إبسن .. وبطته البرية
إبسن النرويجي .. وبطته البرية
د . محمد حسن عبدالله
هذه المسرحية أبدعها هنريك إبسن عام 1884 ، وهى تقع – زمنيا – في الثلث الأخير من سنوات نشاطه المسرحي ، إذ بدأ مع استهلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ( 1851م ) وكذلك تقع في الطور الثالث من تجاربه الأسلوبية في المسرح ، التي بدأت بالغنائية الشعرية ، ثم تطورت إلى الواقعية الاجتماعية ، التي تطورت إلى واقعية ممزوجة بالرمز ، وفي هذا الطور الأخير كانت ” البطة البرية ” التي استحقت الكثير من ثناء النقاد ، واستخرجت – استنادا إليها – أهم الأسس التي تميز بها مسرح إبسن كما سنرى .
في نقد هذه المسرحية تتفتح أمامنا ثلاث طرق ، يسهل الاستعانة بأهم منجزاتها، ولكن يصعب الجمع بينها . الطريق الأول أن نستعيد قواعد وأصول المسرح الأرسطي ، وما أدخل عليه المسرح الرومانسي من اجتهادات ، فنعدها المعيار الذي نحتكم إليه في تقييم مسرحية إبسن . وهذا المسلك لا يخلو من تعسف ، لأن إبسن استوعب فنـون المسرح منذ الإغريق ، وحتى الوقت القريب من زمنه ( سكريب – على سبيل المثال ، ومسرحيته المتقنة ) لم يقل أبدا إنه ينتمي بفنه إلى أرسطو ، ولا حتى شكسبير ( المتوفى 1616م ) ، مع هذا سنجد الأسس الجوهرية في قواعد المسرح الأرسطي متحققة في هذه ” البطة البرية ” ، فلدينا وحدة الزمان ، ووحدة المكان ، إذ لم تستمر أحداث المسرحية أكثر من يومين تقريبا ، ولم يتحرك المكان متجاوزا منزل إكدال حيث أقيم حفل العشاء ، ثم انتقل الأشخاص أنفسهم ، أو أهمهم بالنسبة للموضوع المسرحي ، إلى منزل جريجرز ، وفي هذا المنزل الصغير ، بين استديو التصوير ، وقاعة الطعام ، وغرفة الاستقبال جرت سائر أحداث المسرحية ، بالإضافة إلى المتسع الذي يطلقون عليه ” الغابة ” ، ولم يظهر في المسرحية ، وإن تطرق إليه الحديث أحيانا ، وبخاصة حين تذكر تلك البطة – الرمز – من شخصيات المسرحية . هاتان وحدتان من ثلاث وحدات حرص أرسطو على تحققها في المسرحية وأسند إليهما تماسك البناء ، وهنا سنرى أن ” وحدة الحدث ” – وهي الوحدة الثالثة في قانون الوحدات الثلاث الأرسطي – غير متحققة ، ليس لأن المسرحية مشتته ، أو ليس فيها حكاية، بالعكس : مسرحية البطة البرية متماسكة تماما ، وحكايتها سهلة التلخيص والفهم ميسورة الاستعادة ، ولكنها كتبت بحرفية لم تهتم بأن يكون في المسرحية ” حدث ” أو ” حادثة ” ، إن ما في هذه المسرحية عدد محدود من الشخصيات ، بينها رابطة قديمة – قبل بدء المسرحية – جمعت بينها ظروف راهنة ، فأخذت – بفعل عوامل قديمة ومستجدة – تستعيد أحداثا صغيرة من الماضي البعيد والقريب ، وتكتشف – من خلالها – أمورا كان مسكوتا عنها ، فأدى هذا الكشف إلى كارثة : انتحار الفتاة الصبية هدفج التي لم تتحمل جفوة من كانت تعتقد بأنه والدها الحنون .
قد لا يكون مناسبا لنقد هذه المسرحية أن نستدعى قواعد أرسطو لنرى إلى أي مدى تتفق معها أو تخالفها ، وقد يجوز أن نشير إلى الشرط الأرسطي الذي يفصل بحسم بين التراجيديا ، والكوميديا ، والشرط الآخر الذي يحتم أن يكون الشعر الراقي المزين بالصور المجازية والاستعارات هو لغة الكتابة التراجيدية بصفة خاصة . لقد حدث تمرد مرحلي على هذه القواعد الأرسطية منذ زمن شكسبير ( أي في صميم العصر الكلاسيكي نفسه ) ، ولكن مسرح شكسبير .. شكسبيري وحسب !! ، ينتمي إلى صاحبه ، ولا يدخله في مذهب أو مدرسة . فلما ملّ المبدعون صرامة الكلاسيكية واستجدت عوامل أخرى متعددة استحكم التمرد ، فكانت الحركة الرومانسية التي غيرت مفهوم البطل التراجيدي – كما حدده أرسطو – فاختارت ” أبطالا ” من أوساط الناس ، قد لا يختلفون عن بطل البطة البرية : جريجرز ، الذي يمارس فن التصوير ، ويعيش في وَهْم أنه سيخترع مادة لتثبيت الصور . وكذلك عرف النثر طريقه إلى المسرح .
أما الطريق الثاني – المحتمل – لنقد البطة البرية – فهو أن نعتبر خصائص مسرح إبسن هي المعيار الذي نحتكم إليه في التماس ما تتميز به هذه المسرحية . من المسلم به أن المبدعين الكبار الذين يحق لهم أن تنسب إليهم أساليب أو مدارس ( كما نقول مسرح شكسبير – مسرح موليير – مسرح إبسن – مسرح الحكيم ) إنما نستخرج خصوصيات أساليبهم من مجموع كتاباتهم وليس من مسرحية بعينها . وهذا يعني – من وجهة أخرى – أن مسرحية بعينها للمؤلف نفسه يمكن أن تعكس بعض خصوصيات صاحبها الأسلوبية دون أن ننتظر حالة كاملة من التطابق التام ، فهذا ما لا يمكن توقعه ، وإذا حدث فإن هذه المسرحية ستبدو عملا وحيدا ، والعمل الوحيد لا يؤسس قاعدة . وفي هذا النطاق يمكن أن نلاحظ :
أولا : الحدث المسرحي ، وليست خصوصية مسرح إبسن في وجود حدث أو حادثة أو عدم وجود أحدهما ، ولكن الخصوصية في طريقة اكتشافه وتعقب آثاره وانعكاساته . فإذ تبدأ مسرحية ” البطة البرية ” بحفل عشاء في منزل الثري إكدال ، صاحب مصانع الخشب ، ويحضره ولده الشارد جالمار الذي استدعي من موقع عمله البعيد – ويحضره أيضا – بدعوة خاصة من جالمار – صديقه المناظر له في العمر : جريجرز ، لا نكاد نتبين وجهة لشيء سيحدث ، وحتى عندما ينفرد جالمار بوالده العجوز ونكتشف مدى ما يضمر هذا الشاب لوالده من سوء الظن وقسوة المعاملة لوالدته قبل وفاتها ، والسلوك الأخلاقي المنحرف لهذا الولد ، لا نكاد نتبين وجه احتمالات تطور الحكاية في المسرحية ، ولكن : عندما ينفرد الصديقان القديمان منذ زمن الطفولة : جالمار ، وجريجرز ، سيكشف لنا جالمار – من خلال أسئلته التي تتعقب أطوار حياة جريجرز الخاصة : كيف اختار مهنة التصوير ؟ ، كيف تزوج جنا ؟ متي ولدت ابنته هدفج ؟ ما المهمة التي يسندها إكدال إلى شريكه القديم في المصنع الملازم ويرل ( والد جريجرز ) ؟ إن هذه الأسئلة التي طرحت في لقاء سريع يمكن أن يوصف بأنه عابر ، أو مصادفة ، واستكملت بتدبير في لقاء آخر في اليوم التالي ، فكشفت للقارئ أو المشاهد ، قبل أن تكشف للمعنيّ بها( جريجرز )عن طبيعة العجوز إكدال الفاسدة ، وتآمره المجرم على الملازم ويرل شريكه القديم واستضعافه اللا أخلاقي لجريجرز، والتدليس عليه في توجيه حياته ، كما في انتساب ابنته !!
