قبل أن يجف ” ساق البامبو “

قبل أن يجف ” ساق البامبو “

قبل أن يجف ” ساق البامبو “

محمد حسن عبدالله

 

لهذه الرواية : ” ساق البامبو ” لمؤلفها سعود السنعوسي – جاذبية خاصة ، تمارس تأثيرها على عملية القراءة المتتابعة دون توقف ، وهذا مؤشر على عناصر التشويق في سرد حكاية هذا الفتى المتردد بين أصله الكويتي ، ونشأته في الفيلبين ، وقد شكلت عناصر التشويق روافد عدة ما بين فنون الفولكلور ، والأساطير ، والمفارقات ، والمصادفات [ القليلة في آخر الرواية ] وانقلاب المصائر وخيبة التوقعات . فإذا ما انتهت عملية التلقي مع طيّ الصفحة الأخيرة ، تصدرت رغبة صاحبت القراءة ، وهي ” واجب ” الكتابة ، لمن استطاع إليها سبيلا ، وهذا متحقق في اشتباكي مع الرواية ، موضوعا ، وتشكيلا فنيا ؛ فقد عشت في الكويت خمسة وعشرين عاما تنقلت فيها ما بين متوسطة حولي ، وأستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب ، فلعلي وجدت فيما سجّل الفتى من رؤى وملاحظات على طبائع وسلوكيات قطاعات أو طبقات من المجتمع الكويتي –ما يشعر مثلي – وأقصد: من يملك خبرة الملاحظة ودقة الوصف لها – بمدى ما فيها من صدق . على أن الرواية تنهض على سرد هذا الفتى ذي الأسماء المتعددة ( ولنصطلح على اعتماد ما أسماه به أبوه : ” عيسى ” ، على الرغم من صعوبة تعامله مع هذا الاسم في الكويت ، واستحالة التعامل به خارجها ) – لوقائع حياته ومعاناته . وقد حرص على     ” حضوره ” في كل فصول الرواية ، حضورا مباشرا بحيث تولى التقديم والوصف والتعليق على كل المواقف والحوارات والأفكار التي تداولها مع آخرين ، حتى تلك التي جرت قبل ولادته من أم ( خادم ) فيلبينية ، وأب كويتي تملكه نزعة إصلاحية تقدمية ، تصادم مستحقات الطبقة التي ينتمي إليها بمنطق القبيلة أو العشيرة ، وأحداث أخرى في طفولته المبكرة ، لم يكشف كيف عرف بها ، ولعله لو أجّل ذكرها إلى زمن عودته إلى الكويت ، وتمكنه من الإطلاع على كتابات أبيه الذي استشهد في الأسر إبان حرب الخليج الثانية ، لكان هذا المسلك ( الفني ) أقرب إلى إقناع القارئ بإمكان ما جرى على ذات الطريقة التي اختارها السارد ، بأن يكون حاضرا ، وساردا ( المتكلم الوحيد ) عن كل ما جرى ، باستثناء قليل من الرسائل التي تلقاها عبر  ” الانترنت ” من ابنة خالته التي تكبره بأربع سنوات ( ميرلا ) فكانت أكثر منه نضجا ، كما كانت صاحبة انتماء خالص لبلدها    ( مع أنها مجهولة الأب ، وإن دلت سحنتها على انه رجل أوروبي ) ، وهذا التوازي بين الولد الذي يعرف أباه ، وتستبعده بلاده ، وابنة خالته التي لا تعرف لها أبا ، وتحتضنها بلادها ، هذا التوازي يؤكد الاستعارة الأصلية التي كثفها عنوان الرواية ( ساق البامبو ) الذي لا يختص بأرض ، ولا يحن إلى وطن ، باستطاعة أي يد أن تقتطع ” عقلة ” ، وتغرسها في أية تربة ، وترويها بالماء ، لتضرب بجذورها وتستطيل ، دون طرح أية أسئلة عن الماضي أو المستقبل . لقد طاردت عيسى هذه الصورة ، وكان أثرها متناقضا، فهي في صالحه ، محفزة لسعيه وحلمه بالعودة لوطنه ، إذ لم ينشأ ( بالصيغة المألوفة الطبيعية ) على أرض الكويت ، وهي محبطة لسعيه إذ يجد عوامل الطرد أقوى من عوامل الاجتذاب ، وقد سيطرت عليه هذه الاستعارة زمن تطلعه إلى وطنه الحلم / المخلّص / الكويت ، ولكنها – بعد الإحباط ولم يجد بدا من العودة إلى وطن أمه – ساقته إلى استعارة أخرى ، لا تناقض استعارة العنوان وإنما تتحفظ عليه ، وهي أن ” النباتات الاستوائية لا تنمو في الصحراء ” !! .. وهذه الاستعارة الأخيرة تنطوي على شك وحزن دفين ، وتمهد لعزاء اليائس ، إذ عدّ نفسه نباتا استوائيا غريبا على الصحراء غير متقبل لها ، أو هي غير متقبلة له . ومع هذا ترك الباب مفتوحا ( على مصراعيه ) لعودة ثانية، بغض النظر عن مشهد فرحه بهدف التعادل الذي سجله فريق الكرة الكويتي في مرمى فريق الفيلبين ، فهناك ما هو أقوى دلالة على احتواء الماضي : ( قارورة بها تراب أخذه من قبر أبيه الشهيد الذي لم يره ) واستنبات المستقبل ، وقد تزوج ابنة خالته ميرلا ، وسمّى ولده منها على اسم أبيه ( راشد ) !! وبهذا تبقى الرواية نصا مفتوحا قابلا لجزء جديد ، بل أجزاء ، تتعقب فرع ” الطاروف ” في شرقي آسيا . وإذ نرجح أن اسم الأب    ( راشد ) فيه انحياز إلى الرشد والرشاد فإن حمل الحفيد لاسم الجد الشهيد تصميم على استبقاء الرشد والحفاظ عليه ، كما انه يحافظ على تقليد خليجي متأصل ، هو تسمية الابن البكر على اسم جده !!

