سمك عسير الهضم
ذاكرة المسرح
سمك عسير الهضم
الكاتب الجواتيمالي : مانويل جاليتش
هذه المتتابعة من الاضاءات المسرحية ترمي إلى هدفين : إنعاش الذاكرة المسرحية العربية ، التي لا يخفى أنها تتراجع ، والتنبيه إلى ما قدمته سلسلة ” من المسرح العالمي ” التي رعتها وزارة الإعلام – الكويت ، زمن أحمد العدواني ، الشاعر المثقف .
مسرحية ” سمك عسير الهضم ” كتبها مانويل جاليتش عام 1961 أثناء نفيه عن وطنه إلى البرازيل ، ولقيت نجاحا ، وترجمت إلى لغات العالم ، وترجمها إلى العربية الدكتور محمود مكي ، فكانت فاتحة اهتمام وزارة الإعلام ( كانت تسمي وزارة الإرشاد والأنباء ) فحملت رقم (1) وصدرت في أول أكتوبر 1969 ، ولأن مؤلف المسرحية اسمه غير متداول في الثقافة العربية ، ولأن أدب جواتيمالا غير معروف الملامح لبعد ما بين الوطن العربي وأمريكا اللاتينية بعامة وثقافيا بخاصة ، فقد أقتضى هذا من المترجم أن ينفق – في مقدمة النص المسرحي _ أكثر من سبعين صفحة قدم فيها صورة للواقع السكاني والاجتماعي والسياسي لأمريكا اللاتينية ،صورة وسطية انتهت إلى وقفة مع : الأدب في جواتيمالا ، ثم : جاليتش ( المؤلف ) اليساري السياسة والثقافة ، وقد شغل مناصب عليا في الدولة : نائبا في البرلمان ، ووزيرا ، وسفيرا ، ثم منفيا حين تم الانقلاب على اليسار الرافض للهيمنة الأمريكية ، وفي هذه المسرحية تظهر انعكاسات لخبرة الكاتب بألاعيب السياسة واللعب بالرأي العام وتشتيت اهتمامه بالقضايا الوطنية الأساسية وذلك بتدبير الفضائح المثيرة ، لبعض المشاهير الذين يراد إزاحتهم عن طريق منافسيهم .
لا يملك النقد أن يسأل مؤلفا : لماذا اخترت هذا الموضوع بهذا الأسلوب ؟
فربما لا تستطيع الجواب ، وقد لا يقنعنا جوابه ، وفي كل الأحوال قد يكون جواب السؤالين من شواغل الناقد . اختار جاليتش لمسرحية ” سمك عسير الهضم ” أن تجري أحداثها في روما ، عام 59 قبل الميلاد ، بما يعني أن روما كانت الدولة المسيطرة على العالم تقريبا ، لها أساطيل وجيوش تجوب وتحكم وتجبي وتولّي وتعزل ، مما أتاح لهم أن يقولوا عن البحر المتوسط : بحرنا (!!) – قد تزعجنا – بعض الشيء – أسماء بعض الشخصيات ، لغرابتها وصعوبة نطقها ، ولكن الشخصيات الصانعة للحدث الرئيسي في المسرحية يمكن أن نألفها ، بخاصة ” مامورا ” المرابي الرأسمالي المسيطر على الدولة من خلال رجال السياسة ، وقد ابتدع الكاتب شخصية ” ارتو تروجوس ” – وهو عبد قبيح الهيئة ، إغريقي تحرر فابتدع ألواحا يكتب عليها أخبارا وفضائح أطلق عليها : ” السجل اليومي لأخبار الشعب الروماني ” يعلقها ويأذن بقراءتها لمن يدفع بضعة دراهم ، فهو الصورة القديمة لرجل الصحافة ، القادر على تنوير الرأي العام أو تضليله حسب ما تملي مبادئه ، فإذا التقى المرابي الرأسمالي ( مامورا ) واستعداده لتقديم الرشاوي بلا حدود ، و( الصحافي )” ارتو تروجوس ” معدوم الضمير ، ولديه ترحيب لتقبل الرشوة والمشاركة في الغنيمة ، فسيتكوّن جسد المسرحية من سلسلة مؤامرات وفضائح وانقلابات تفسد السياسة ، كما تفسد الاقتصاد ، بعد أن أفسدت الأخلاق ، وقيم الدين .