هذه إذن هي الطريقة ” الإبسنية ” في الكشف عن ” موضوع المسرحية ” : لقد جرى كل شيء قبل بدء الفصل الأول ، الذي سيكون شاغله ، وشاغل الفصول التالية : ما هذه الأمور ” المخبأة ” التي جرت ، وما انعكاسها الآن على هذه الشخصيات ؟
ثانيا : المشكلة والحل . وفي حدود المسرح التقليدي ، يقال عادة إن المسرحية تتشكل في ثلاثة فصول ، الفصل الأول يعرّف بالشخصيات ، ومدى أهميتها ومشاركتها في صنع الموضوع ، والفصل الثاني يسيطر الموضوع بأن يطرح من كافة جوانبه ، وتتحدد وجهات النظر المختلفة إليه ، من خلال إدارة ” الصراع ” الذي هو – بطبيعة تكوين المسرحية – الأسلوب الأساسي في تطوير الموضوع وترتيب المشاهد والمواقف التي تعرضه ، أو تعرض له . أما الفصل الثالث – الأخير – فإنه يبلغ بالصراع بين الشخصيات ذروته ، حتى يستغلق تماما ، أو يكاد ، لينبثق الحلّ ، وهذا الحلّ مع ما يجب أن يتوافر له من عنصر المفاجأة ، والقدرة على إعادة الأمور إلى نصابها ، لا يصح أن يكون حلا مفروضا ، أو مصطنعا ، بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ” مستوردا ” من خارج موضوع المسرحية ، فمن الضروري أن يكون ” كامنا ” خفيا ، صعب الإدراك ، ولكنه – حين يفرض نفسه خلاصة وختاما لأحداث المسرحية – ينبغي أن يبدو منطقيا ، مقبولا ، لأنه نابع من الأحداث ، متواشج معها بخيوط متينة حتى وإن تكن خفية .
هذا هو ” الشكل ” التقليدي لتوزيع مادة المسرحية على فصولها ، وهو توزيع يعتمد على بداية توصف بأنها منطقية ، بمعنى أن العقل يقبلها بدءا فلا يتساءل : ماذا كان قبلها ؟ وتنتهي بالحل ، المنطقي المقبول كخاتمة ، لا نتساءل بعدها : ثم:ماذا حدث بعد ذلك ؟ وهنا يختلف مسرح إبسن كثيرا ، وتختلف مسرحية البطة البرية تماما ، فالمسرحية تبدأ بحفل عائلي ، تلتمع في سياقه إشارات صغيرة قد لا يعطيها المشاهد أو القارئ أهمية تذكر ، كأن نعرف أن عدد الحاضرين حول المائدة كان (13) شخصا ، وهو رقم يثير القلق ( التشاؤم ) ، كما أن إلحاح العجوز المحطم ويرل في طلب المرور إلى غرفة النسخ ليمارس عمله ( الوهمي ) يطرح أسئلة تتعلق بهذا الشيخ : ما حقيقة علاقته بهذا المكان وسيده الثري الذي يستضيف رجال البلاط !! وحين ينكشف لنا نحن المتلقين حقيقة هذا السيد الثري ( إكدال ) وهي حقيقة أخلاقية ، أو : لا أخلاقية ، فإن البناء المسرحي ، حين يعاد ترتيبه في ذهن المشاهد أو القارئ سيدل على وجود مشكلة ، ولكنه لن يجد لها حلا ، لا في المسرحية، ولا خارج النص المسرحي !! إنها مشكلة سلوكية ، كانت دائما موجودة ، وستظل توجد ، ما دامت مدراك الناس متفاوتة ، وما دام بعض ” الأقوياء ” يجدون لأنفسهم ” الحق ” في استغلال كل من يمكن إخضاعه أو استغلاله لمداراة نقاط انحرافهم !! الخلاصة : أن في مسرحية إبسن – التي معنا – توجد مشكلة يمكن اكتشافها عبر وقائع المسرحية ( ليست متجسدة في موقف أو في عبارة أو حتى في شخصية محددة ) ، ولكن ليس فيها حل . إنها – من منظور الواقعية – لا تعترف بوجود حل جاهز أو متفق عليه ، إنها – مثل الكثير من إبداعات الواقعيين ، تكتفي بإثارة ” المسألة ” ، وتترك ( لنا ) البحث عن حل لها .
ثالثا : إعمال مبدأ الوراثة . وهذا المبدأ ثمرة نشاط علم النفس ، وجهود “فرويد ” الذي نشط حول هذه الفترة ذاتها ( ولد سيجموند فرويد سنة 1856 وتوفي سنة 1939 ) وكانت” الوراثة إحدى المبادئ العلمية المؤثرة في تحليله للشخصيات ، كما كانت عماد ما أضافه ” الطبيعيون ” ورائدهم إميل زولا ( ولد زولا سنة 1840 وتوفى سنة 1902 ) إلى مبادئ ” الواقعية ” ، فقد رأى دعاة الواقعية ( Realism ) أن الإنسان ( الشخص )خامة أو عجينة، تشكلها البيئة التي ينشأ فيها ، فرأى زولا ، ومن بعده دعاة الطبيعة (Naturalism ) إضافة عنصر ” الوراثة ” ، وبهذا تتشكل الشخصية بفعل مؤثرين : البيئة + الوراثة .
لقد استخدم إبسن عنصر ” الوراثة ” بكثير من المرونة والحذر ، بحيث يمكن أن يقال إنه لم يكن يتبع أولئك السيكولوجيين الذين أشاروا إلى هذا المؤثر سواء على مستواه النفسي أو الحسيّ ، وبخاصة أن من أشرنا إليهم ( زولا وفرويد ) تأخر ظهور نشاطهم العلمي عن سطوع نجم إبسن ، بحيث لا يستبعد أنه الذي ألهمهم بعض مقولاتهم ، وليس العكس .
لقد استخدم مبدأ ” الوراثة ” بدرجة من الوضوح الذي لا يكاد يترك مجالا للاختيار ، فأشير – أكثر من مرة – إلى ضعف قوة الإبصار في الفتاة الصبية هدفج ، بدرجة تتهددها بالعمى ، وبدرجة أنها توقفت – وهي في ريعان صباها – عن الذهاب إلى المدرسة ، ومنعها من القراءة . وقد استخدم إبسن هذه الإشارة المتكررة عدة مرات لتأكيد أن الفتاة هدفج ليست ابنة شرعية للرجل الشاب الذي تعيش في كنفه وولدت ونشأت في بيته ( جريجرز ) وإنما هي إبنة غير شرعية للعجوز المتآمر الثري ( وِيرل ) من خادمته ( جنا ) التي ستعترف – لاحقا – أن صلة غير شرعية نشأت بينهما ، ولكن ليس حين كانت تعمل في بيته ، فقد حاول لكنها صدته وتأبت عليه ، غير أنها – بعد أن غادرت العمل عنده – تعرضت لمطاردة وإلحاح منه ، فاستطاع بواسطة أمها ( الفاسدة ) أن ينال بغيته ، وفي أعقاب هذا ، سعى إلى أن يزوجها لجريجرز الذي استطاب زوجة مجانية ، ومهنة جاهزة اقترحت عليه وتجيدها هذه الزوجة ( اللقطة ) وهكذا اجتمع شمل جنا وجريجرز ، وولدت هدفج ، تحمل اسم زوج أمها !! ولا تعرف لنفسها أبا غير هذا الأب الحنون ، شديد الرفق بها والشفقة عليها ، وعلى والدتها ، قبل أن يقتحم جالمار ( ابن إكدال ) رضاءه بحياته ، فمزقها بددا دون رحمة ، بدعوى أنه لاشيء أهم من الحقيقة !!
يتجلى حذر إبسن في استخدام عنصر الوراثة – في هذه المسرحية – في أمرين :
أنه ألحّ على عنصر الوراثة العضوية ( الجسدية ) وذلك في تكرار الإشارة إلى حالة الضعف في قوة الإبصار ، واحتمال فقد البصر كلية لدى الفتاة ( هدفج )،ولدى ( ويرل ) العجوز ، تبدأ الإشارة إلى هذا وكأنها غير مقصودة ، أثناء عرض ويرل على ولده جالمار أن يعود إلى العمل معه في مصنعه ، بإغراء أن يكون شريكا بالمناصفة في المصنع ، مع معرفته بكراهية ابنه للعمل معه :
ويرل : أقترح أن تكون شريكا في المصنع .
جالمار : أنا في مصنعك كشريك ؟
ويرل : نعم . ليس من الضروري أن نكون سويا ، يمكنك أن تلاحظ العمل هنا في المدينة ، وأنا في المصنع هناك .
جالمار : أراغب أنت في ذلك ؟
ويرل : نعم . أنت تعلم بأني لا أقوى الآن على العمل الكثير كما كنت أفعل في الماضي : علىّ أن أحافظ على عيني يا جالمار ، إذ بدأ بصري يضعف .
جالمار : لقد كان دائما كذلك .
إن هذا المقطع الحواري يمدنا بمعلومة مهمة ، هي ضعف بصر الأب ، وتعقيب الابن يدل على إن هذا الضعف ليس وافدا بفعل المرض أو التقدم في العمر مثلا ( لقد كان دائما كذلك ) وهذا تأكيد على عامل الوراثة ، على أن هذا المقطع نفسه سيفتح الطريق إلى ضرب آخر من الوراثة : هي الوراثة النفسية ، أو الفظاظة والقسوة في السلوك بصرف النظر عن الاتجاه ، سنرى . وفي هذا اللقاء نفسه بين الأب والابن ( إكدال وجالمار) يقول جالمار عن نفسه : ” إنني لست عاطفيا ” بل يصل درجة التهكم والسخرية من أبيه حين يبدي الأب رغبته في الزواج من ” مسز سوربي ” – قيمة بيته ، ليستكمل المظهر العائلي ، فيعلق جالمار متهكما من أبيه : ” متى كانت هناك حياة عائلية !!؟ ” ، وينتهي هذا المقطع الفظ من حوار الابن وأبيه بتبادل هاتين العبارتين :
جالمار : ( بهدوء ) لقد رأيتك على حقيقتك .
