عيوب التأليف المسرحي : قراءة نقدية
عيوب التأليف المسرحي
( قراءة نقدية )
د . محمد حسن عبدالله
يكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة ، لأسباب متعددة ، كما أنه يحتاج من القارئ العربي إلى نوع من التنبه ، والوعي بتاريخ مسرحنا وظروفه ، لتكون القراءة ذات فائدة مكتملة . مؤلف الكتاب واحد من أهم نقاد المسرح في الولايات المتحدة الأمريكية . وولتر كير ، وهو فضلاً عن خبرته النظرية الواضحة في محتوى كتابه ، وفي قدرته على دفعنا في اتجاه ” إعادة النظر ” في بعض المفاهيم المسرحية والأحكام التاريخية ، المسلّم بها ، أو التي تبدو لنا ، وتقبلناها طويلا كمسلمات ، فقد تحققت لهذا الناقد ميزتان : أنه ناقد صحفي، فهو الناقد المسرحي لجريدة هيرالد تربيون ، التي تصدر في نيويورك ، وانه مخرج مسرحي أيضا ، وهاتان الميزتان تعنيان لنا أنه كان على صلة حميمة بالرأي العام الجماهيري والثقافي معاً ، وأنه يملك الدراية والخبرة بما يجري في المطبخ المسرحي ،أو وراء الكواليس ، كما يقال ، ونحن نعرف أنه من هذا المطبخ تخرج أعظم كتاب المسرح ، وربما أعظم نقاده أيضا .
تحطيم الأصنام !
إن وولتر كير ، في حدود هذا الكتاب ، يمجّد ، ويحطم أصنام ثلاثة من أهم كتاب المسرح في العصر الحديث : إبسن ، وتشيكوف ، وبرنارد شو . وهذه أهمية أولى إضافية للقارئ العربي بصفة خاصة ، لأن فن المسرح قد وصلنا عن طريق هؤلاء الثلاثة أكثر من غيرهم ، وإذا كان المؤلف المسرحي الناشئ في انجلترا أو فرنسا أو ايطاليا ، أو الولايات المتحدة ، يملك من تراثه المسرحي الخاص ما ينافس أو يشارك هؤلاء الثلاثة في الأهمية ، فإن المؤلف المسرحي العربي الناشئ لا يملك مثل هذا التراث الخاص ، فإذا تطلع باحثا حوله ، محاولا إقامة علامة ما في أرضه الخالية أو تكاد ، فإنه سيكتشف أن العلامات الأولى ، عند توفيق الحكيم بخاصة ، كانت تستند إلى هؤلاء ، أو كانت تستند فيمن تستند إليهم إلى هؤلاء . إننا لا نقدم هنا إدانة لفن الحكيم ، كما أننا لا نفكر في إدانة من جاؤوا بعده ، أو تبرئتهم ، في اعتمادهم على المسرح الأوروبي عند غير هؤلاء الثلاثة ، وكل ما نرمي إليه ، أن يظهر لنا منذ البدء أن توفيق الحكيم ، أول من أوجد اتصالا حقيقيا بين المسرح العربي الناشئ ، والمسرح الأوروبي الراسخ ، حين قرر – بإيمان ثقافي عميق – أن يُدخل أدب المسرح إلى ديوان الأدب العربي العام ، وأن يرتفع بلغته وأساليبه لتحقيق هذه الغاية ، إنما اتصل بهؤلاء الثلاثة : إبسن ، وتشيكوف ، وشو ، ومن لا يختلفون عنهم كثيرا . وإذا كنا لا نميل إلى إصدار الأحكام ( على الأقل عملا بوصية وولتر كير نفسه ) فإن إشارات هذا الناقد وسياق ملاحظاته ستقول لنا : إنكم حين ربطتم حركة التأليف المسرحي عندكم إلى هؤلاء وأشباههم إنما كنتم تركبون عربة عاجز عن التقدم ، عربة استهلكت ، وانتهى عمرها الافتراضي منذ جيل أو جيلين ، وتصميمكم على ركوبها ، محاكاتها ، سيؤدي بمسرحكم إلى الإفلاس الجماهيري ، كما أدى في الغرب إلى ذلك من قبل .
إننا – على أية حال – قبل أن نحصر قراءتنا ، ولو كمرحلة ، في معطيات هذا الكتاب ، نلمح قدراً من التشابه لا يخفى ، بين المناخ المسرحي العام في أوروبا ، حين ظهر الثلاثة المشار إليهم ، واستقبلوا ابتداءً بحفاوة عظيمة تليق بهم ، وإن جاءت بعد فترة مقاومة ورفض ، وبين المناخ المسرحي العربي العام حين ظهر توفيق الحكيم وكتب المسرحية المثقفة ( بفتح القاف ) والمثقفة ( بكسرها ) ثم المسرحية الواقعية بعد ذلك ، وقد ظل الاتجاهان كلاهما يعملان عملهما عند ناشئة المؤلفين ، ربما إلى اليوم ، وقد يعود إليهما جانب كبير من عدم المبالاة الذي يكنه الجمهور العربي للمسرح ، أو لهذا الضرب من التأليف المسرحي .
