مسافر بلا متاع
مسافر بلا متاع
العلاقة التبادلية بين ألدب – بفنونه المختلفة – وعلم النفس ، قديمة جدا ، وإذا كانت أعمال أدبية فذة ، ألهمت العلماء النفسانيين تشخيصات لانحرافات وأمراض نفسية ، ومصطلحات (كما استلهم فرويد مسرحية سوفوكليس مثلا ، في الاهتداء إلى عقيدة أوديب ) فإن أدباء آخرين قد أبدعو أعمالاً أدبية راقية ، مستهدفين أفكارا ومصطلحات نفسية محددة، يضعون على أساس منها تصاميم ومخططات أعمالهم الفنية ، أو يطرحونها كنوع من التجريب ، وكأنها أدخلت إلى المختبر .
” مسافر بلا متاع ” من هذا النوع الأخير ، ومؤلفها ، الكاتب الفرنسي المعاصر ” جان أنوي ” ليس بعيداً عن الاهتمام المباشر بالتجارب النفسية ، فهذه قاسم مشترك في الفنون المعاصرة ، بدءًا من الرمزية ، وإلى أيامنا هذه ، وهو كاتب وجودي ، من الطبيعي – بحكم فلسفته – أن يهتم بفكرة ” المواجهة ” بين الإنسان والآخرين ، وبين الإنسان ونفسه.
وقد عرف علم النفس التحليلي – في استدراكات أدلر على أستاذه فرويد – مصطلح ” الولادة الجديدة ” ، ولا أجد قولا دقيقا صادقا يجمل فكرة ” المسافر بلا متاع ” مثل هذا المصطلح . إنه ينتمي إلى ” النماذج العليا ” والتي أثرت بعمق في الوجدان الإنساني كله . وحُلم الولادة الجديدة ، يُعبر عن أمنية أو هاجس في نفس كل إنسان – بدرجات متفاوتة – أن لو استطاع أن ينخلع من ماضيه كلية ، وأن يبدأ رحلة الحياة من جديد ، متحررا من كافة علاقات الماضي ، مستفيدا من تجاربه في نفس الوقت . هذا ” الحلم ” المستحيل عرض نفسه بسخاء ، في أعقاب حادث افتراضي ممكن الحدوث ، لجندي فرنسي شارك في الحرب العالمية الأولى ، وأصيب بفقدان الذاكرة ، اختفى الماضي كله أو انمحى من صفحة عقله ، وأصبحت الولادة الجديدة أمرا ممكنا .. فكيف يتصرف ، هذا الشاب ، ” چاك ” ، الذي أصبح يحمل اسم ” چاستون ” كيف سيواجه نفسه الماضية ، وكيف ينظر إلى الآخرين ؟!
الحكاية في المسرحية ، كما نرى ، مسرفة في البساطة ، وهذه صفة الأعمال العظيمة : البساطة والطرافة والعمق ، في نفس الوقت . جاءت في خمس لوحات متتابعة ، بعضها في حجم فصل مسرحي ، وبعضها قصير جدا ، ميل اللوحة الرابعة ، وهي من صفحة واحدة ، يتزاحم فيها الخدم على ثقب المفتاح ليشاهدوا چاستون ( أو ” چاك ” ) وهو يخلع ثيابه ، ويتأمل ظهره أمام المرآة ، يفتش عن آثار جرح صغير قديم ، سيكون بمثابة الدليل المادي القاطع على أن چاستون الحالي ، هو نفسه چاك ، ابن أسرة رينو الريفية الثرية ، يعود إليها بعد ثمانية عشر عاما من فقدان الذاكرة .
أما كيف تنامى الحدث عبر خطوات الحكاية في هذه اللوحات ، فإن المسرحية امتدت على مساحة زمنية قصيرة ؛ يوم وليلة ، كانت كافي لتقليب صفحات الماضي ، أو المهم من هذه الصفحات ، لنعرف طبيعة الشخصية ، وعلاقتها بالآخرين ، وبالحياة من حولها ، إبان ثمانية عشر عاما أيضا ، عاشها هذا الفتي بين أسرته ، قبل أن يُطلب ليجند ، ويصاب فيفقد الذاكرة ثمانية عشر عاما أخرى .