ويرل : لقد رأيتني بعيني أمك ..
ويضيف ويرل بعد قليل :
ويرل : تماما كما لو كانت أمك تكلمني كلمة بكلمة !!
هكذا في الفصل الأول من المسرحية نجد البذور الأولى للوراثة العضوية ، التي ستكون برهانا على أبوّة ، إيرل للطفلة ( هدفج ) المنسوبة إلى جريجرز . وسيقول جريجرز – لاحقا – معبرا عن واقعه السعيد بأسرته الطيبة ( زوجته جنا وابنته هدفج ) إن هذه الفتاة مصدر سعادته ومصدر شقائه أيضا :
جريجرز : إنها معرضة لأن تفقد بصرها
جالمار : تصاب بالعمى !!
جريجرز : نعم . لقد ظهرت الأعراض الأولى فقط … الطبيب حذرنا أن العمى آت لا محالة .
جالمار : يا لها من مصيبة فظيعة . ما سبب هذا ؟
جريجرز : ( يتنهد ) إنه وراثي كما يبدو
جالمار : ( بشيء من الفزع ) وراثي ؟
جنا : إن أم زوجي كانت ضعيفة البصر مثلها
جريجرز : هكذا يقول والدي ، أنا شخصيا لا أذكرها .
بهذه الحرفية العالية ، والدقة ” العلمية ” الواعية يعبر إبسن عن الوراثة ، ومدى الثقة بها لتكون دليل إدانة أو براءة من تهمة . إن ” شفرة ” الوراثة لا تزال سرا من أسرار خلق الإنسان إلى اليوم – أي بعد أكثر من مائة وثلاثين عاما من كتابة هذه المسرحية، فإذا ثبت لدينا يقينا أن العجوز ويرل كان دائما ضعيف البصر ، وهو في شيخوخته أشد ضعفا ويمكن أن يفقد بصره كلية ، وإذا ثبت لدينا يقينا أن هذا العجوز قد سعى لعلاقة جسدية مع جنا ، بعد أن تركت خدمته وعاشت مع أمها ، وأن هذه العلاقة قد حدثت بالفعل ، فليس لدينا يقين ، ولا يصلح أن يكون هذا دليلا قاطعا على أن هدفج ابنته ، من هنا كانت الإشارة بالغة الذكاء والدقة ، إلى أم جريجرز المتوفاة ، وكانت ضعيفة البصر أيضا . إن جنا هي التي تذكر هذا ، ولابد أن تكون عرفته عن طريق جريجرز نفسه ، الذي يقول إنه عرف هذه المعلومة عن والده ، ولكنه ” شخصيا ” لا يذكر ذلك .
سيتكرر الحوار الذي يستدرجنا إلى تذكر ضعف بصر ويرل ،وضعف بصر هدفج، إلى أن يتولى جريجرز الربط بينهما ، واتخاذه دليلا على جريمة والده . ولكن هذه القرينة – التي ظلت مجرد احتمال ، أو تصلح للترجيح ، قد تحولت إلى برهان قاطع لدى جريجرز ، ضعيف الشخصية ، سهل الانقياد ، سريع التوجس ، سريع التصديق .
الأمر الثاني ، أو العنصر الثاني الذي استخدم فيه إبسن الوراثة ، هو هذه القسوة النابعة من ضيق الأفق ، أو الرؤية الواحدة ، التي نلمحها في شخص جالمار . لقد سبقت إشارة أبيه الكاشفة عن أن هذا الشاب يرى الأشياء بعيني أمه ، حتى يقول له أبوه إنه يراها ويسمعها فيه ، وهذا الأمر يمكن تقبله من الناحية النفسية ، ولكن إبسن سيضيف أن هذا الشبه عضوي أيضا . فعندما يلتقي جالمار بالسيدة جنا في بيتها ( بيت جريجرز ) وكانت من زمن طويل ( نحو خمسة عشر عاما ) تعمل في بيت أبيه ، يبادرها :
جالمار : … مساء الخير يا مسز إكدال ، لا أدري إذا كنت تذكرينني !!
جنا : طبعا ، ليس من الصعب تذكرك يا مستر ويرل .
جالمار : كلا . إني أشبه والدتي . وبدون شك أنك تذكرينها .
وإذا كان جالمار يذكر أنه يشبه ( في ملامحه ) أمه ، فإنه يرى الفتاة هدفج ستشبه أمها كذلك :
جالمار : إنها ستشبهك عندما تكبر يا مسز إكدال .
وبهذا ستكون الفتاة ( الضحية ) هدفج ، يقينا تشبه أمها ، أو ستكون ، واحتمالا ورثت ضعف البصر عن ويرل العجوز .
وهنا نشير إلى مستوى آخر من ” الوراثة ” لم يشر إليه ناقد ممن قرأنا تحليلهم لهذه المسرحية : إن الأمر ( الوراثي ) الواضح من الناحية النفسية هو مشابهة جالمار لأبيه الملازم إكدال ، هذا الملازم المغرم بالصيد في الغابات والمستنقعات ، وقد شارك ويلر ملكية في مصنع أخشاب فورطه في قطع أشجار من الغابة ، عدت سرقة ، حوكم عليها إكدال فدخل السجن وتحطمت حياة ولده ، في حين فاز ويلل بالمصنع ونمىّ ثروته ، وتشعبت علاقاته ونزواته على الطريقة المذكورة في المسرحية ، ونشأ جالمار مستسلما للأمر الواقع ، وفي أعماقه هاجس بأن والده برئ ، ويستحق ردّ اعتبار ، ويحلم بأن يردّ إليه اعتباره ، ولكنه لا يتخذ خطوة واحدة عملية في هذا الاتجاه ، بل يتقبل توجيهات ويرل وكأنها هدية بريئة أو مساعدة من صديق سابق لوالده ، فلا يخالجه شك في أسباب تداخل العجوز في خصوصياته. هذا المستوى في الشخصية التواكلية ، سهلة الانقياد ، سريعة الاستسلام للأوهام ، يلتقي فيه الأب ( إكدال ) الذي خدعه شريكه ، فاستسلم لمصيره ، وخرج من السجن محطما يتوهم صيد الطيور والأرانب في غرفة مظلمة بسطح البيت الذي يعيش فيه ابنه . وهذا التشابه موجود أيضا بين جريجرز وأبيه ويرل ، على الرغم مما يبدو بين مسلكيهما من تناقض ، فالرجل العجوز الداهية يحقق صبواته مع النساء لا يكفه خلق ولا يردعه عرف ، إنه يجد متعته في الثروة ، وفي العلاقات النسائية ، وقد ضحى في سبيل الأولى بصديقه شريكه في المصنع ، وضحى في سبيل الأخرى بالحياة الزوجية ، وبالشرف أيضا ، ولم يبال أن يخفي هذه العلاقات حتى عن ولده وزوجته . قد يبدو جالمار نقيضا لهذا ، لأنه “متدين ” أو متحرج أخلاقيا ، يؤمن بالحقيقة ، بالمثل الأعلى منذ كان صبيا يطرق الأبواب ليجمع الأنصار والتبرعات لخدمة جمعية دينية خيرية ( الكويكرز ) وهو – أيضا – في سبيل بلوغ غايته ، أي رفع لواء الحقيقة ، أو ما يظنه الحقيقة ، لا يبالي أن يحطم بيوتا ، وأن يمزق قلوبا ، وأن يدمي نفوسا ، وأن يوحى للطفلة البريئة ( هدفج ) بأن تقتل البطة البرية ، فما كان منها إلاّ أن أطلقت النار على نفسها !!
إن مبدأ الانحراف – أو على الأقل : مجافاة السوية الإنسانية – ماثل في الأب ويرل ، وفي الابن جالمار من حيث تسلط النازع الخاص ، والتركيز على الهدف دون اهتمام ” بقراءة ” آثاره على الآخرين مهما كانت درجة قربهم أو حرارة مشاعرهم . لقد اعتنق جالمار مبدأ ما يطلق عليه الحقيقة ، ويرى أن معرفة الحقيقة هي الجمال والسلام ، ويفرق بين الزواج الموفق والزواج الصحيح ، متخطيا صور التوافق إلى شروط فلسفية إيمانية ، ويرى أن ما عدا هذا إنما هو إيهام كاذب بالحياة . هكذا تصدى لسلوكيات أبيه الذي يعيش هذا الإيمان الكاذب بالحياة ، ( وإن لم يعبر عن هذا تعبيرا مباشرا ) إذ اغتال حق شريكه ( إكدال ) وتركه للسجن وما أعقبه من تحطيم حياته ، ليغتني هو ويستضيف على مائدته رجال الحاشية الملكية ، كما وزع خطاياه على من حوله ليحتفظ لنفسه بإشباع ملذاته، والتخلص من آثار جرائمه .. إنها صور من عدم المبالاة بالقيمة توصل إلى عدم المبالاة بالآخرين ، وهو ما بلغه ابنه جالمار : عدم المبالاة بالآخرين ، ولكن عن طريق التمسك الجامد بالقيمة ( الحقيقية ) وعبادتها وكأنها وثن لا يطلع على سره أحدا !!