إن حدود استشهادات وولتر كير المسرحية واضحة تماماً ، إنه يتحدث عن أزمة المسرح الأمريكي بصفة خاصة ، منطلقاً من الآثار السلبية التي استلهمتها بإصرار غير حصيف أجيال من كتاب المسرح ولت وجهها نحو إبسن وتشيكوف وشو ، ولكنه يتوقف أحيانا عند موليير ، وسكريب ، ومن أبناء وطنه عند : تنسي وليامز ، وميلر ، على درجات متفاوتة من الإعجاب ، وعند أسماء أخرى عابرة ، هدفه من إثباتها وتلخيص موضوعات مسرحياتها ، أن يقدم برهانا عمليا على تسلط الإبسنية بصفة خاصة ، وكيف ” خدعت ” جيلين على أنها تتمتع بالشباب الدائم في حين أنها كانت قد أصبحت جثة هامدة تجاوزها العصر . لقد أهمل الكتاب حركة مهمة مثل : المسرح التسجيلي . ولعل لهذا الإهمال أكثر من سبب ، إن مناقشة الإبسنية والتشيكوفية ، وآثارهما تشتمل على بعض مهم مما قمت عليه الفنون المشار إليها ، ولعل وولتر كير لا يريد أن يقترب من الفكر اليساري بطريق مباشر ، من خلال المسرح الملحمي أو التسجيلي ( ربما ساعد على هذا الاعتقاد أنه اهتم بالرمز نسبيا ، وإن رأى أنه من عمل الناقد ، وليس من إبداع الكاتب ) على أن اتخاذه من أزمة المسرح الأمريكي نقطة ارتكاز قد يعني أن الكاتب المسرحي ( صانع الأزمة ) لم يعتنق الملحمية أو التسجيلية . أما الذي لم يقلده أحد في أمريكا ، ونال الإعجاب كله عند وولتر كير ، فهو شكسبير وحده ، ولكن ، لأسباب لم يهتم بها المثقفون الأكاديميون ، عندما يقدمون مسرحياته لطلابهم كنماذج جيدة للتأليف المسرحي ، وهذه نقطة جديرة بالرعاية .
لقد اتخذنا من ” الجمهور منطلقا للقراءة النقدية ، في كتاب ” عيوب التأليف المسرحي ” ، وهذا الاختيار نابع من اعتقاد بأن ” الجمهور ” يمثل حجر الزاوية ، والأساس، الذي قام عليه فن المسرح منذ نشأته ، واعتقاد مؤلف الكتاب بأن الجمهور المتجدد ينبغي أن يظل صاحب الحق في أن يكتب له المؤلفون وعنه ، وأن ذوقه ينبغي أن يبقى مصدر الحكم بالمقبول والمرفوض ، بل يرى وولتر كير أن المؤلف المسرحي جيد أو ردئ بمقدار ما يحقق من ” تملق ” الجمهور ، والاقتراب من الشعبية .
التعبير عن العصر
لم يتورط وولتر كير ، وما كان له أن يتورط ، في التقليل من شأن الثلاثة المشار إليهم سابقاً ، لقد عبر كل واحد منهم عن عصره بصدق ، وواجه عالمه المتغير بشجاعة ، وتشيكوف حين بنى فنه المسرحي على ” التوتر الصامت ” الذي يتجسد في خيبة الأمل ، والبلادة ، والميوعة العصبية ، والإنهاك ، إنما كان يعبر عن فكرة زمنية ، في مكان معين ، وحالة نفسية ، تلك هي روسيا القرن التاسع عشر المشرفة على الموت . اما إبسن فقد عبر عن روح عصره ، في الثقة بالعلم ، والاهتمام بعلم الاجتماع بخاصة ، وإعلاء شأن الحرية ، فمسرحية مثل ” أعمدة المجتمع ” هي دراسة حرفية لبيئة معينة ، وهي أيضا وثيقة أخلاقية متحررة ، ويمتزج هذان الأمران فيكون لهما ظاهر وباطن ، الظاهر الاهتمام بالواقعية ، بل بالفوتوغرافية ، والباطن الأهمية الاجتماعية . ولا ينكر وولتر كير أن الجمهور وقف إجلالاً لتجديد إبسن في الأسلوب والمضمون ، وأصبح رؤية ممثل يشرب الشاي فوق خشبة المسرح ويرشفه ببطء وهو يقرأ صحيفته أكثر متاعاً من منظر رجل يصارع اللصوص ، ويشهد صاحب ” عيوب التأليف المسرحي ” إن مثل هذا حدث في أمريكا حين ظهر جهاز التلفزيون لأول مرة على خشبة المسرح !! لقد راح الحضور يحملقون فيه معجبين مترقبين ، ولكن هذا الواقع المألوف لم يلبث بالتكرار أن أصبح مصدراً للسأم ، أصبح محفوظاً ، بدرجة تجعل وولتر كير يزعم أنه يعرف سلفاً كل جملة ستقال ، وكل حادثة ستأتي ، ويعرف كيف ستنتهي المسرحية أيضاً .