في شخصيات المسرحية المهمة شاعر(كانولو) مشغول بأمرين :عشق (كلاويديا ) جميلة جميلات روما ، ولديها استعداد لأن يشارك جسمها الجميل في صنع المؤامرات أو تقديم الجزاء لصانعيها ، والمهمة الأخرى للشاعر كاتولو هي إيقاظ الرأي العام ومعارضة للفساد ، وفي مثل هذه الأجواء الملوثة لابد أن يوجد الفيلسوف ، وهو العبد ” فيبنيو” ليعيد – في أذهاننا كقراء للمسرحية أو مشاهدين – الأمور إلى أوصافها الصحيحة ، ومع ظهوره المحدود في السياق ، فإنه كان صاحب العبارات الأخيرة في المسرحية ، ونحن نعرف أهمية المشهد الأخير ، والكلمات الموجهة إلى المشاهدين حين تتوقف الأحداث وينزل الستار !!
لقد كان المؤلف ( جاليتش ) على وعي بأنه لا يكتب مسرحية تاريخية ( حتى وإن كان مظهرها الخارجي تاريخياً ينتمي إلى زمن مضى ) لهذا منح أدواره المهمة لشخصيات اخترعها ، وإن جاء ذكر قيصر ، وأمه ، وزوجته ، وهذا طبيعي لأن التآمر يجري بأيديهم أحيانا ، وبأيدي خصومهم غالبا . والبسطاء من الشعب هم الضحية في كل الأحوال ، ومن هنا استمد الكاتب استعارة ” سمك عسير الهضم ” فعلى الرغم من وجود ” بائع سمك ” في المسرحية ، فإنه شخصية هامشية يستعان بها لإسباغ جوّ واقعي على المسرحية مثل : بائع العطور ، والصائغ ، وبائعة الوصفات الطبية ، والجواري ، وأيضا ليكونوا ضحايا – بلا جريرة – لصراع الأقوياء . أما الاستعارة في عنوان المسرحية – ويفسرها السياق بوضوح – فأساسها أن الحياة بحر ، وأن البشر هم أسماك هذا البحر ، وأن الحيتان الضخمة لن ترحم السمك الصغير وهي تلتهمه ، ولكن هذا السمك نفسه ، حين يعرف الحقيقة ويتحرك في اتجاهها سيكون عسير الهضم ، وسيلحق الأذى والألم بمن يحاول إلحاق الضرر به !! إن المؤلف في تشكيل هذا التصور في مسرحيته ينتقل ، أو يكاد ، إلى أدب التنوير والتبشير ؛ إلي الواقعية الاشتراكية – وقد كانت مدرسة أدبية ذائعة في الثلث الثاني من القرن الماضي تقريبا ، قد تسرف في وصف الفساد السلطوي ولكنها تحرص على إبراز براءة البسطاء ، ونقاء الفطرة الإنسانية ، وتنتصر لحقوقهم في آخر المطاف ، حتى وإن يكن هذا الانتصار للبسطاء الضحايا متوقفا عند : ظهور الحقيقة ، وإنزال العقوبة المناسبة بالمنحرفين واللصوص .
المسرحية ذات شكل تقليدي : مكونة من ثلاثة فصول ، تصور حدثا رئيسيا مستمرا . يمثل حضور العامة في ميدان بمدينة روما نقطة البدء ، ومشهد الختام ، بما يؤكد على وحدة المسرحية . كانت الانتخابات على وشك الحدوث لاختيار قنصل ( حاكم عام ) للإمبراطورية ، وكان ” قيصر” العائد بجيش منتصر من حرب خارجية (استعمارية) يطمح إلى المنصب ، وقد شاعت الدعاية لصالح منافسيه وبخاصة فيما يتعلق بتخفيض الأسعار ، وحين يشايع البعض اختيار قيصر قنصلا جديدا ، يعترض بعض آخر بأن الديموقراطية لا تسمح للعسكريين بالترشح ، في حين يرى قدامى المحاربين أن القائد العسكري هو الأحق ، وأن هذا منطق الديموقراطية !! . في هذا الفصل الأول تظهر جميع الشخصيات تقريبا – وهذا تقليد كلاسيكي – ليتعرف عليهم المشاهد وتتكشف له شبكة العلاقات وطبيعة الجو الذي ستجري فيه الأحداث ، وأطرف من ظهر فيه شخصية سفير لدولة ضعيفة ، يحترف التسوّل – بمنتهى كياسة وتهذيب السفير – وفي رأي المؤلف أن هذه هي الوظيفة الحقيقية لسفير دولة ضعيفة لدى دولة قوية ، كما تظهر الجميلة