ثالثا : يبقي الرمز ، وهو موضع اهتمام من نقاد هذه المسرحية ، ويعدّ استخدامه فيها علامة على أسلوب إبسن في مرحلته الثالثة التي تعد قمة مراحل إبداعه ، كما أن ” البطة البرية ” اعتبرت النموذج الأمثل لهذا الاستخدام ، وليس في هذا – فيما نرى – شيء من المبالغة ، فالرمز وهو البطة الجريحة برصاصة غادرة ، الملقاة جانبا ( لم تظهر البطة على المسرح ) رمز موافق إلى حد كبير ، وذلك لعدة أسباب ، وليس لسبب واحد :
أنها ” بطة ” مصابة في جناحها أو في رجلها ، وهو أن هذه البطة المصابة صورة معادلة لجميع الأفراد في المسرحية ، وليس في منزل إكدال وحده . لقد اصطاد هذه البطة العجوز الداهية ويرل ، وهو الذي أهداها إلى ضحيته القديمة : إكدال ، فضمها إلى غابته الموهومة . إن ويرل إنسان غير سوي ، عاجز عن مواجهة عيوبه ، عاجز عن استيعاب ولده ، عاجز عن تصحيح أخطائه وإن ظن غير هذا ، وليس ابنه ، وليست مسز سوربي ( قيمة البيت / العشيقة / التي تنتظر أن تتحول إلى زوجة ) بعيدين عن هذه الصورة العرجاء العاجزة ، على أن إهداء ( أو تصدير ) البطة إلى إكدال له دلالة ، واستفاضة الحديث في البيت حولها يرشح القول بأنها تجسيد رمزي لأفراد هذا البيت . (إكدال ،وابنه جريجرز ، وزوجة الابن جنا ، وابنتها هدفج ) إن كلا منهم يبدي عناية بالغة بالبطة العاجزة كأنما يرى نفسه فيها – في سياق مبكر في المسرحية ، حين التقى العجوز الداهية ويرل ، وابنه جالمار حاول الأب أن يسجل لنفسه – أمام ولده – مكرمة أخلاقية ( زائفة بالطبع ) وهي أنه يساعد أسرة شريكه القديم ، ولكنها – الأسرة – هي التي تعجز عن النهوض بنفسها ، يقول :
ويرل : ماذا تريدني أن أفعل بالضبط لمساعدة هؤلاء الناس ؟! قبل أن يطلق سراحه كان إكدال رجلا محطما لا تجدي معه المعونة . هناك أناس في هذا العالم يهوون إلى الحضيض بمجرد أن تصاب أجنحتهم ولا تقوم لهم قائمة بعد ذلك …
هذه الإشارة المبكرة لا تذكر كلمة ” بطة ” ، ولكنها تهيئ استقبال هذا التوصيف عن الشخصية غير المقاومة ، التي لا طاقة لها في مغالبة الصعاب ، فهي تمضي في طريقها ما كانت الوسائل ميسرة ، فإذا صادفت عقبة مما يمكن وصفه بأنه سقطة ، أو كارثة ، أو عقبة كأداء ، انهارت واستسلمت لمصيرها الذي سيكون مزيدا من السقوط حتى تستريح عند الحد الأدنى من الحياة ، حيث لا هبوط أكثر من ذلك . إن هذا ” الهبوط ” – على المستوى السلوكي والنفسي – متحقق في ويرل وابنه جريجرز ، وعلى المستوى العملي والنفسي أيضا متحقق – بطريقة أخرى – في إكدال وابنه جالمار ، وجنا ، وهكذا ستبدو هدفج ضحية، إنها الوحيدة التي بلا خطيئة ، ومع هذا فإنها التي ضحت بنفسها .
إن إبسن لا يريد أن ” يفاجئ ” جمهوره بشيء ، إنه يرتب الجزئيات بوعي ودقة، مثلما يفعل مزور أو لص محترف يحرص على ألا يترك وراءه أثرا يوقع به ، ولكنه ، ومهما طالت المراوغة – عادة .. يوقع به !! هناك إشارة مبكرة إلى السقوط الذي لا تعقبه محاولة صعود ، وهناك حوارات حول البطة شارك فيها أهم شخصيات المسرحية في مواقف مختلفة ، من أهمها هذا الموقف الذي يوشك أن يجمع الأفراد في مواجهة :
جالمار : … إني أرى طائرا يرقد في السلة
إكدال : أهم طائر
جريجرز : أليست هي بطة ؟
إكدال : ( وقد تألم بعض الشيء ) نعم ، من الجليّ الواضح أنها بطة .
جالمار : أي نوع من البط ممكن أن تقول ؟
هدفج : إنها بطة غير عادية
إكدال : صه
جريجرز : وهي ليست طائرا غريبا أيضا ؟
إكدال : كلا يا مستر ويرل ، إنها ليست طائرا غريبا ، إنها بطة برية … إنها بطتنا البرية يا صديقي العزيز .
هدفج : بل هي بطتي البرية ، إنها تخصني أنا ، وأنا صاحبتها .
سيستمر حوار هذا المشهد لنعرف كيف تم اصطياد هذه البطة ، وإصابتها وغوصها في الوحل ، وإنقاذ كلب العجوز ويرل لها ، وكيف انتهت إلى بيت إكدال ، ولماذا تعلقت الفتاة هدفج بها ، وتوحدت معها ، وحين تأزمت وصارت مثلها تماما ضحت بنفسها .
أما كيف أجرى إبسن تدبيراته الخفية ليجعل من انتحار الفتاة الغضة بإطلاق رصاصة على صدرها أمراً متوقعا ، ومفاجئا في نفس الوقت ، فأول هذه التدابير – حسب ترتيبها – في نص المسرحية : أن هدفج أبدت ارتباطا قويا بالبطة ( بل هي بطتي البرية / إنها تخصني أنا ، وأنا صاحبتها ) ص42 ، وحين ينفرد جالمار بهدفج فإنه يعود إلى حديث البطة ، فيسأل الفتاة :
جريجرز : هل تحبين أن تكوني هناك مع البطة البرية ؟
هدفج : نعم ، كلما تسمح الظروف – ص 55 .
ويطول الحوار بين الرجل والفتاة ( وأصبح يقترب من فكرة أنها أخته غير الشرعية وليست ابنة جريجرز ) فتحدثه عن ساعة متوقفة ، وعن مجموعة من الصور في كتاب وأول صوره صورة للموت مرعبة ، وساعة رملية وفتاة !! – ص 56 .
ويمتد الحوار بينهما أيضا ليعبر عن سقوط البطة بأنه سقوط إلى ” أعماق المحيط ” فتلتفت هدفج إلى غرابة التعبير ، وتسأله : لماذا تقول أعماق المحيط ؟ .. يمكنك أن تقول : قاع البحر !! – ص 58 .
وكأن أعماق المحيط هو المعادل للموت المرتقب ، وهذه نبوءة مبكرة . وبعد عودة أفراد أسرة إكدال إلى مجلس زائرهم جالمار تسمع طلقة ، هي أول طلقة في المسرحية – ص 60 – وهي آتية من غرفة السطوح ، وسيكون ختام المسرحية طلقة أخرى من المكان نفسه ، غير أن الطلقة الأولى كان إكدال يمارس وهمه الجميل بالصيد ، أما الطلقة الأخيرة فقد وجهتها هدفج إلى صدرها إذ لم تحتمل جفوة أبيها ، أو من تعتقد دائما أنه أبوها .. ولا ترى سببا لرغبته في ألاّ تكون معه في مكان واحد !! ، وفي أعقاب إطلاق رصاصة إكدال تعبر جنا (ص60) عن توقعها لحادث قد يصيب الجد ( إكدال )أو يصيب زوجها (جريجرز) !! وهنا يظهر المسدس الذي يملكه جريجرز وتطلع هدفج إلى الإمساك به ( مثل أي ناشئ تستهويه الغرابة ) وتحذير جريجرز لها من لمسه لأن به طلقات !! – ص61 وهنا تتكرر الإشارة إلى المسدس ، وكيف كان في يد إكدال ( الأب ) حين صدر عليه الحكم ، وأنه فكر في الانتحار ليهرب من معرة الحكم عليه كسارق للأملاك الحكومية ( قطع أشجار من الغابة تملكها الدولة ) ولكنه جبن عن مواجهة الموت في هذه اللحظة – ص 63 ، 64 .
إن انتحار صبية جميلة ، بريئة ، شعرت دائما بأنها موضع تدليل وحب من أسرتها ، بسبب أن والدها لم يعد يرغب في رؤيتها ، يظل محيرا ، لأنه لا يصلح أن يكون جزاء عادلا لخطايا الآخرين ..