إن إبسن أعظم أثراً من تشيكوف ، بالنسبة لفن المسرحية ، ومن ثم تبدو جنايته أكبر ، على الأجيال التالية ، حتى وإن كانت لديه مبرراته الخاصة ، التي تسوغ له أن يحدث تلك النقلة الهائلة في فن المسرحية ، لقد قدّم مسرحياته في قالب غير شعبي ، وأقامها على فكر انتقادي ، واستغرق في الواقعية ، واهتم بالمنهج العلمي . لقد عبر بهذا عن روح عصره ، ولكن عصره ليس عصرنا ، ومشكلة المسرحية الاجتماعية أنها تتوقف عند مساحة من واقع متحرك ، ومن ثم سرعان ما تصبح قديمة تجاوزها الزمن ، على سبيل المثال ، أستطاع إبسن عام 1884 أن يفتح أبواب عالم جديد مجيد أمام المرأة عندما جعل نورا هيلمر تغادر بيتها دون إذن ، وتصفق الباب ، وصفت هذه الصفقة بأنها دوت في أرجاء أوروبا ، ولكن : من يعبأ بنورا وما تمثله اليوم ؟ لقد اخترت هذا المثال من بين ما ذكره المؤلف ، لأن ” بيت الدمية ” – من بين ما ألف إبسن – كانت أكبر مسرحياته حظاً في الوطن العربي ، عرضت بنصها ، ومصرت ، وكوتت ( في المرة لعبة البيت ، كوتها صقر الرشود وعرضها مسرح الخليج العربي عام 1968 ) واجتازت كل عواصمنا تقريبا بشكل أو بآخر ، ولكن : من يفكر في عرضها الآن ؟ كذلك لم يعد من الممكن ترديد منطلقات إبسن تعبيراً عن الإيمان بها ، مثل الثقة بالعلم ، كان هذا ممكنا منذ قرون ، أما الآن ، فلدينا يقين بأن العلم لا يستطيع أن يتكفل بحل مشكلاتنا ، بل لابد أن يتكفل بالعلم شخص ما ن عالم ، أو بآخر ، ولكن : من يفكر في عرضها الآن ؟ كذلك لم يعد من الممكن ترديد منطلقات إبسن تعبيراً عن الإيمان بها ، مثل الثقة بالعلم ، كان هذا ممكنا منذ قرن ، أما الآن ، فلدينا يقين بأن العلم لا يستطيع أن يتكفل بحل مشكلاتنا ، بل لابد أن يتكفل بالعلم شخص ما ، عالم ، أو فيلسوف ، أو سياسي مثلا . من هنا يحدد وولتر كير الأثر السلبي لمسرح إبسن على الأجيال التالية ، بأن القالب أصيب بالصدأ ، وأصبح مملا ، بطيئا ، وان التحول في وجهة النظر الاجتماعية جعل مثل هذا المسرح يصطنع معارك وقضايا وهمية ، أو لا تهم الكثرة ، ويديرها لحسابه الخاص .
ومع أن وولتر كير لم يقدم دليل إدانة واحدا ضد الثلاثة الذين عني بقراءة مسرحياتهم ، فإنه ألمح إلى ألمح إلى إحدى سلبيات شو بصفة خاصة ، واتخذها مدخلا لإثارة قضية هامة ، بل لعلها أهم قضايا ” عيوب التأليف المسرحي ” ، وهذه القضية هي موقف الكاتب المسرحي من جمهوره ، وهي تمثل الوجه الآخر ، بل الوجه الأساسي الأصيل لموقف الجمهور من المسرح ، الذي سيأخذ موقع ” رد الفعل ” بالضرورة . أما سلبية شو فيجملها شو بنفسه حين يتأمل بضيق مستوى المسرحيات المعروضة في لندن ( وقد كانت مسرحيات شعبية رائجة تثير الضجيج والزحام والنشاط الخلاّب في مظهره كما يقول كير ) بأن يشكو ، لأنه برغم كل ما يرى فإنه لم يكن يجد مسرحية واحدة يستطيع أن يأخذ صديقه وليام موريس لمشاهدتها !!
لقد تهكم صاحب ” عيوب التأليف المسرحي ” ما شاء من عبارة شو ، لأن وليام موريس ليس جمهور المسرح ، وأمثاله من المثقفين لا يذهبون إلى المسرح أصلا ، وإذا ذهبوا فإنهم بنسبة ضئيلة ، حددها المؤلف بعشرين شخصا سيظلون يذكرون هذه المسرحية ” المثقفة ” حينا من الدهر ، ثم تنسى عددا من السنين ، ثم تعرض من جديد ليتذكرها عشرون آخرون !! وهنا يقرر أن الكاتب المسرحي لا يكتب للمثقفين ، بل يذهب إلى ما هو أبعد خطراً حين يقرر أنه لا نصيب للمسرح في قيادة الفكر ، بل إنه حتى لا يعكس تيارات الفكر .