يسلم تعدد العتبات ( الإهداءات ، والاقتباسات ، والتقسيم إلى أجزاء لكل منها عنوانه ، واقتباساته ) إلى غزارة المخزون المعرفي وسعة إطلاعه ، ولم يكن هذا وقفا عليه ، فقد نافسته ابنة خالته ميرلا ، بخاصة فيما يتعلق بتاريخ الكفاح الوطني للفيلبين ، ثم نافسته في الكويت أخته ” خولة ” التي شاركته صراحة التشريح للتقاليد الضاغطة المتحجرة في التقسيم الطبقي للمجتمع الكويتي ، ورفضها الواضح لفضائل ” أبناء الأصول” ، وقد ورثت نزعة أبيها راشد ، واتجاه خالتها هند ، التي أفضت بدخيلة نفسها في حفل انتخابي إبان ترشحها لمجلس الأمة ، إذ رأت أن بعض ” البدون ” يستحق الجنسية ، كما أن بعض من يحمل الجنسية لا يستحقها ، فكان هذا سببا كافيا لسقوطها !!  في الرواية سمة أخرى مهمة ، وهي مراوحة موفقة إلى حد يثير الإعجاب بين الحرص على الطابع التسجيلي ، وعدم الالتزام بضفافه ، بما يعني تجاوزه إلى التكوينات الدرامية المنتقاة بتتابع يحقق المتعة الجمالية التي تستعلي على الرغبة في تحصيل المعلومات ، وتظل قريبة جدا من هذا الطابع التسجيلي !!

مع الفارق : استدعت الذاكرة ” يوميات نائب في الأرياف ” لتوفيق الحكيم ، فمع إيحاء التقسيم إلى يوميات ( منصوص عليها في العنوان الرئيسي ) تراجع الاهتمام برصد ما يمكن عده من غرائب ومتاعب مهنة ” وكيل نيابة ” في الريف المصري ، وحل مكانه الدهشة لغرائب الأحداث وخصوصية الشخصيات المشاركة في صنع الحدث ، سواء من الريف ( الشعب ) أو ( النيابة والقضاء ) أو ( الإدارة : المأمور وجنود الشرطة ) . إن سعود السنعوسي مضى في هذا الدرب مع فارق أساسي : أن الحكيم اكتشف مبكرا خاصية ارتكازه ، فاستسلم لنقطة الإضاءة في صناعته : الحوار . ولهذا آثر فن المسرح، أما السنعوسي ، الذي حرص دائما على توثيق وقائع روايته بتسجيل تواريخ قريبة لزمن القراءة ، ومن ثم دقق في تطابق ما تنطوي عليه مع وقائع الزمن الخارجي ، فإنه – على النقيض من توجه الحكيم – ظل قابضا بقوة على تنمية أحداث سرديته في وفاق دقيق وواقعي مع معطيات الخارج ، دون أن يغادر ” البناء الجواني ” الذي آثر أن يكون خاصيته أسلوبية في كتابته ؛ فتعقب الشخصيات ، أيا كانت درجة أهميتها أو موقعها في السياق الروائي تعبر عن عالمها الداخلي ، خوالجها ، ما تراه صوابا ، ولو أنها ” امتحنت فيه ” ما تراجعت عن مقولتها والدفاع عنها إلى آخر مدى ممكن ، وهذه الصفة أسبغت على ” ساق البامبو ” مسحة وجودية ، ظاهرها ( بالتأييد ) موروث الفيلبين الوطني وروح التسامح السائدة ، وأظهرتها ( بالخذلان ) طبائع المجتمع الكويتي الخاضع للضوابط والضواغط !! يمارسها على نفسه ، كما يمارسها مع الغرباء !!