زمنيا – في الثلث الأخير من سنوات نشاطه المسرحي ، إذ بدأ مع استهلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ( 1851م ) وكذلك تقع في الطور الثالث من تجاربه الأسلوبية في المسرح ، التي بدأت بالغنائية الشعرية ، ثم تطورت إلى الواقعية الاجتماعية ، التي تطورت إلى واقعية ممزوجة بالرمز ، وفي هذا الطور الأخير كانت ” البطة البرية ” التي استحقت الكثير من ثناء النقاد ، واستخرجت – استنادا إليها – أهم الأسس التي تميز بها مسرح إبسن كما سنرى .
في نقد هذه المسرحية تتفتح أمامنا ثلاث طرق ، يسهل الاستعانة بأهم منجزاتها، ولكن يصعب الجمع بينها . الطريق الأول أن نستعيد قواعد وأصول المسرح الأرسطي ، وما أدخل عليه المسرح الرومانسي من اجتهادات ، فنعدها المعيار الذي نحتكم إليه في تقييم مسرحية إبسن . وهذا المسلك لا يخلو من تعسف ، لأن إبسن استوعب فنـون المسرح منذ الإغريق ، وحتى الوقت القريب من زمنه ( سكريب – على سبيل المثال ، ومسرحيته المتقنة ) لم يقل أبدا إنه ينتمي بفنه إلى أرسطو ، ولا حتى شكسبير ( المتوفى 1616م ) ، مع هذا سنجد الأسس الجوهرية في قواعد المسرح الأرسطي متحققة في هذه ” البطة البرية ” ، فلدينا وحدة الزمان ، ووحدة المكان ، إذ لم تستمر أحداث المسرحية أكثر من يومين تقريبا ، ولم يتحرك المكان متجاوزا منزل إكدال حيث أقيم حفل العشاء ، ثم انتقل الأشخاص أنفسهم ، أو أهمهم بالنسبة للموضوع المسرحي ، إلى منزل جريجرز ، وفي هذا المنزل الصغير ، بين استديو التصوير ، وقاعة الطعام ، وغرفة الاستقبال جرت سائر أحداث المسرحية ، بالإضافة إلى المتسع الذي يطلقون عليه ” الغابة ” ، ولم يظهر في المسرحية ، وإن تطرق إليه الحديث أحيانا ، وبخاصة حين تذكر تلك البطة – الرمز – من شخصيات المسرحية . هاتان وحدتان من ثلاث وحدات حرص أرسطو على تحققها في المسرحية وأسند إليهما تماسك البناء ، وهنا سنرى أن ” وحدة الحدث ” – وهي الوحدة الثالثة في قانون الوحدات الثلاث الأرسطي – غير متحققة ، ليس لأن المسرحية مشتته ، أو ليس فيها حكاية، بالعكس : مسرحية البطة البرية متماسكة تماما ، وحكايتها سهلة التلخيص والفهم ميسورة الاستعادة ، ولكنها كتبت بحرفية لم تهتم بأن يكون في المسرحية ” حدث ” أو ” حادثة ” ، إن ما في هذه المسرحية عدد محدود من الشخصيات ، بينها رابطة قديمة – قبل بدء المسرحية – جمعت بينها ظروف راهنة ، فأخذت – بفعل عوامل قديمة ومستجدة – تستعيد أحداثا صغيرة من الماضي البعيد والقريب ، وتكتشف – من خلالها – أمورا كان مسكوتا عنها ، فأدى هذا الكشف إلى كارثة : انتحار الفتاة الصبية هدفج التي لم تتحمل جفوة من كانت تعتقد بأنه والدها الحنون .
قد لا يكون مناسبا لنقد هذه المسرحية أن نستدعى قواعد أرسطو لنرى إلى أي مدى تتفق معها أو تخالفها ، وقد يجوز أن نشير إلى الشرط الأرسطي الذي يفصل بحسم بين التراجيديا ، والكوميديا ، والشرط الآخر الذي يحتم أن يكون الشعر الراقي المزين بالصور المجازية والاستعارات هو لغة الكتابة التراجيدية بصفة خاصة . لقد حدث تمرد مرحلي على هذه القواعد الأرسطية منذ زمن شكسبير ( أي في صميم العصر الكلاسيكي نفسه ) ، ولكن مسرح شكسبير .. شكسبيري وحسب !! ، ينتمي إلى صاحبه ، ولا يدخله في مذهب أو مدرسة . فلما ملّ المبدعون صرامة الكلاسيكية واستجدت عوامل أخرى متعددة استحكم التمرد ، فكانت الحركة الرومانسية التي غيرت مفهوم البطل التراجيدي – كما حدده أرسطو – فاختارت ” أبطالا ” من أوساط الناس ، قد لا يختلفون عن بطل البطة البرية : جريجرز ، الذي يمارس فن التصوير ، ويعيش في وَهْم أنه سيخترع مادة لتثبيت الصور . وكذلك عرف النثر طريقه إلى المسرح .
أما الطريق الثاني – المحتمل – لنقد البطة البرية – فهو أن نعتبر خصائص مسرح إبسن هي المعيار الذي نحتكم إليه في التماس ما تتميز به هذه المسرحية . من المسلم به أن المبدعين الكبار الذين يحق لهم أن تنسب إليهم أساليب أو مدارس ( كما نقول مسرح شكسبير – مسرح موليير – مسرح إبسن – مسرح الحكيم ) إنما نستخرج خصوصيات أساليبهم من مجموع كتاباتهم وليس من مسرحية بعينها . وهذا يعني – من وجهة أخرى – أن مسرحية بعينها للمؤلف نفسه يمكن أن تعكس بعض خصوصيات صاحبها الأسلوبية دون أن ننتظر حالة كاملة من التطابق التام ، فهذا ما لا يمكن توقعه ، وإذا حدث فإن هذه المسرحية ستبدو عملا وحيدا ، والعمل الوحيد لا يؤسس قاعدة . وفي هذا النطاق يمكن أن نلاحظ :
أولا : الحدث المسرحي ، وليست خصوصية مسرح إبسن في وجود حدث أو حادثة أو عدم وجود أحدهما ، ولكن الخصوصية في طريقة اكتشافه وتعقب آثاره وانعكاساته . فإذ تبدأ مسرحية ” البطة البرية ” بحفل عشاء في منزل الثري إكدال ، صاحب مصانع الخشب ، ويحضره ولده الشارد جالمار الذي استدعي من موقع عمله البعيد – ويحضره أيضا – بدعوة خاصة من جالمار – صديقه المناظر له في العمر : جريجرز ، لا نكاد نتبين وجهة لشيء سيحدث ، وحتى عندما ينفرد جالمار بوالده العجوز ونكتشف مدى ما يضمر هذا الشاب لوالده من سوء الظن وقسوة المعاملة لوالدته قبل وفاتها ، والسلوك الأخلاقي المنحرف لهذا الولد ، لا نكاد نتبين وجه احتمالات تطور الحكاية في المسرحية ، ولكن : عندما ينفرد الصديقان القديمان منذ زمن الطفولة : جالمار ، وجريجرز ، سيكشف لنا جالمار – من خلال أسئلته التي تتعقب أطوار حياة جريجرز الخاصة : كيف اختار مهنة التصوير ؟ ، كيف تزوج جنا ؟ متي ولدت ابنته هدفج ؟ ما المهمة التي يسندها إكدال إلى شريكه القديم في المصنع الملازم ويرل ( والد جريجرز ) ؟ إن هذه الأسئلة التي طرحت في لقاء سريع يمكن أن يوصف بأنه عابر ، أو مصادفة ، واستكملت بتدبير في لقاء آخر في اليوم التالي ، فكشفت للقارئ أو المشاهد ، قبل أن تكشف للمعنيّ بها( جريجرز )عن طبيعة العجوز إكدال الفاسدة ، وتآمره المجرم على الملازم ويرل شريكه القديم واستضعافه اللا أخلاقي لجريجرز، والتدليس عليه في توجيه حياته ، كما في انتساب ابنته !!
هذه إذن هي الطريقة ” الإبسنية ” في الكشف عن ” موضوع المسرحية ” : لقد جرى كل شيء قبل بدء الفصل الأول ، الذي سيكون شاغله ، وشاغل الفصول التالية : ما هذه الأمور ” المخبأة ” التي جرت ، وما انعكاسها الآن على هذه الشخصيات ؟
ثانيا : المشكلة والحل . وفي حدود المسرح التقليدي ، يقال عادة إن المسرحية تتشكل في ثلاثة فصول ، الفصل الأول يعرّف بالشخصيات ، ومدى أهميتها ومشاركتها في صنع الموضوع ، والفصل الثاني يسيطر الموضوع بأن يطرح من كافة جوانبه ، وتتحدد وجهات النظر المختلفة إليه ، من خلال إدارة ” الصراع ” الذي هو – بطبيعة تكوين المسرحية – الأسلوب الأساسي في تطوير الموضوع وترتيب المشاهد والمواقف التي تعرضه ، أو تعرض له . أما الفصل الثالث – الأخير – فإنه يبلغ بالصراع بين الشخصيات ذروته ، حتى يستغلق تماما ، أو يكاد ، لينبثق الحلّ ، وهذا الحلّ مع ما يجب أن يتوافر له من عنصر المفاجأة ، والقدرة على إعادة الأمور إلى نصابها ، لا يصح أن يكون حلا مفروضا ، أو مصطنعا ، بمعنى أنه لا يجوز أن يكون ” مستوردا ” من خارج موضوع المسرحية ، فمن الضروري أن يكون ” كامنا ” خفيا ، صعب الإدراك ، ولكنه – حين يفرض نفسه خلاصة وختاما لأحداث المسرحية – ينبغي أن يبدو منطقيا ، مقبولا ، لأنه نابع من الأحداث ، متواشج معها بخيوط متينة حتى وإن تكن خفية .