علاقة المسرح بالفكر ستناقش على مستوى الجمهور ( وهو قضيتنا الأصلية ) وعلى مستوى تحليله لفن شكسبير ، ونكتفي – في هذه المرحلة – بتحديد مسئولية الثلاثة ، وشو بصفة خاصة – في ” تحريف ” الصيغة المسرحية لدى الأجيال التالية بعبارة بسيطة جدا : لقد أصبح الكاتب المسرحي مفكراً ، وأصبحت المسرحية قضية ، هدفها إثبات أمر أو نفيه ، ومع خطورة هذا الجانب فإننا لن نعتبره السبب العميق لانصراف الجمهور عن المسرح عندهم ، وعندنا أيضا ، بالنسبة لهذا النوع من المسرحيات ( وقد وضع وولتر كير عنوانا جامعاً هو مسرحية الأفكار ، أو مسرحية الصياغة العقلية ، ثم درجها إلى ثلاث مستويات : السيئ ، فالأسوأ ، فالأكثر سوءا : مسرحية المشكلة ، ومسرحية الرسالة ، ومسرحية الدعاية ) أما السبب العميق لهذا الانصراف ، والذي نكاد نجده بحذافيره لدى كثير من كتاب المسرح عندنا ، لدرج أنني وجدت صعوبة في استبعادهم من تفكيري وأنا أقرأ هذا الجزء من الكتاب ، فهو نظرة الكاتب إلى الجمهور ، وفهمه لرسالة المسرح ، بعبارة أخرى : موقع المؤلف المسرحي من الجمهور . لقد أصبح مفكراً ، يملك وعيا متقدماً ويقظة متحفزة ، ولهذا فإنه لا يفكر في إرضاء جمهوره ، وإنما على العكس ، تملكه مشاعر من يخوض مع هذا الجمهور معركة لتأديبه ، وتثقيفه والمسرحيات نفسها تري إلى استفزاز الجمهور وتوليد مقاومته ، وإذ يقول مؤلف ناشئ لم يتقبل الجمهور مسرحيته بترحاب : لم أكن أريد أن اسر الجمهور ، بل أصدمه وأؤلمه ، فإن وولتر كير يصف مثل هذا المسرح – وله كل الحق – بأنه مسرح بيّت النية على أن له أعداء !!
سنجد اعتقاد المتحمسين من كتاب المسرح لنهج إبسن وتشيكوف وشو ، يتفق واعتقاد كثير من كتاب المسرح عندنا في الجيل الماضي ، وهذا الجيل أيضا ، حين يرد الفريق الأول : ” إن مخاطبة الطبقات الدنيا تولد مسرحا ضحلاً ينشأ على عجل ، ودون تورٍّ وما دامت الجماهير بليدة الأذهان ، عارية عن الذوق ، فليس أمام الكاتب المسرحي المسئول إلا أن ينأى بنفسه عنها ، ولأن يوجد مسرح محدود على مستوى ثقافي عال ، خير من أن يوجد مسرح كبير على مستوى ثقافي وضيع ” ، إنني لست أشك في أأني سمعت هذه العبارات بنصها تقريبا من عدد من كتاب المسرح عندنا ، في مصر كما في لكويت ، بل أكاد أرجح أنني رددتها أيضا في محاضراتي أو كتبي ، منذ فترة ليست طويلة جداً ، بل أجد إكمالاً لهذا الاقتباس الذي أوردناه يكشف عن الأوهام المضللة ، أو بعض الأوهام التي يعيش فيها بعض كتاب المسرح ، وقد تنقضي أعمارهم وهم رازحون تحت ثقل هذه الأوهام ، يكتبون مسرحيات لا يشاهدها أحد ، ومع هذا لا يوجهون نقداً واحداً إلى أنفسهم ، ويرون كل العيوب في الجمهور المنصرف عنهم . يقول كير : ط إن كتابنا المسرحيين كانوا تحت إيعاز صارم بألا يتساهلوا أبدا في موقفهم من العقلية الجماهيرية ، فإن هذه العقلية الجماهيرية ستأتي إلينا على أية حال ، ولعلها تسعى إلى تثقيف نفسها حتى ترتفع إلى مستوى وليام موريس ، ولعلها تدرك فضائلنا التي لا تخفى ، ولعلها يمكن إرهابها فتناصر ما لم يكن ينتظر منها أن تستمتع به ” !!
هذه عبارات قيلت تصف أزمة المسرح الأمريكي ، غير أنها تصف أزمتنا أيضاً ، في صميم ما تشكو منه مسارحنا ( الجادة ) وهو انصراف الجمهور عنها . لقد حدث التحريف هناك تحت وهم الإعجاب وارتفاع صوت الانتماء السياسي ، وفي رأي المؤلف أن النهج المسرحي ينبغي ألا يستمر أكثر من خمسين عاماً ، هي عمر الكاتب عادة ، فإذا استمر أكثر من ذلك ، فإنه سيصاب بتصلب الشرايين ، ويتوجه إلى جمهور غير موجود أصلا ، وقد نرى أن التحريف حدث عندنا لذات السببين : الإعجاب والانتماء السياسي ، بالإضافة إلى استعلاء الطبقة المثقفة على الكثرة الأمية ، والرغبة الكامن في أخذ موقع المعلم والرائد الذي يسبق زمانه ، ولم تفهمه العامة ، وأخف هذه الأسباب إدانة : إدعاء التفاصح والجدية .