كلاوديا بين جواريها ، وأمام بيتها المشرف على الميدان ، ونرى أثرها الساحر على كل من يشاهدها ، ولكن التمهيد للحدث الرئيسي أن نعرف – من خلال الحوار – أن كل شيء في روما قابل للبيع والشراء حتى أعلى المناصب (القنصل العام) ومن أهم أدوات ذلك : شراء أصوات الناخبين !! وهنا يظهر المرابي الرأسمالي ” مامورا ” ويلتقي بصاحب “السجل اليومي لأخبار الشعب الروماني “–” أرتو تروجوس ” ، وهذا الأخير قبيح الوجه جدا ومشوه ، ولكنه يملك أداة قوية لتوجيه الرأي العام ، وفي اللقاء بين المرابي الثري ، والصحافي المشوه ، يكشف الرأسمالي المرابي عن انحيازه إلى اختيار قيصر قنصلا عاما، فقيصر هو الذي يخوض الحروب ، والرأسمالي هو الذي ينتفع منها ! ومع هذا فإن الرأسمالية الفاسدة لا ولاء لها لغير مصالحها ، فالذي اشترى ” أرتو تروجوس ” صاحب سجل أخبار روما للتأثير في الرأي العام لصالح قيصر ، هو الذي يدبّر الآن – في الفصل الثاني – لكبح جماح قيصر على الرغم من القرابة القوية بين الدكتاتورية( قيصر) والاحتكار الرأسمالي ( مامورا ) مستفيدا من الصحافي أرتو تروجوس برشوة مادية عاجلة ، ورشوة شهوانية مؤجلة أوهمه بإمكانها ( وكم في العشق من أوهام ) وهي أن مامورا سيؤثر على الجميلة المبهرة ” كلاوديا ” ، حلم جميع الرجال – لكي تهب الصحافي القبيح ليلة أو بعض ليلة وفاء لمآثر ” مامورا ” عندها . وهكذا يتفق المرابي والصحافي على كسر شوكة قيصر عن طريق إثارة فضيحة مصطنعة تمس زوجته ، ومن ” فضائل ” هذه الفضيحة وما يشبهها شغل الرأي العام عن الاهتمام بأمور السياسة . وهكذا دبرت الفضيحة بإغراء عشيق زوجة القيصر بالتخفي في ملابس نسائية ، للدخول في طقس شعائري خاص بالنساء فقط ، يجري في قصر القيصر ، وهكذا انخدع العاشق ، وبالطبع تم ضبطه لحبك الفضيحة ، وتقديمه إلى المحاكمة ، ولكنه حصل على البراءة بجهد مامورا صانع الفضيحة نفسه ، وبمآزرة قيصر ، لأن براءة العاشق تعني براءة المعشوقة وتوصل إلى طهارة بيت القيصر . يكشف الفصل الثالث عن تداخل المصالح لدى طائفة أصحاب السلطة ، ويدفع مامورا بالصحفي أرتو تروجوس إلى التسلل ليلا إلى مخدع الجميلة كلاوديا . يرى العاشق القبيح أنه على أبواب الجنة ، ويرى مامورا أنه دفع به إلى الجحيم . وتختلف التقديرات حتى يتكشف شركاء التآمر ( مامورا وأرتو تروجوس ) وقد توافق هذا مع تدبير مامورا لإحداث غرق سفينة تحمل بضائع للجيوش ، السفينة مملوكة له ، ولكنه يدبر إغراقها لأن محتوياتها بضاعة زائفة ، ولأنه سيحصل على تعويض باهظ من الدولة . لقد غرق في السفينة شاب وحيد أمه ، وفي ظن التجار الصغار ( الباعة : السماك ، والصائغ ، وتاجر العطور ، وبائعة الوصفات الطبية ) الذين عرفناهم في مفتتح المسرحية أن ” مامورا ” الذي احتكر تجارتهم واستولى على بضائعهم هو الذي قضى على مستقبلهم ، وهكذا يفشي الصحفي سر الرأسمالي لتنتقم منه الجماهير ، فيؤدي الأمر إلى الفتك بالرأسمالي ، وبالصحفي أيضا لأنه كان أداة تضليل وتآمر ضد مصالح هذه الجماهير .
المسرحية أقرب إلى النقد السياسي الاجتماعي ، وفيها مواقف فكاهية لم يتسع لها السياق ، وتعبيرات غاية في القوة والإحكام ، من أهمها هذا المغزى الذي عبّر عنه ” الصحافي ” ارتو تروجوس : ابتلاع العامة أمر يسير ، ولكن الصعب هو هضمها !!
د . محمد حسن عبدالله