هذا هو ” الشكل ” التقليدي لتوزيع مادة المسرحية على فصولها ، وهو توزيع يعتمد على بداية توصف بأنها منطقية ، بمعنى أن العقل يقبلها بدءا فلا يتساءل : ماذا كان قبلها ؟ وتنتهي بالحل ، المنطقي المقبول كخاتمة ، لا نتساءل بعدها : ثم:ماذا حدث بعد ذلك ؟ وهنا يختلف مسرح إبسن كثيرا ، وتختلف مسرحية البطة البرية تماما ، فالمسرحية تبدأ بحفل عائلي ، تلتمع في سياقه إشارات صغيرة قد لا يعطيها المشاهد أو القارئ أهمية تذكر ، كأن نعرف أن عدد الحاضرين حول المائدة كان (13) شخصا ، وهو رقم يثير القلق ( التشاؤم ) ، كما أن إلحاح العجوز المحطم ويرل في طلب المرور إلى غرفة النسخ ليمارس عمله ( الوهمي ) يطرح أسئلة تتعلق بهذا الشيخ : ما حقيقة علاقته بهذا المكان وسيده الثري الذي يستضيف رجال البلاط !! وحين ينكشف لنا نحن المتلقين حقيقة هذا السيد الثري ( إكدال ) وهي حقيقة أخلاقية ، أو : لا أخلاقية ، فإن البناء المسرحي ، حين يعاد ترتيبه في ذهن المشاهد أو القارئ سيدل على وجود مشكلة ، ولكنه لن يجد لها حلا ، لا في المسرحية، ولا خارج النص المسرحي !! إنها مشكلة سلوكية ، كانت دائما موجودة ، وستظل توجد ، ما دامت مدراك الناس متفاوتة ، وما دام بعض ” الأقوياء ” يجدون لأنفسهم ” الحق ” في استغلال كل من يمكن إخضاعه أو استغلاله لمداراة نقاط انحرافهم !! الخلاصة : أن في مسرحية إبسن – التي معنا – توجد مشكلة يمكن اكتشافها عبر وقائع المسرحية ( ليست متجسدة في موقف أو في عبارة أو حتى في شخصية محددة ) ، ولكن ليس فيها حل . إنها – من منظور الواقعية – لا تعترف بوجود حل جاهز أو متفق عليه ، إنها – مثل الكثير من إبداعات الواقعيين ، تكتفي بإثارة ” المسألة ” ، وتترك ( لنا ) البحث عن حل لها .
ثالثا : إعمال مبدأ الوراثة . وهذا المبدأ ثمرة نشاط علم النفس ، وجهود “فرويد ” الذي نشط حول هذه الفترة ذاتها ( ولد سيجموند فرويد سنة 1856 وتوفي سنة 1939 ) وكانت” الوراثة إحدى المبادئ العلمية المؤثرة في تحليله للشخصيات ، كما كانت عماد ما أضافه ” الطبيعيون ” ورائدهم إميل زولا ( ولد زولا سنة 1840 وتوفى سنة 1902 ) إلى مبادئ ” الواقعية ” ، فقد رأى دعاة الواقعية ( Realism ) أن الإنسان ( الشخص )خامة أو عجينة، تشكلها البيئة التي ينشأ فيها ، فرأى زولا ، ومن بعده دعاة الطبيعة (Naturalism ) إضافة عنصر ” الوراثة ” ، وبهذا تتشكل الشخصية بفعل مؤثرين : البيئة + الوراثة .
لقد استخدم إبسن عنصر ” الوراثة ” بكثير من المرونة والحذر ، بحيث يمكن أن يقال إنه لم يكن يتبع أولئك السيكولوجيين الذين أشاروا إلى هذا المؤثر سواء على مستواه النفسي أو الحسيّ ، وبخاصة أن من أشرنا إليهم ( زولا وفرويد ) تأخر ظهور نشاطهم العلمي عن سطوع نجم إبسن ، بحيث لا يستبعد أنه الذي ألهمهم بعض مقولاتهم ، وليس العكس .
لقد استخدم مبدأ ” الوراثة ” بدرجة من الوضوح الذي لا يكاد يترك مجالا للاختيار ، فأشير – أكثر من مرة – إلى ضعف قوة الإبصار في الفتاة الصبية هدفج ، بدرجة تتهددها بالعمى ، وبدرجة أنها توقفت – وهي في ريعان صباها – عن الذهاب إلى المدرسة ، ومنعها من القراءة . وقد استخدم إبسن هذه الإشارة المتكررة عدة مرات لتأكيد أن الفتاة هدفج ليست ابنة شرعية للرجل الشاب الذي تعيش في كنفه وولدت ونشأت في بيته ( جريجرز ) وإنما هي إبنة غير شرعية للعجوز المتآمر الثري ( وِيرل ) من خادمته ( جنا ) التي ستعترف – لاحقا – أن صلة غير شرعية نشأت بينهما ، ولكن ليس حين كانت تعمل في بيته ، فقد حاول لكنها صدته وتأبت عليه ، غير أنها – بعد أن غادرت العمل عنده – تعرضت لمطاردة وإلحاح منه ، فاستطاع بواسطة أمها ( الفاسدة ) أن ينال بغيته ، وفي أعقاب هذا ، سعى إلى أن يزوجها لجريجرز الذي استطاب زوجة مجانية ، ومهنة جاهزة اقترحت عليه وتجيدها هذه الزوجة ( اللقطة ) وهكذا اجتمع شمل جنا وجريجرز ، وولدت هدفج ، تحمل اسم زوج أمها !! ولا تعرف لنفسها أبا غير هذا الأب الحنون ، شديد الرفق بها والشفقة عليها ، وعلى والدتها ، قبل أن يقتحم جالمار ( ابن إكدال ) رضاءه بحياته ، فمزقها بددا دون رحمة ، بدعوى أنه لاشيء أهم من الحقيقة !!
يتجلى حذر إبسن في استخدام عنصر الوراثة – في هذه المسرحية – في أمرين :
أنه ألحّ على عنصر الوراثة العضوية ( الجسدية ) وذلك في تكرار الإشارة إلى حالة الضعف في قوة الإبصار ، واحتمال فقد البصر كلية لدى الفتاة ( هدفج )،ولدى ( ويرل ) العجوز ، تبدأ الإشارة إلى هذا وكأنها غير مقصودة ، أثناء عرض ويرل على ولده جالمار أن يعود إلى العمل معه في مصنعه ، بإغراء أن يكون شريكا بالمناصفة في المصنع ، مع معرفته بكراهية ابنه للعمل معه :
ويرل : أقترح أن تكون شريكا في المصنع .
جالمار : أنا في مصنعك كشريك ؟
ويرل : نعم . ليس من الضروري أن نكون سويا ، يمكنك أن تلاحظ العمل هنا في المدينة ، وأنا في المصنع هناك .
جالمار : أراغب أنت في ذلك ؟
ويرل : نعم . أنت تعلم بأني لا أقوى الآن على العمل الكثير كما كنت أفعل في الماضي : علىّ أن أحافظ على عيني يا جالمار ، إذ بدأ بصري يضعف .
جالمار : لقد كان دائما كذلك .
إن هذا المقطع الحواري يمدنا بمعلومة مهمة ، هي ضعف بصر الأب ، وتعقيب الابن يدل على إن هذا الضعف ليس وافدا بفعل المرض أو التقدم في العمر مثلا ( لقد كان دائما كذلك ) وهذا تأكيد على عامل الوراثة ، على أن هذا المقطع نفسه سيفتح الطريق إلى ضرب آخر من الوراثة : هي الوراثة النفسية ، أو الفظاظة والقسوة في السلوك بصرف النظر عن الاتجاه ، سنرى . وفي هذا اللقاء نفسه بين الأب والابن ( إكدال وجالمار) يقول جالمار عن نفسه : ” إنني لست عاطفيا ” بل يصل درجة التهكم والسخرية من أبيه حين يبدي الأب رغبته في الزواج من ” مسز سوربي ” – قيمة بيته ، ليستكمل المظهر العائلي ، فيعلق جالمار متهكما من أبيه : ” متى كانت هناك حياة عائلية !!؟ ” ، وينتهي هذا المقطع الفظ من حوار الابن وأبيه بتبادل هاتين العبارتين :
جالمار : ( بهدوء ) لقد رأيتك على حقيقتك .