إن التمحك في الثقافة والجدية لن يستطيع أن يخفي الازدراء لعقلية أفراد الشعب ، الذي ينبغي أن نكتب مسرحياتنا بوحي منه ، وله ، وإن مسرحية تخاطب الصفوة المثقفة قد تحقق لهذه الطبقة نوعاً من الحيوية ، ومع هذا ستبقى الغالبية بمنأى عن هذا الإحساس .
إن وولتر كير وهو يندد بالثقافة المتعالية على الشعب ، وبالكاتب المسرحي المعلم صاحب الخبرة التي لا تاجري ، أو الواعظ صاحب الرسالة ، أو السياسي محتضن القضية ، لم يتورط في معاداة الثقافة أو التنديد بها ، وإنما هاجم النوع والطريقة ، وذلك حين أصر ( غصراراً نبيلا في الحقيقة ) على أن الشعب ، أو الجمهور ينبغي أن يظل الهدف الذي نستلهمه ونتوجه إليه أيضا ، ويرى أن هذا الجمهور باستطاعته أن يعطي الكاتب المسرحي ما يعجز أي مصدر آخر عن إعطائه له . ولما كان الكاتب المسرحي الشعبي هو الهدف ، فإن الاتجاه إلى الشعب يصبح كلمة السر في الكتاب كله ، ويكون الخروج من الأزمة ماثلا في مخاطبة الشعب ، في الكتابة له ، في الحكم على نجاح المسرحية أو إخفاقها بمدى إقبال العام على مشاهدتها بشغف ، نعم ، لا يهتم مؤلفنا بوليام موريس وصديقه شو ، إنه يريد مسرحاً مزدحما ببائعات المحال التجارية ، بل والسمكرية ومن على شاكلتهم ، وينعى – بكثير من الألم – اليوم الذي أنذر فيه هؤلاء على يد المسرح المثقف بالابتعاد عن الحفلات ، ويعلن بإصرار أن الحل في استعادتهم ، ويهزأ من جميع العبارات التي ترمي إلى الاستهانة بهم ، كوصفهم بأنهم الفئة غير المسئولة ، أو الهاربة ، أو المراهقة . إن المسرح لا يعكس تيارات الفكر ، بل تيارات المجتمع ، وما أنتجت مسارح القلة أبداً أعمالاً ذات أهمية ، وأية مسرحية عظيمة حظيت أعيننا بمشاهدتها – كما يقول – إنما جاءت عن طريق المسرح الشعبي . ليس المسرح مأدبة ثقافية ، ولكنه ليس ضد الثقافة ، لم يتورط وولتر كير في إدعاء ذلك ، ولكنه دعا إلى ثقافة مصدرها الشعب ، ويرى أن هذه الثقافة الشعبية يمكن أن تمنح الكاتب المسرحي التشويق والصدق والجمال أيضا ، كأهداف ثابتة لفن المسرح . إنه ينكر بقوة أن يكون أولئك الكتاب الذين أسقطوا جمهور الشعب من الحساب ، ولم يكترثوا بذوقه ، قد قدموا أعمالا مسرحية ذات قيمة جمالية عالية ، في حين لا ينكر هذا على الذين توجهوا بإبداعهم إلى الشعب .
موليير وشابلن
هنا يقدم مؤلفنا مثلين واضحين قريبين إلى الإدراك ، ويمكن التحقق منهما أيضا ، المثل الأول هو موليير ، الذي يمجده بحذر قائلا إنه تعلم لعبة شكسبير بعد مشقة ، ويصفه بأنه كان كاتباً عظيماً على الرغم من حيله الساخرة الوضيعة ، يقول عنه إن المسرحيات التي كتبها خصيصاً لتقدم في عرض خاص في البلاط الملكي ، كان أقل إجادة منه في المسرحيات التي كتبها للعامة !! أما المثل الثاني فهو شارلي شابلن ، فهو ليس من نتاج المسرح الشرعي المسئول ، بل من نتاج الفيلم السينمائي التجاري الذي لا يتحمل أية مسئولية بالمرة ، ولا يرجع الفضل في نشأة شابلن إلى النظرية الموضوعة بعد رؤية وتدقيق ، بل إلى الارتجال والتصرف التلقائي ، فهو ليس من خلق النقد المتسامي ، بل من خلق الجماهير التي لا عقل لها ( على حد تعبير كير ) ، ومثلما وازن بين حالين لموليير ، كذلك فعل مع شابلن ، وفي رأيه أن أداءه التلقائي المبكر أكثر إجمالاً وإقناعاً من أدائه بعد أن اتصل بجماعات من أصحاب الفكر ، وأصبح يعنيه أن يتبنى مواقف معينة .