جاء الفتى بصحبة سيدة ذات مشاعر مستفزة ، وخيال طليق ، فيها قدر من طبيعة دون كيشوت : ” أتخيل ، فيكون الأمر كما أتخيل ” ، وهذه السيدة – أو الدوقة – كما تُعى – رئيسة لجمعية خيرية تعنى بضحايا الحرب ، وعرفت چاستون حين تولى ابن اخيها الطبيب معالجته في الملجأ الخاص بهؤلاء الضحايا ، فتعاطفت معه ، وعلى الرغم من انه كان يعمل في حديقة الملجأ بالأعمال الخشنة ، كالحرث والري ، فإنها توسمت دائما أن يكون چاستون هذا سليل أسرة عريقة . ولهذا فإنها حين تلقت طلبات الأسر التي تريد أن تقابله ، لعلها تتعرف فيه ولدها المفقود في الحرب ، ولعله هو بدوره يتذكر أو يستعيد قدرا من ذاكرته المفقودة إذا ما التقى بأفراد أسرته وراحوا يوقظون فيه ذكرياته القديمة معهم ، حين تلقت الدوقة طلبات السر ، وضعت آخر طلب في المكان الأول ، لأن أسرة رينو عريقة غنية ، بعكس الطلبات الأخرى التي يعمل أصحابها بمهن مبتذلة ، ورأت الدوقة العجوز ، بفعل خيالها المحلق ، أن چاستون ، الفتى المهذب ، الهادي ، الوديع ، سيتعرف حتما على أسرة رينو ، وينتمي إليها ، لأنه يستحقها !! ولكن ، إذا كان چاستون يستحق أسرة رينو ، الريفية العريقة ، في نظر الدوقة ، فإن الأسر الأخرى – الوضيعة – لن تتنازل عنه بسهولة ، ستحاول أن تجد فيه ابنها الغائب منذ الحرب ، لأن للفتى چاستون وجها آخر ، إنه يساوي ثروة كبيرة ، هي راتبه التقاعدي كجندي مصاب ، هذا الراتب الذي يحتسب له طوال السنوات الثماني عشر ، ويودع باسمه ولا يُصرف إلا لأسرته ، إذا ما ثبت أنها أسرته . إن هذه الإضافة الأخيرة احتفظ بها الكاتب ليجعل منها ختام المسرحية ، وهو ختام صعيف ، أو ساخر كما أراد ، إذ جعل الأسرة التي يفضل چاستون أن يتعرف عليها ، أو بإرادته ومنتهى وعيه ، تحتاجه وتدعيه كذبا ، لا لتستولي على ثروته ، وإنما لتنقذ به ثروتها ، حيث انقرض الورثة في حادث غرق سفينة ، ولم يبق منها غير صبي صغير ، ووصي عليه ، وسيضيع الشطر الأكبر من الميراث على الصبي ، ومن ثم الوصي ، الذي يحصل على نسبة نظير إدارته للممتلكات ، إذا لم يوجد شخص آخر يستحق الميراث .. وقد رضي چاستون – طواعية – أن يكون هو هذا الشخص الآخر .
أما لماذا ؟ فهنا يتجلى جوهر المسرحية ، أو فكرتها الأساسية ، كما يظهر المتجه الوجودي ، ومن ثم حلم الولادة الجديدة .
إن الفتى فاقد الذاكرة ، وقد انمحى الماضي بكل ما فيه ، قد تحول إلى صفحة بيضاء نقية . وهذا النقاء صار حكما يصدره على نفسه ، بما فيه ماضيه المجهول ، وكل من حوله من الناس ، ومن الأشياء الأخرى أيضا . إنه الآن ودود مهذب ، و ” الدوقة ” معجبة به لهذا السبب ، وحين نطق كلمة ” خنزير ” وهو تحت تأثير المخدر في حجرة ابن أخيها الطبيب ، فإنها اعتبرت هذه الكلمة نابية جدا ، ولا تصدر عن شخصيته الحالية ، وخمنت أنها لابد تعود إلى الماضي البعيد ، لعله كان يداعب بها صديقا مثلا . إلى هذا الحد كان چاستون راضيا عن واقعه ، بقدر ما كان متضايقا من سلسلة المقابلات التي لا تنتهي ، مع أولئك الذين يريدونه أن يكون ابنهم المفقود ، ولا ينافس ضيقه بهذه المقابلات إلا حزنه من احتمال بعيد ، أن يكون قد قتل شخصا من الأعداء إبان الحرب ، إنه لا يريد أن يكون قاتلا ، حتى وإن كان القتل – في هذه الحالة – بطولة ، وشجاعة .