ويرل : لقد رأيتني بعيني أمك ..
ويضيف ويرل بعد قليل :
ويرل : تماما كما لو كانت أمك تكلمني كلمة بكلمة !!
هكذا في الفصل الأول من المسرحية نجد البذور الأولى للوراثة العضوية ، التي ستكون برهانا على أبوّة ، إيرل للطفلة ( هدفج ) المنسوبة إلى جريجرز . وسيقول جريجرز – لاحقا – معبرا عن واقعه السعيد بأسرته الطيبة ( زوجته جنا وابنته هدفج ) إن هذه الفتاة مصدر سعادته ومصدر شقائه أيضا :
جريجرز : إنها معرضة لأن تفقد بصرها
جالمار : تصاب بالعمى !!
جريجرز : نعم . لقد ظهرت الأعراض الأولى فقط … الطبيب حذرنا أن العمى آت لا محالة .
جالمار : يا لها من مصيبة فظيعة . ما سبب هذا ؟
جريجرز : ( يتنهد ) إنه وراثي كما يبدو
جالمار : ( بشيء من الفزع ) وراثي ؟
جنا : إن أم زوجي كانت ضعيفة البصر مثلها
جريجرز : هكذا يقول والدي ، أنا شخصيا لا أذكرها .
بهذه الحرفية العالية ، والدقة ” العلمية ” الواعية يعبر إبسن عن الوراثة ، ومدى الثقة بها لتكون دليل إدانة أو براءة من تهمة . إن ” شفرة ” الوراثة لا تزال سرا من أسرار خلق الإنسان إلى اليوم – أي بعد أكثر من مائة وثلاثين عاما من كتابة هذه المسرحية، فإذا ثبت لدينا يقينا أن العجوز ويرل كان دائما ضعيف البصر ، وهو في شيخوخته أشد ضعفا ويمكن أن يفقد بصره كلية ، وإذا ثبت لدينا يقينا أن هذا العجوز قد سعى لعلاقة جسدية مع جنا ، بعد أن تركت خدمته وعاشت مع أمها ، وأن هذه العلاقة قد حدثت بالفعل ، فليس لدينا يقين ، ولا يصلح أن يكون هذا دليلا قاطعا على أن هدفج ابنته ، من هنا كانت الإشارة بالغة الذكاء والدقة ، إلى أم جريجرز المتوفاة ، وكانت ضعيفة البصر أيضا . إن جنا هي التي تذكر هذا ، ولابد أن تكون عرفته عن طريق جريجرز نفسه ، الذي يقول إنه عرف هذه المعلومة عن والده ، ولكنه ” شخصيا ” لا يذكر ذلك .
سيتكرر الحوار الذي يستدرجنا إلى تذكر ضعف بصر ويرل ،وضعف بصر هدفج، إلى أن يتولى جريجرز الربط بينهما ، واتخاذه دليلا على جريمة والده . ولكن هذه القرينة – التي ظلت مجرد احتمال ، أو تصلح للترجيح ، قد تحولت إلى برهان قاطع لدى جريجرز ، ضعيف الشخصية ، سهل الانقياد ، سريع التوجس ، سريع التصديق .
الأمر الثاني ، أو العنصر الثاني الذي استخدم فيه إبسن الوراثة ، هو هذه القسوة النابعة من ضيق الأفق ، أو الرؤية الواحدة ، التي نلمحها في شخص جالمار . لقد سبقت إشارة أبيه الكاشفة عن أن هذا الشاب يرى الأشياء بعيني أمه ، حتى يقول له أبوه إنه يراها ويسمعها فيه ، وهذا الأمر يمكن تقبله من الناحية النفسية ، ولكن إبسن سيضيف أن هذا الشبه عضوي أيضا . فعندما يلتقي جالمار بالسيدة جنا في بيتها ( بيت جريجرز ) وكانت من زمن طويل ( نحو خمسة عشر عاما ) تعمل في بيت أبيه ، يبادرها :
جالمار : … مساء الخير يا مسز إكدال ، لا أدري إذا كنت تذكرينني !!
جنا : طبعا ، ليس من الصعب تذكرك يا مستر ويرل .
جالمار : كلا . إني أشبه والدتي . وبدون شك أنك تذكرينها .
وإذا كان جالمار يذكر أنه يشبه ( في ملامحه ) أمه ، فإنه يرى الفتاة هدفج ستشبه أمها كذلك :
جالمار : إنها ستشبهك عندما تكبر يا مسز إكدال .
وبهذا ستكون الفتاة ( الضحية ) هدفج ، يقينا تشبه أمها ، أو ستكون ، واحتمالا ورثت ضعف البصر عن ويرل العجوز .
وهنا نشير إلى مستوى آخر من ” الوراثة ” لم يشر إليه ناقد ممن قرأنا تحليلهم لهذه المسرحية : إن الأمر ( الوراثي ) الواضح من الناحية النفسية هو مشابهة جالمار لأبيه الملازم إكدال ، هذا الملازم المغرم بالصيد في الغابات والمستنقعات ، وقد شارك ويلر ملكية في مصنع أخشاب فورطه في قطع أشجار من الغابة ، عدت سرقة ، حوكم عليها إكدال فدخل السجن وتحطمت حياة ولده ، في حين فاز ويلل بالمصنع ونمىّ ثروته ، وتشعبت علاقاته ونزواته على الطريقة المذكورة في المسرحية ، ونشأ جالمار مستسلما للأمر الواقع ، وفي أعماقه هاجس بأن والده برئ ، ويستحق ردّ اعتبار ، ويحلم بأن يردّ إليه اعتباره ، ولكنه لا يتخذ خطوة واحدة عملية في هذا الاتجاه ، بل يتقبل توجيهات ويرل وكأنها هدية بريئة أو مساعدة من صديق سابق لوالده ، فلا يخالجه شك في أسباب تداخل العجوز في خصوصياته. هذا المستوى في الشخصية التواكلية ، سهلة الانقياد ، سريعة الاستسلام للأوهام ، يلتقي فيه الأب ( إكدال ) الذي خدعه شريكه ، فاستسلم لمصيره ، وخرج من السجن محطما يتوهم صيد الطيور والأرانب في غرفة مظلمة بسطح البيت الذي يعيش فيه ابنه . وهذا التشابه موجود أيضا بين جريجرز وأبيه ويرل ، على الرغم مما يبدو بين مسلكيهما من تناقض ، فالرجل العجوز الداهية يحقق صبواته مع النساء لا يكفه خلق ولا يردعه عرف ، إنه يجد متعته في الثروة ، وفي العلاقات النسائية ، وقد ضحى في سبيل الأولى بصديقه شريكه في المصنع ، وضحى في سبيل الأخرى بالحياة الزوجية ، وبالشرف أيضا ، ولم يبال أن يخفي هذه العلاقات حتى عن ولده وزوجته . قد يبدو جالمار نقيضا لهذا ، لأنه “متدين ” أو متحرج أخلاقيا ، يؤمن بالحقيقة ، بالمثل الأعلى منذ كان صبيا يطرق الأبواب ليجمع الأنصار والتبرعات لخدمة جمعية دينية خيرية ( الكويكرز ) وهو – أيضا – في سبيل بلوغ غايته ، أي رفع لواء الحقيقة ، أو ما يظنه الحقيقة ، لا يبالي أن يحطم بيوتا ، وأن يمزق قلوبا ، وأن يدمي نفوسا ، وأن يوحى للطفلة البريئة ( هدفج ) بأن تقتل البطة البرية ، فما كان منها إلاّ أن أطلقت النار على نفسها !!
إن مبدأ الانحراف – أو على الأقل : مجافاة السوية الإنسانية – ماثل في الأب ويرل ، وفي الابن جالمار من حيث تسلط النازع الخاص ، والتركيز على الهدف دون اهتمام ” بقراءة ” آثاره على الآخرين مهما كانت درجة قربهم أو حرارة مشاعرهم . لقد اعتنق جالمار مبدأ ما يطلق عليه الحقيقة ، ويرى أن معرفة الحقيقة هي الجمال والسلام ، ويفرق بين الزواج الموفق والزواج الصحيح ، متخطيا صور التوافق إلى شروط فلسفية إيمانية ، ويرى أن ما عدا هذا إنما هو إيهام كاذب بالحياة . هكذا تصدى لسلوكيات أبيه الذي يعيش هذا الإيمان الكاذب بالحياة ، ( وإن لم يعبر عن هذا تعبيرا مباشرا ) إذ اغتال حق شريكه ( إكدال ) وتركه للسجن وما أعقبه من تحطيم حياته ، ليغتني هو ويستضيف على مائدته رجال الحاشية الملكية ، كما وزع خطاياه على من حوله ليحتفظ لنفسه بإشباع ملذاته، والتخلص من آثار جرائمه .. إنها صور من عدم المبالاة بالقيمة توصل إلى عدم المبالاة بالآخرين ، وهو ما بلغه ابنه جالمار : عدم المبالاة بالآخرين ، ولكن عن طريق التمسك الجامد بالقيمة ( الحقيقية ) وعبادتها وكأنها وثن لا يطلع على سره أحدا !!