كل هذا كان بمثابة علامات هادية في اتجاه مقولة أساسية ، وهي أن الشعب هو المصدر الني والنبع الذي لا ينصب لإلهام الفنان الحقيقي أسباب الحياة والتجديد معاً ، بل منحه الثقافة الضرورية لصناعته : ” المسرح العظيم يبرز إلى الوجود بمراعاته أولاً أشد العواطف بدائية ، لأكثر رواده بدائية ، ونحن إذ نرضى نزعة الجمهور إلى العنف والمناظر البراقة والمواقف الكوميدية المتناهية في الصراحة ، إنما نتوغل في أعمق أعماق الضمير البشري كله ” ، وبحسه الساخر الدقيق يقدم وولتر كير الدليل على صدق هذا المبدأ ، إذ يجد كثيراً من المثقفين يختلسون النظر إلى عمل شعبي ناجح ، في حين يندر أن نرى غير المثقف يبدي أي اهتمام بغزو محراب الرجل المثقف . إن هذا يعني – في رأيه – أن ما يرضي غير المثقفين أكثر اتصالاً بالحقيقة الإنسانية ، وتعبيراً عنها ، من تلك المزاعم الثقافية العريضة . يقول : ” ليس احترام الجمهور تواطؤاً متعمداً مع أحط غرائز وحش جبار ، وإنما هو تسليم في محله بذكاء قوي عادل ” وإذاً ، فإن هذا الجمهور ليس على خطأ حين يحكم على العرض المسرحي مستمداً تجربته المحدودة وغرائزه الصريحة ، فما هو صدق ليس مصدره عقل المؤلف وحده ، ولا حتى عقل المتفرجين وحدهم ، بل في مكان خارج هذين الطرفين : في السلوك البشري ، وهذا السلوك البشري ليس ملكاً للمثقفين ، ولكنه ملك لكل فرد ، وليس صحيحاً أن الجمهور ساذج أو سطحي الإدراك يسعى وراء السهولة والضحك ، ويرفض العواطف الجادة ، إنه ” لا يرفض حقيقة غير سارة لأنها غير سارة ، بل لأنها غير صادقة ” وقد تقبل قديما فواجع المأساة الكلاسيكية عند سوفوكليس ، وتقبل أيضا مآسي شكسبير المركبة ، فالجمهور ينفر من البساطة غير الطبيعية التي تمر أمامه ، ويصم الكاتب بالادعاء والتفاهة وعدم الذكاء ، وخلاص القول أن الجمهور هو صاحب المصلحة في المسرحية ، هو المتلقي ، فهو الحكم ، وإما أن تكون له دوافع تبقيه على مقاعده وتشده للمتابعة ، أو أسباب للانصراف ، وإذا انصرف فليس لذلك من سبب غير السآمة أو رفض الأفكار ، ولسنا نشك في أن السآمة والملل أقوى عوامل الطرد ، لأن الأفكار المرفوضة ، إذا قدمت بطريقة مقنعة ( ولا نقصد الإقناع المنطقي ، فإنها يمكن أن تغري بالمتاعبة ، ولقد أصاب وولتر كير حين قرر أن عدم الصدق رذيلة بكل تأكيد ، وإلا أن النقيض ، وهو الصدق ، لا يعتبر ضماناً للنجاح المسرحي .
الجمهور والمسرح
لقد أطال مؤلفنا في توجيه نقده للمسرح الفكري المتناسل عن مسرحيات إبسن وتشيكوف وشو ، يحمل هؤلاء الثلاثة تبعة ما جرى أحياناً ، ويحمل الأجيال التالية مسئولية التعلق بفن مضت دواعيه وسقطت أسباب رواجه في اكثر الأحيان ، وهو يفعل هذا من موقع الجمهور ، وهو مطمئن تماماً إلى هذا الجمهور وصدق أحكامه . حتى يقول بثقة : ” إن استجابة الجمهور في المسرح أقرب ما تكون إلى الاشتعال التلقائي ، وهي استجابة تبدو كذلك دقيقة إلى حد لا يصدق ، وما دمنا لا نعرف حالة واحدة رفض فيها الجمهور مسرحية من الدرجة الأولى فقد آن الأوان لكي نعدل عن هذه الأسطورة . إن التاريخ ليحدثنا أن في وسع الجمهور أن يسمو إلى أي أفق يستطيع المؤلف المسرحي أن يحلق .. ولكي يتمكن المؤلف من أخذ الجمهور إلى مكان ما ، لابد له أولاً من أن يعانقه ” . هكذا يأخذ ” الجمهور ” حجمه الحقيقي في تفسير الظاهرة المسرحية عند وولتر كير ، ويصبح الارتكاز على الموروث الشعبي ، ومراعاة ما يرضي العامة هو المدخل إلى نجاح العرض ، بعد أن يكون الوعي بطبيعة المجتمع ، وروح المرحلة ، قد حققا النجاح في الدخول إلى الموضوع ، ثم تأتي المعالجة الفنية بعد ذلك . وهذه المعالجة قد امتدت على مساحة الكتاب كله ، متداخلة مع شتى ما أثار من موضوعات وقضايا ، تتعلق بالمحاكاة كأساس للصياغة والاختيار ، والواقعية كأسلوب ، ولكن عواطف هذا الناقد ظلت مع الجمهور ، وكذلك ثقته المطلقة ، وهو يقدم الحلول المحتملة التي يعلق عليها آمال الإصلاح بطريقة تحمل قارئه على الأخذ برأيه في هذه الثقة الكاملة بالجمهور ، فإذ يطرح سؤالا افتراضياً : من أين يبدأ الإصلاح ؟ فإنه يقدم أسلوبين متعارضين ولا يوحي بإمكان احتمال ثالث ، فإما أن يبدأ الإصلاح بتشريع من أعلى ، رائده تحيز الطبقة المثقفة ، وإما بتشييد من أسفل رائده غريزة الجماهير ، ثم يقرر مطمئناً : إن الحل الثاني هو الذي دلت قراءة التاريخ عليه !!
