة ” . ويتراءى لي – أنا القارئ العربي الذي لم يعش تجربة بريطانيا العظمى ، عام تأليف هذه المسرحية ( 1961 ) وما حوله أن بريطانيا التي كانت تتخلى عن صفة ” العظمى ” قسرا ، بعد معركة السويس ( 1956 ) وسطوع هيمنة الولايات المتحدة .. إلخ ، كانت بحاجة إلى إعادة النظر في كثير من مسلمات حياتها الإمبراطورية ، وأولها الأنساق الاجتماعية القائمة على التوزيع الطبقي ، وصلابة الحدود المستقرة بين الطبقات .
تبدأ أحداث المسرحية من واقع مفترض هو وجود جمعية تسمى ” جمعية البيوت المفتوحة ” وأعضاء هذه الجمعية من كبار الملاك ، وقد كان السير أوجسطس ثويتس رئيس هذه الجمعية ، أما رسالتها فإنها – ظاهريا – تؤكد على قيم الديمقراطية في المجتمع، ومن وسائل تحقيق ذلك السماح لصغار الناس بزيارة قصور أعضاء الجمعية لمشاهدة ما تحوي من تحف ورياش وحدائق .. إلخ ، لقاء أجر زهيد نسبيا . أما الهدف الخفيّ لنشاط الجمعية فهو استغلال الشعور بالنقص والرغبة في الإطلاع على جانب من أسرار حياة القصور ، وبيوت الأثرياء عامة ، بالحصول على المدخرات الصغيرة التي يتمكن هؤلاء الناس الصغار – كما يدعوهم ” ثويتس ” من جمعها بين الحين والحين .
على أن حدثا – يمكن أن نصفه بأنه حدث انقلابي – قد جرى ، فحوّل مجرى كل شيء .
وكما أن موضوع المسرحية انقلاب على المفاهيم المستقرة المتوارثة في المجتمع الإنجليزي ، بما فيها مزاعم الديمقراطية ، فإن ” الشكل ” أيضا له هذه الخصوصية سواء في توزيع المادة المسرحية ، وفي الأسلوب ( الفلسفي ) الغالب عليها على الرغم من تصنيفها الكوميدي : المسرحية من افتتاحية ، وفصلين ، وختام . وهي تبدأ في حفل ، هو الحفل السنوي لجمعية البيوت المفتوحة ، يقام في صالة عامة ، وطبيعي – بعد المقدمات – أن يُلقي رئيس الجمعية كلمته السنوية ، التقليدية ، ولكنها – هذه المرة – تحولت الكلمة إلى ” قنبلة ” مدوية ، سمعها الحضور . ونقلتها الصحف ، وتحولت إلى أزمة حقيقية ، لأن السير ثويتس ، رفض أن يعتذر بأنه كان مخمورا ، كما رفض تعديل أو تأويل مقالته ، بل علي العكس تمسك بأفكاره ، ودافع عنها ، وراح يفلسفها ، وتسخر من كل من يعترض عليها . أما هذه الكلمة القنبلة فهي : ” يؤسفني أن أقول – آه .. لقد أوحي إليّ ” !! طبيعي أن الحضور – على مستوياته – لم يأخذ العبارة مأخذ الجدّ ، واعتبرها نوعا من المداعبة من ثم استجاب بالضحك والتهليل ، ولكن رئيس الجمعية عاد يؤكد ، ليزداد الضحك والصخب حتى أمر أحد أعضاء الجمعية بإغلاق الميكروفون ، لأنه رأي أن التمادي في هذا الهراء سيقضي على الجمعية من أساسها !! في هذه الدقائق الحرجة التي تكلم فيها ” ثويتس ” كان قد فجر عدة قنابل متتابعة في مجتمع نعرف عنه المحافظة حتى التزمت ، والصدق ، والجدية ، والصرامة .