ثالثا : يبقي الرمز ، وهو موضع اهتمام من نقاد هذه المسرحية ، ويعدّ استخدامه فيها علامة على أسلوب إبسن في مرحلته الثالثة التي تعد قمة مراحل إبداعه ، كما أن ” البطة البرية ” اعتبرت النموذج الأمثل لهذا الاستخدام ، وليس في هذا – فيما نرى – شيء من المبالغة ، فالرمز وهو البطة الجريحة برصاصة غادرة ، الملقاة جانبا ( لم تظهر البطة على المسرح ) رمز موافق إلى حد كبير ، وذلك لعدة أسباب ، وليس لسبب واحد :
أنها ” بطة ” مصابة في جناحها أو في رجلها ، وهو أن هذه البطة المصابة صورة معادلة لجميع الأفراد في المسرحية ، وليس في منزل إكدال وحده . لقد اصطاد هذه البطة العجوز الداهية ويرل ، وهو الذي أهداها إلى ضحيته القديمة : إكدال ، فضمها إلى غابته الموهومة . إن ويرل إنسان غير سوي ، عاجز عن مواجهة عيوبه ، عاجز عن استيعاب ولده ، عاجز عن تصحيح أخطائه وإن ظن غير هذا ، وليس ابنه ، وليست مسز سوربي ( قيمة البيت / العشيقة / التي تنتظر أن تتحول إلى زوجة ) بعيدين عن هذه الصورة العرجاء العاجزة ، على أن إهداء ( أو تصدير ) البطة إلى إكدال له دلالة ، واستفاضة الحديث في البيت حولها يرشح القول بأنها تجسيد رمزي لأفراد هذا البيت . (إكدال ،وابنه جريجرز ، وزوجة الابن جنا ، وابنتها هدفج ) إن كلا منهم يبدي عناية بالغة بالبطة العاجزة كأنما يرى نفسه فيها – في سياق مبكر في المسرحية ، حين التقى العجوز الداهية ويرل ، وابنه جالمار حاول الأب أن يسجل لنفسه – أمام ولده – مكرمة أخلاقية ( زائفة بالطبع ) وهي أنه يساعد أسرة شريكه القديم ، ولكنها – الأسرة – هي التي تعجز عن النهوض بنفسها ، يقول :
ويرل : ماذا تريدني أن أفعل بالضبط لمساعدة هؤلاء الناس ؟! قبل أن يطلق سراحه كان إكدال رجلا محطما لا تجدي معه المعونة . هناك أناس في هذا العالم يهوون إلى الحضيض بمجرد أن تصاب أجنحتهم ولا تقوم لهم قائمة بعد ذلك …
هذه الإشارة المبكرة لا تذكر كلمة ” بطة ” ، ولكنها تهيئ استقبال هذا التوصيف عن الشخصية غير المقاومة ، التي لا طاقة لها في مغالبة الصعاب ، فهي تمضي في طريقها ما كانت الوسائل ميسرة ، فإذا صادفت عقبة مما يمكن وصفه بأنه سقطة ، أو كارثة ، أو عقبة كأداء ، انهارت واستسلمت لمصيرها الذي سيكون مزيدا من السقوط حتى تستريح عند الحد الأدنى من الحياة ، حيث لا هبوط أكثر من ذلك . إن هذا ” الهبوط ” – على المستوى السلوكي والنفسي – متحقق في ويرل وابنه جريجرز ، وعلى المستوى العملي والنفسي أيضا متحقق – بطريقة أخرى – في إكدال وابنه جالمار ، وجنا ، وهكذا ستبدو هدفج ضحية، إنها الوحيدة التي بلا خطيئة ، ومع هذا فإنها التي ضحت بنفسها .
إن إبسن لا يريد أن ” يفاجئ ” جمهوره بشيء ، إنه يرتب الجزئيات بوعي ودقة، مثلما يفعل مزور أو لص محترف يحرص على ألا يترك وراءه أثرا يوقع به ، ولكنه ، ومهما طالت المراوغة – عادة .. يوقع به !! هناك إشارة مبكرة إلى السقوط الذي لا تعقبه محاولة صعود ، وهناك حوارات حول البطة شارك فيها أهم شخصيات المسرحية في مواقف مختلفة ، من أهمها هذا الموقف الذي يوشك أن يجمع الأفراد في مواجهة :
جالمار : … إني أرى طائرا يرقد في السلة
إكدال : أهم طائر
جريجرز : أليست هي بطة ؟
إكدال : ( وقد تألم بعض الشيء ) نعم ، من الجليّ الواضح أنها بطة .
جالمار : أي نوع من البط ممكن أن تقول ؟
هدفج : إنها بطة غير عادية
إكدال : صه
جريجرز : وهي ليست طائرا غريبا أيضا ؟
إكدال : كلا يا مستر ويرل ، إنها ليست طائرا غريبا ، إنها بطة برية … إنها بطتنا البرية يا صديقي العزيز .
هدفج : بل هي بطتي البرية ، إنها تخصني أنا ، وأنا صاحبتها .
سيستمر حوار هذا المشهد لنعرف كيف تم اصطياد هذه البطة ، وإصابتها وغوصها في الوحل ، وإنقاذ كلب العجوز ويرل لها ، وكيف انتهت إلى بيت إكدال ، ولماذا تعلقت الفتاة هدفج بها ، وتوحدت معها ، وحين تأزمت وصارت مثلها تماما ضحت بنفسها .
أما كيف أجرى إبسن تدبيراته الخفية ليجعل من انتحار الفتاة الغضة بإطلاق رصاصة على صدرها أمراً متوقعا ، ومفاجئا في نفس الوقت ، فأول هذه التدابير – حسب ترتيبها – في نص المسرحية : أن هدفج أبدت ارتباطا قويا بالبطة ( بل هي بطتي البرية / إنها تخصني أنا ، وأنا صاحبتها ) ص42 ، وحين ينفرد جالمار بهدفج فإنه يعود إلى حديث البطة ، فيسأل الفتاة :
جريجرز : هل تحبين أن تكوني هناك مع البطة البرية ؟
هدفج : نعم ، كلما تسمح الظروف – ص 55 .
ويطول الحوار بين الرجل والفتاة ( وأصبح يقترب من فكرة أنها أخته غير الشرعية وليست ابنة جريجرز ) فتحدثه عن ساعة متوقفة ، وعن مجموعة من الصور في كتاب وأول صوره صورة للموت مرعبة ، وساعة رملية وفتاة !! – ص 56 .
ويمتد الحوار بينهما أيضا ليعبر عن سقوط البطة بأنه سقوط إلى ” أعماق المحيط ” فتلتفت هدفج إلى غرابة التعبير ، وتسأله : لماذا تقول أعماق المحيط ؟ .. يمكنك أن تقول : قاع البحر !! – ص 58 .
وكأن أعماق المحيط هو المعادل للموت المرتقب ، وهذه نبوءة مبكرة . وبعد عودة أفراد أسرة إكدال إلى مجلس زائرهم جالمار تسمع طلقة ، هي أول طلقة في المسرحية – ص 60 – وهي آتية من غرفة السطوح ، وسيكون ختام المسرحية طلقة أخرى من المكان نفسه ، غير أن الطلقة الأولى كان إكدال يمارس وهمه الجميل بالصيد ، أما الطلقة الأخيرة فقد وجهتها هدفج إلى صدرها إذ لم تحتمل جفوة أبيها ، أو من تعتقد دائما أنه أبوها .. ولا ترى سببا لرغبته في ألاّ تكون معه في مكان واحد !! ، وفي أعقاب إطلاق رصاصة إكدال تعبر جنا (ص60) عن توقعها لحادث قد يصيب الجد ( إكدال )أو يصيب زوجها (جريجرز) !! وهنا يظهر المسدس الذي يملكه جريجرز وتطلع هدفج إلى الإمساك به ( مثل أي ناشئ تستهويه الغرابة ) وتحذير جريجرز لها من لمسه لأن به طلقات !! – ص61 وهنا تتكرر الإشارة إلى المسدس ، وكيف كان في يد إكدال ( الأب ) حين صدر عليه الحكم ، وأنه فكر في الانتحار ليهرب من معرة الحكم عليه كسارق للأملاك الحكومية ( قطع أشجار من الغابة تملكها الدولة ) ولكنه جبن عن مواجهة الموت في هذه اللحظة – ص 63 ، 64 .
إن انتحار صبية جميلة ، بريئة ، شعرت دائما بأنها موضع تدليل وحب من أسرتها ، بسبب أن والدها لم يعد يرغب في رؤيتها ، يظل محيرا ، لأنه لا يصلح أن يكون جزاء عادلا لخطايا الآخرين ..