هكذا تتكاثف البراهين على أن النزعة الشعبية في الفن هي التي تضمن له الإقبال ، والبقاء ، والارتقاء ، وبهذا السلاح – الشعبية – وليس بغيره ، تفوقت السينما على المسرح، ومؤلفنا يبرئ السينما ن وهذا يعني أنه كان قد فقد جمهوره قبل مشاهدتها !! ما أشبه الليلة بالبارحة . إن التهمة ذاتها توجه الآن إلى التلفزيون ، والفيديو ، فهل نستطيع أن نواجه أنفسنا بصراحة ، ونختبر درجة الصدق في مثل هذه الادعاءات ؟ إن عدد ليالي العرض لمسرحيات مارون النقاش ( وقد ألحقها محمد يوسف نجم بمجلد مسرحياته ) ومسرحيات أبي خليل القباني ، ومن بعدهما فرقة عكاشة ، والريحاني ، والكسار ، مع الاحتفاظ بمعدل التزايد السكاني في الاعتبار ، ينبغي أن تقاس إلى ، أو تقاس إليها عدد ليالي العرض لمسرحيات الحكيم ، وميخائيل رومان ، والفريد فرج ، وسعد وهبة ، ونعمان عاشور ، وغيرهم ، لنرى إلى أي مدى كان الرقم يتصاعد ، أو يهبط ، قبل ظهور التلفزيون في مصر .
ويؤكد وولتر كير مفهومه للشعبية ، واحترامه للثقافة معاً ، حين يقدم إلينا فن شكسبير من رؤية خاصة ، باعتباره يقدم مسرحيات شعبية ، ومناط هذا الحكم الجرئ أنه كان يكتب للطبقات الدنيا ، وانه لم يكن يحاول تحديد فكرته المسرحية ، ولم يجعل من مسرحياته برهاناً لإثبات شيء ، أو لرفضه . لقد بذل لاجوس آجري ( وهو أمريكي أيضا مثل صاحبنا ) في كتابه ” فن المسرحية ” جهداً عظيماً ليقنع الكاتب الناشئ بأن نقطة البدء في صياغة أي مسرحية أن يحدد فكرتها ، وأن تصاغ هذه الفكرة في شكل مقدمة منطقية ، والطريف أنه اعتمد – أكثر ما اعتمد – على مسرحيات شكسبير ( وإبسن وهو محق في هذه الحالة ) لاستخلاص مقدمات منطقية ، في رأيه أنها سر تماسك المسرحية ، وتدفق حوادثها في خط أساسي واحد ، مما يعين الناقد أو المشاهد على تجريد مقولة نهائية تعتبر ” بيت القصيد ” في المسرحية . إن وولتر كير ضد ذلك تماماً ، ويرى أن إكراه المسرحية على أن تقول شيئا سيؤدي إلى أن تظل مسرحية مكرهة حتى النهاية . من هنا يلقي بالأهمية على القصة في المسرحية ، مشيداً باهتمام أرسطو بعنصر الحكاية ومعارضاً له في طريقة تقسيمها ، ومن هنا أيضا تتسم كلماته عن شكسبير بالحرارة والإعجاب ، حتى إلى درجة التغافل العمدي عن الثغرات أو الهفوات : ” كان شكسبير يصمد للمناقشة ، ويواجهها بحوادث الاغتيال والمبارزات والمعارك ومباريات المصارعة ، والانتحار والأشباح والساحرات والمهرجين والأغاني واستعراضات الأزياء والانفجارات والعواصف الراعدة . لقد نمت مسرحيات شكسبير من مسرح كان قائماً على فكرة أنه لا يجب الترحيب بالأميين فحسب ، بل يجب كذلك تملقهم دون انقطاع ، خلال الحفلة ، مهما يكن ذلك على حساب الذوق ” .
هذه – على أية حال – مبالغة مقبولة في سياقها ، ولكنها لا تلصق مجافاة الذوق بالمسرح الشكسبيري . إلا أن يكون الذوق الكلاسيكي ، فإن شكسبير الذي يصعب تأطيره في نطاق مدرسة أو مذهب أدبي لم يكن كلاسيكياً يرعى أصول الذوق على قواعده عندهم.