قال : ” الديمقراطية شيء بغيض ” ووصف السماح لعامة الناس بدخول بيوت كبار الملاك من أجل الحصول على مقابل مالي ، بأنه ضرب من البغاء ، وأن التظاهر بحب الرجل العادي أمر مهين ، وأن المجتمع ( الإنجليزي ) بهذا ليس أكثر من مجتمع قرود أو براغيث … فكل شيء قد ولىّ ، وليس ذلك من الإخاء !! وهكذا انتهت حفلة الجمعية ، وانتهت افتتاحية المسرحية .
يجري الفصل الأول في بيت السير أوجسطس ثويتس ، وفيه يتاح لنا أن نتعرف على أهم شخصيات المسرحية ، وكيف يفسرون شخصية ثويتس من زوايا نظر مختلفة . أما أهم الشخصيات التي ستصنع محتوي هذا الفصل فهم : بولت حاجبه الخاص ، وهو في خدمته منذ ثلاثين عاما خلت ويثق به ثقة عالية – المسز فولتون : وهي عشيقة السير ثويتس ، وهي شديدة الرعاية له والحرص عليه ، وكذلك هو ( صورة غير معروفة لنا في مجتمعاتنا العربية ) وابنته الشابة أنجيلا ، وهي فتاة رقيقة تبدو أصغر من سنّها لما تعرضت له من قهر والدها ، وإن كانت مسز فولتون – عشيقة أبيها – تحبها ، وبينهما ودّ متبادل . ثم يأتي طبيبه الخاص سوينبرن . هناك غير هؤلاء الأربعة أركان الجمعية بالطبع ، وقد ساءهم ما جرى ، وأضمروا عزله عن رياسة الجمعية ، ولكن الجميع الآن مشغول بما ينبغي أن يقال للصحافة ، وتوجيه اعتذار منه تحديدا للشعب البريطاني ، إذ أنه في عشر دقائق قام بتدمير حب ودعاية عشرين عاما في اتجاه البسطاء لتأكيد الديمقراطية . لقد رفض ثويتس صيغة الاعتذار الذي أملاه عليه عضوا الجمعية ، وأبدى تمسكا وتماديا فيما كان يمكن أن يعد ” فلتة لسان ” ، حتى رأى أن الوحي ليس خاصا به ، فالحمير يهبط عليها الوحي أحيانا ، والبراغيث والقرود أيضا . وأضاف : إن الديمقراطية شيء مقزز !! ، وإذ ينكر وجود حرية الصحافة في مجتمعه البريطاني ، بل ينكر وجود ما يسمى بالشعب البريطاني !! ويختم بعبارة مهمة لما تحمل من دلالة عقلية ونفسية :” آسف على وقاحتي ، ولكن الخيال الجامح يؤدي إلى البذاءة ” !! وهذه العبارة تستحق من جانبنا الكثير من التأمل .