هكذا يُقبل الرجل ” الصفحة البيضاء البريئة ” على القصر الكبير لآل رينو ، ليستقبله أخوه الأكبر چورج ، وأمه ” مدام رينو ” وزوجة الأخ ڤالنتين ، وعدد كبير من الخدم ، في مقدمتهم ” چولييت ” التي سنعرف من خلالها أول خيوط الماضي لسيدها الفتي المراهق ” چاك ” ، أو ” چاستون ” كما يدعى الآن .
الانطباعات الأولية ، كما نتلقاها من جيش الخدم والطهاة في القصر ، أنه هو نفسه، لقد عرفوه برغم البعد الزمني ، واختلاف الهيئة ، وكانوا مجمعين على بغضه ، والضيق بعودته ، باستثناء چولييت ، وهو يمثل أول حب في حياتها ، إذ التحقت بالخدمة عند الأسرة وعمرها خمسة عشر عاما ، وكانت جميلة ، وفي اليوم التالي مباشرة ألقاها على السرير وكأنه يداعبها . لقد أصبحت زوجة الآن ، ولكن ذكرى الحب الأول ، والرغبة القوية في أعماق المرأة لاسترداد حب قديم ، جعلتها تقف مدافعة عنه ، في حين لا يحمل له الطاهي والسائق ورئيس الخدم إلا أسوأ الذكريات عن قسوته في معاملتهم ، وشحه ، ونذالته ، وعلى ألسنة هؤلاء تنبعث الإشارات الغامضة عن أمور أخرى نعرفها بعد حين .
حين التقى چاك – كما بدأت أرسته تناديه باسمه الحقيقي المعروف لديها – حين التقى بأمه ، ثم بأخته ، لم يتعرف عليهما بالطبع ، في حين غلب على اعتقادهما ، ثم ما لبثا أن تأكدا أنه هو – ولدهم – ولكن الفيصل في القضية ليس ما يعتقدان ، أو يزعمان ، المهم أن يتجاوب الشاب فاقد الذاكرة معهما ، ومن ثم يتعرف عليهما من جانبه . ولكي تصل الأم ، ثم يصل الأخ إلى تحقيق هذه الغاية ، فإن إيقاظ ذكريات الماضي النائمة هي السبيل الوحيد إلى اليقظة المنشودة . هكذا بدأ : الأم ، والأخ ، في محادثة الشاب ، ولكنه لاحظ أنهما يتهربان من توضيح بعض الأشياء والأمر التي تتصل بهذا الماضي ، تفاديا لحرج ما ، أو ضرر ما ، يمكن أن يقع . ولكن الشاب لم يقبل منهما هذا التصرف :
“چاستون : إذا استعدت ذاكرتي في شيء ، ينبغي أن أستعيدها في كل شيء ، إنكم تعلمون ذلك ، إن ماضي الإنسان لا يباع له بالتجزئة”
هذه بالطبع حقيقة علمية ، فالماضي ، أو التجارب ، مثل كل شيء في الحياة ، لا يوجد في عزله ، إنه يرتبط بأسباب ونتائج ، ويأخذ مكانة في نسق أو علاقات ، وهكذا تدرجت مراحل الاكتشاف ، ليرى ” چاك ” ماضيه الملئ بالعنف ، والقسوة ، وعدم الاحترام لأية قيمة أو أخلاق . منذ الطفولة الباكرة والصبي يلهو بقتل الطيور والسناجب والفئران ، ويتفنن في الإجهاز عليها ، وتحنيطها ، والتلهي بمشاهدتها محنطة . فلما شارف المراهقة حوّل الخادم الصغيرة إلى عشيقة ، وهو لا يزال تلميذا ، وضرب صديق عمره ضربا مبرحا حين شاهده يحاول تقبيلها ، بل ألقاه من فوق السلم ، فأصيب بكسر في العمود الفقري ، فهو يقضي عمره مقعدا . وكوّن شركة وهمية استولى بأوراقها المزيفة على خمسمائة ألف فرنك من سيدة عجوز ، اضطرت أسرته إلى سدادها ، في حين أنفق هو هذا المبلغ على الشراب والقمار .
أما ڤالنتين زوجة أخيه الأكبر ، فإنه أقام معها علاقة بمجرد العودة من شهر العسل، وقد استمرت هذه العلاقة طويلا ، إذ ذهب الأخ الأكبر إلى جبهة القتال ، ولم تنقطع إلا بذهاب چاك ، وعودة أخيه . وكان آخر هذه الأعمال الضارية ، أنه أراد أن يتزوج – وهو في سن الثامنة عشرة – من فتاة وضيعة ، ويفرضها على أسرته ، برغم أنه يوشك أن يغادر البيت إلى الجبهة ، فلما اعترضت والدته لوضاعة الفتاة ، ولأن الظروف غير ملائمة، رفع يده في وجهها ، وخاصمها ، وإذ عزّ عليها أن تبدأ هي بمصالحته ، فإنه غادر البيت ، يحمل حقيبة معداته ، دون أن يكون في وداعه أي أحد من أسرته .