ومع الأخذ بكل هذه الحيل التشويقية التي أتاحت للناقد أن يصف شكسبير بأنه كاتب شعبي ، فإننا نجده يحقق الحياد الموضوعي في تصوير أخلاق الشخصيات ، وهو حياد يغني هذه الشخصيات ، ويقوى عنصر القصة ، وهو عنصر شعبي أيضا . في مسرحية ” يوليوس قيصر ” سنجد الموضوع السياسي هو المسيطر ، غذ تدور المسرحية حول فريق من الرجال منهمكين في صراع على القوة والنفوذ ، لكل منهم أسبابه وطريقته ، ولكن ليس للمسرحية رسالة ، إنه لا ينحاز ولا يطالبنا بالانحياز لأي طرف ، ولا يوصف قيصر بأنه شرير في طموحه ، بل يقول إن هذا ما كان يظنه كاسيوس وكاسكا ” ونحن لا نستحث على اتخاذ موقف أخلاقي إزاء اغتيال قيصر ، بل نشهد هذا الاغتيال كصورة مفزعة للسلوك البشري الحقيقي ” كما أن المسرحية لا تدعونا للأخذ بشيء أو رفض شيء ، هي لا تقول شيئاً من الناحية المذهبية ، وإنما هي تعرض علينا أنواعا معينة من الرجال مزودين بأنواع معينة من العقليات ، منهمكين في أنواع معينة من النشاط . إن الاهتمام بالشخصية ، وبالفعل ، أو القصة هو الذي منح مسرح شكسبير قدرته على الاستمرار ، ولكي يتضح هذا لجانب نضعه إزاء ما يصنع إبسن ، المسئول عن القلب الاجتماعي والمسرحية ذات الهدف، إنه يقدم لنا ذلك ” في سياق رواية مزيفة ، سياق يبدو أنه يقص علينا قصة بينما هو في الواقع ينهرنا ويزجرنا ، فهذا ملجأ للأيتام ( يقصد ما جرى في مسرحية الأشباح ) ، يحترق عن أخره ، وبذلك تبلغ المسرحية ذروتها في الفصل الثاني ، ولكن يطلب منا أن نفهم أن ذلك الذي يحترق لم يكن ملجأ للأيتام وإنما طريقة فاسدة للعيش ” .
لم يقصد وولتر كير من تملق الجمهور إضحاكه ، أو مخادعته عن الصواب ، ودراسته لشكسبير لم تهمل الفواجع والجثث وحوادث القتل ، إنها القصة التي لا ينقصها التبرير ، ولهذا تقبلها الجمهور ، كما تقبل فواجع أوديب من قبل . وقد يفاجئنا وولتر كير بقوله إن شكسبير لم يكتب أبدا مسرحية أنيقة في حياته ، وهو بهذا يرغب في استبعاد صفة التصنع بشكل قاطع ، لتقوية الشعبية بشكل قاطع أيضاً ، ولكن الدراسات الأسلوبية والصورية التي أجريت على بعض مسرحياته تشير إلى استخدامات خاصة ، في شبكة الصور واستقاقاتها في ” الملك لير ” مثلاً من صفات الحيوان وأسمائه ، مما يعنى أن شكسبير قد فكر فيها طويلاً ، ومما يعني أيضاً أنه مزج بنجاح بين الشعبية والبلاغة ، بين القصة والشخصية ، وأنه بهذا استطاع أن يحقق أمنية وولتر كير : أن يقدم مسرحية تجذب عاملة المتجر البسيطة ، ويستطيع أن يشاهدها وليام موريس دون أن يخجل منها صديقة برنارد شو .
يذكرنا بحالنا
لقد شكا المؤلف من المسرحيات الأمريكية السائدة ، شكوى تذكرنا بحالنا ، إذ يصفها بقوله : إنها لفتات خالية من الحس لرؤيا أو لصورة لم تعد مزرية بقدر ما هي مبتذلة بالية !! وإذ يقدم المؤلف الأمريكي نماذج لهذه اللفتات ، فإنني أتذكر بعض ما يصدق عليها عندنا : الفتاة الفقيرة التي تبيع شبابها لتحقق الثراء فلا تظفر بشيء ، زوجة الأب ، استغلال الرئيس لمرؤوسيه وانكشاف أمره ، الجاهل المتعالم ، كبير العائلة الذي يحتجن لنفسه كل شيء ويظلم أيتاماً ينصفهم القدر ، ولعل هذه الموضوعات كانت مقبولة منذ نصف قرن مثلاً ، ولكنها الآن مجرد تقليد ” استهلاكي ” لا يثير غير السأم .
إن وولتر كير قد رسم أمانا حركة المجتمعات ، أو الجمهور ، في علاقته بالذوق المسرحي ، على أن يتكون من موجات ، لا يزيد عمر الموجة عن نصف قرن بأي حال ، وليس التغيير المطلوب مزاجياً أو اعتباطياً ، إنه ثمرة لتور المجتمع القادم الذي يكتب له المؤلف المسرحي . إن هذا يعني ، ويلزمنا بضرورة أساسية أن نرفض تقليد كتابنا السابقين تماماً ، لسبب بديهي ، هو أنهم لم يكتبوا لنا ، ولم يكن باستطاعتهم أن يفعلوا ، وإذا كان المؤلف المسرحي العربي لم يطور في القالب أو الأسلوب إلاّ في حدود ضيقة جداً ، فإن هذا يستدعي منه أن يبدأ خطة إصلاح عاجلة تبدأ بالعودة إلى الفنون الشعبية واستمداد عناصرها الدرامية لاجتذاب جمهور المسرح من جديد ، وتدعم هذه الخطة بقراءة عميقة لحركة العصر الذي نعيش ، والعصر الذي نتأهب لدخوله ، واكتشاف ، أو محاولة اكتشاف موقعنا فيه .