لقد ترتب على أزمة الحفل السنوي أمران : أن أرتال السيارات تكاثرت حول بيت ثويتس لتشاهده من الداخل ( وتدفع المعلوم بالطبع ) حتى حاصرته من كل الجهات ، وكان هذا عكس ما يتوقع . وأن الصحفيين ملئوا البيت لإجراء أحاديث معه ، فراح هو يسألهم أكثر مما يسألونه ، وظهرت فظاظته مقترنة بتشريحه القاسي للنفس الإنسانية في حواره مع صحفي مشلول الذراع ، وسخريته من صحفية غير جميلة . يقول لحلقة الصحفيين من حوله : ” فكرت وأنتم تستجوبونني في مدى الخير الذي يمكن أن يصيب هذا العالم لو قضي عليكم جميعا ، أنتم ومن تعملون عندهم ، ولكني آسف لتفكيري هذا ، فبدونكم سنعجز عن معرفة حقيقتنا ، لن تكون هناك مرآة لندرس فيها أمراضنا الجلدية . فأنتم حقدنا ، وأنتم شراهتنا ، وأنتم لذتنا في تألم الآخرين ، وأنتم حبنا للأكاذيب ، وأنتم فراغنا التام ” ولم يتوقف هذا الهجاء التهكمي الجارح على الصحافة والعاملين بها ، بل تخطاها إلى أن تهكم على طبقته ، وعلى كل ما يعترض طريق حواراته أو شطحاته !! إن أهم ما يتضمن هذا الفصل الأول تلك اللحظات ( الجوانية ) التي يعبر فيها السير ثويتس بصدق على شعوره بأنه يبحث عن ذاته الحقيقية ، وأنه يرى أن الحياة عبث ، وأن الناس تمثل فيها أدوارا غير حقيقية ، ولهذا لا يخجل من السخرية منهم والقسوة عليهم ، بمعنى أنهم – في رأيه – يستحقون كل ما يوجهه إليهم ، ثم تلك اللمحات من مصادر مختلفة تحاول أن تعلل وتفسر شخصيته ، منها ما هو حادثة قديمة ، إذ كان حاكما لمستعمرة تمباكا ، وقد ألقى بزعيمهم في السجن . في حين رقص مع شعبه عاريا تماما !! أما التعليل الأحدث فهو شعوره بالمعاناة لما في البلد من زحام (!!) وإذ يقرر – في نهاية الفصل الأول – تحويل بيته إلى مدرسة فإنه لا يلبث أن يسخر من المدرس بقسوته المعهودة ، غير أنه سيحتاجه بشدة في الفصل الثاني ، الذي يجري في البيت نفسه ، وبين الأشخاص أنفسهم ، ولكن تطورا في العلاقات يحدث ، فقد طرد وكيله وحاجبه بولت، فأغضب هذا الفعل القاسي مسز فولتون – عشيقته – فقررت ألا تنتظر الطرد بدورها ، وجمعت ثيابها وحاجاتها ، وتبعتها ابنته أنجيلا ، لإساءته إلى بولت ومسز فولتون . وهكذا غادر ” الطاقم القديم ” البيت ، وهو يبدي التعالي وعدم التأثر لأي أحد منهم ، بل يسخر ويعيد توصيف المواقف والقرارات مستهزئا بالجميع ، ومعتمدا على طاقمه الجديد من المدرس وزميلته المُدرسة .
الموقف الختامي في الفصل الثاني يقوم على مواجهة بينه وبين الزعيم الأفريقي لتمباكا . في هذه المواجهة على أرض بيت ” ثويتس ” ، كان الأفريقي ساعيا للقاء ، والبريطاني – الحاكم السابق – يتهرب من اللقاء ، وقد جرى فيه حوار يحمل دلالة خطيرة ؛ إذ كان الأفريقي – برغم سلبيات حكمه التي يعترف بها ، يؤمن بالديمقراطية ، وبمبدأ التقدم ، وبالتفكير العملي في التنمية والتكيف مع التغير الاجتماعي الذي هو قادم بضرورة قوانين التطور البشري .
ويذكر عبارة ذات إيحاء خاص ، يقول زعيم تمباكا : ” إن الباحثين الأمريكيين يقومون الآن بتغيير الأساطير القديمة !! ” .
في ختام المسرحية يقام الحفل السنوي لجمعية البيوت المفتوحة ، في نفس القاعة السابقة ، ولكن برئيس جديد للجمعية ، هو المساعد القديم . ومن المتوقع أن يبدأ كلمته التقليدية بإطراء الرئيس السابق لاحتفاظه بالبهجة والوقار وسعة الصدر برغم ما يجري في الحياة من تغيرات مثيرة كثيرة . ثم يذكر أن عدد زوار بيوت الملاّك زادت بنسب واضحة .. بعبارة أخرى : للحياة قوانينها التي تتجاوز رغبات وقدرات الأفراد .
د . محمد حسن عبدالله