هذا هو الوضع الآخر البشع للفتى ” چاك ” أو ” چاستون ” قبل انضمامه إلى الجيش ، وما ترتب على ذلك من فقدان الذاكرة . إنها صورة عكسية تماما لصورته الآن ، وهي صورة مرفوضة من ضميره تماما ، من منطق ما يعيشه الآن من أفكار عن شخصه ، وتصورات تتخيل ماضيه .
لقد حاولت الأم – مدام رينو ، كما حاول الأخ الأكبر – چورچ – أن يخففا من فظاعة هذه الحقائق المجردة في ماضي چاك ، بأن يجدا مبررات لكل فعل شاذ ، وأن يحملا نفسيهما جزءا من مسئولية ما جرى ، حتى قسوته في الطفولة المبكرة وقتله للطيور ، ارجعها چورچ إلى أنه المسئول عنها ، لأن والدهما مات ، وچاك في الثانية من عمره ، وكان چورچ في الثانية عشرة ، فغلب حبه لأخيه وعطف عليه ، فلم يأخذه بالتوجيه والحزم اللازمين . حتى عشقه لڤالنتين – زوجة أخيه ، سامحه فيه هذا الأخ ، واعتبر نفسه الأحق باللوم ، لأن ڤالنتين كانت تحب چاك أولا ، وكان يناظرها في العمر ، ولكنه مجرد ولد صغير لا يملك شيئا ، وهنا رآها چورچ وتقدم لخطبتها ، وحملتها أسرتها على قبول الزواج دون إرادتها .. أما ضربه لصديقه حتى كسر عموده الفقري فقد كان شجارا عاديا انتهى إلى نتيجة غير مقصودة !!
هكذا بأكثر من طريقة ، ويكل المبررات الممكنة الزائفة حاولت الأسرة أن تهدئ نفس عزيزها چاك ، وأن تسترده . ولكن الأمر – الآن وبعد أن عرف كل شيء أصبح في يده . إنه مبدئيا يعجب كيف أن أمه وأخاه قابلاه بكل هذا الحرص على استبقائه برغم هذا الماضي المليء بالمثالب :
” چاستون : إن الفرحة التي تأهبتم بها لاستقبال أخيكم العائد ، تدعو إلى الإعجاب “
ولكن : ماذا بعد الإعجاب ؟ إن جميع الأسباب التي تربط الفرد إلى أسرته مفقودة . لقد راح يفتش في ذاكرة أمه عن فرحة صغيرة جدا حققها لها ، فلم يجد ، وحين اكتشف الهوة التي تفصله عنها ، فيما كان في الماضي ، حتى إنها لم تنهض لوداعه ، وهو ذاهب إلى ميدان القتال ، هتف من أعماقه ، أمامها الآن : ” حقا .. إني أكرهك ” !! لقد اعتذر لها بسرعة ،وتألم من أجلها وهو لم يسلّم بعد بأنها أمه ، فكيف أمكنه أن يفعل مثل ذلك سابقا ، بل يرفع يده في وجهها ؟! لقد أحس أن ماضيه البغيض ناشب في أعماقه ، وانه لن يستطيع التحرر من هذا الماضي ما دام يعيش بين رموزه وشخوصه . إن هذا الماضي سيمارس سطوته عليه وتوجيهه ،ومن ثم يشعر بأن ” ما كان ” هو ” ما سيكون ” بمجرد أن يرضى بالحياة بين أسرته . حين تطمئن الأم – مدام رينو – قليلا ، تبدأ بتلقينه ما ينبغي عليه أن يشعر به تجاه الآخرين ، حسب مواقفهم الماضية ، إذا ما أقبلوا للسلام عليه ، فيجب أن يكره ابن عمه لأنه كان أفشى سر غشه في الامتحان ، ويكره فلانا لأنه أوقف تعيينه في إحدى الشركات ، ويحسن استقبال فلانة لأنها حضرت يوم ولادته .. إلخ . لقد أحس الفتى أنه لا فرار من الماضي ما دامت الرابطة الاجتماعية الراسخة تقدم التجارب جاهزة ، ولا تتركه لنفسه .
إن الجميع يوصونه الآن بأن يتخلى عن البساطة والمثالية ، وان يتقبل نفسه كما هي ، وهم يقصدون نفسه الماضية ، لكنه الآن ينكرها تماما ، ينكرها من موقف المواجهة والنقد ، كما يرفض كل من حوله .. إنهم جزء من ماساته الخاصة . إن الاعتقاد والسلوك يفسران بالعلاقات الموضوعية ، وما دامت هذه العلاقات على حالها السابق ، فإن نهجه السابق سيبعث من جديد . لقد أصبح الآن فزعا لمجرد تصور الفكرة . يقول لأمه :
” لست چاك رينو ، لست أتعرف شيئا هنا مما كان له . ذات لحظة ، نعم ، وأنا أصغى إلى كلامك ، خلطت بيني وبينه ، إني أسألك العفو ، ولكن ، لعلك ترين أن ماضيا بأكمله ، بالنسبة لرجل بلا ذاكرة ، إنما هو عبء باهظ ، أثقل مما يطيق ظهره أن يحمله دفعة واحدة ” .
وحين تضعه ڤالنتين – زوجة أخيه – أمام حقيقة أنه ” چاك ” بعلامة في جسده لا تخطئ ، هي التي أحدثتها به حين تشاجرا ، يجري الحوار بينهما هكذا :
” ڤالنتين : لماذا تحدثني هكذا ؟ ماذا بك ؟
چاستون : اذهبي عني ! أنا لست چاك رينو .
ڤالنتين : إنك تصرخ بهذا ، كما لو كنت خائفا من أن تكون إياه “
هذه بدورنا حقيقة عبر عنها تعبيرا رائعا إذ يقول في نفسه ، عن نفسه :
” كان يظن نفسه صالحا ، وهو ليس بصالح ، فاضلا ، ولكن هيهات . وحيدا في الدنيا حرا ، بالرغم من جدران الملجأ ، غير أن الدنيا تعمرها كائنات قدّم لها رهونا ،وما زالت تنتظره ، وأدنى حركاته لا يمكنها أن تكون إلاّ امتداداً لحركات كان يأتي بها قديما . ما أبسط هذا ” .
لكل هذا قرر چاستون أن يظل چاستون ، ولا يسترد شيئا من شخصية الماضي التي يمثلها چاك ، وهكذا رحب بادعاء أسرة أخرى قدمت من انجلترا تدعى قرابته لتحمي بها ثروة ستضيع ، أسرة جميع أفرادها شخص واحد ، طفل ليس له أهل .. لقد اختاره لينضم غليه ، هو الهارب من ماضيه ، من أهله ..
في المسرحية رفض للحرب من خلال تصوير ويلاتها ، وكيف أن البطولة الزائفة في الميدان تلغي الفروق بين شخصيات المقاتلين ، مع أن فيهم من النقص الكثير ، وفيها الأساس الوجودي في التعويل على الإرادة الإنسانية وحرية الاختيار ، لقد رفض چاستون ماضيه ، ورفض أسرته ، واختار مستقبلا متحررا من كل أدران هذا الماضي ، لقد حقق الولادة الجديدة ، برغبته الحرة ، حين صمم على أنه ليس سليل آل رينو ، وقبل الرحيل مع الصبي الإنجليزي ، وهو أجنبي عنه . هذا الختام الساخر لم يرض النقاد ، وهو بالفعل ليس مناسبا لجلال القضية المطروحة . إن الإنسان الوجودي هو الذي يشعر بأن الحياة في خطر ، وأن الحرية تستحق كل ما يبذل في سبيلها ، وان قرار الإنسان في كل موقف مسألة لها وزن ينبغي إعطاؤه كل الجدية . لقد كان چاستون مثالاً لهذه المعاني التي قام عليها الفكر الوجودي ، لكنه في الختام ، جاري عنصر السخرية ، أو الفرجة ، وأراح نفسه من التفكير في احتمالات المصير ..
يقول في قمة ثورته : ” إني أقوم الآن برفض ماضيّ وشخصياته ، بما فيهم أنا ، ربما كنتم أسرتي ، وغرامياتي ، وقصتي الحقيقي ، نعم ، ولكن ، هناك شيء آخر ، وهو : إنكم لا تعجبونني .. إني أرفضكم ” .
باستثناء فكرة التحرر من الماضي ، هل ” اختار ” چاستون وضعا أفضل من المعروض عليه من أسرته ؟
هذه قضية أخرى ، وجودية أيضا !!
د . محمد حسن عبدالله