لم تكن ” يوميات نائب في الأرياف ” الأقرب حضورا ، لتباعد الموضوع – على الأقل – فهناك أعمال إبداعية ، وأشخاص مبدعون أخذوا مكانا في السياق : إن تأثير إسماعيل فهد إسماعيل ( الروائي الكويتي الكبير ) له حضور بازغ ، يتجاوز عتبة الإهداء في صدر الرواية ، كما يتجاوز الدعم ” الروحي ” الذي قدمه للسيدة جوزافين وابنها إبان محاولات الاستدلال علي مصير الأب . إن التغلغل إلى ” جوهر صناعة الرواية ” هو مساحة التشابه ، سواء في المغامرة الوجودية الماثلة بقوة في محاولات إسماعيل المبكرة : ( كانت السماء زرقاء – المستنقعات الضوئية ) ، وقد دلنا إسماعيل – في محاضرة ألقاها على طلبة الليسانس بقسم اللغة العربية بدعوة مني – منذ نحو ثلاثين عاما – على جانب من أسرار صناعته ، إذ ذكر أنه يكتب ” مسودة ” الرواية في سياقها الزمني الطبيعي ( وبهذا يتخلص من عبء الحكاية ) ، ثم يقوم بحذف المائة والخمسين صفحة الأولى ، تلك الصفحات التي تكون – عادة – مثقلة بالأوصاف ، وبطيئة الحركة ، من ثم تبدأ السرد بأحداث هي قرب نهايته ، غير أنه يضمّن الجزء الذي استبقاه فقرات مما سبق له حذفه ، يقطع بها السياق ، فتكون في صيغة / تقنية الاسترجاع ، وبهذا تتخفف الرواية من أثقالها ، وتكتسب حيوية إضافية بحركة الزمن فيها ، وما يضفي الاسترجاع من كشف يمكّن للحادث ( الراهن ) وجذوره السيكولوجية . في هذه الرواية    ” ساق البامبو ” لم يلجأ السنعوسي إلى تقنية الحذف والتقطيع والإضافة ( التي مارسها إسماعيل برشاقة ومهارة أدهشت صلاح عبد الصبور – الشاعر الكبير – حين كتب مقدمة ” كانت السماء زرقاء ” ) . بدأت أحداث عيسى مروية حسب تتابعها الزمني ، منذ قبل ميلاده ، ونادرا ما قطع السياق ( التتابع الزمني ) ولكن   ” القطع ” مورس في المواقف المفصلية ، وكأنه ” ما منه بد ” ، إذ كان يرتبط ببدء فصل جديد ، هو – بطبيعة فن الرواية – يعبر عن ” نقلة ” زمانية أو مكانية ، أو هما معا !! ، ولعله – مما يجب ذكره – أن هذا النمط من تقاطع الانسياب الزمني ارتبط بنشاط فرويد( توفي 1939 ) ومقولاته في اللاشعور والتداعي ، وانعكس في آثار جيمس جويس( توفي 1941 ) وفرجينيا وولف ( توفيت 1941 ) وأضرابهما من المغيبين بالرواية السيكولوجية .

وقد تضمنت ” ساق البامبو ” إشارة إلى : ” أليس في بلاد العجائب ” ثلاث مرات   ( في الصفحات : 71 ، 144 ، 170 ) ، ولم تكن هذه الأمثولة الأسطورية هي الوشيجة الوحيدة بعالم الأساطير ؛ أو بعصر الأساطير ، ففي الرواية أساطير هي حكايات شعبية ، مثل حكاية تشانج البوذي عن سر الهيئة الخاصة التي نجد عليها ثمرة الأناناس ، وهي أساطير / حكايات هدفها تهذيبي . من البدء ومن الواجب أن نعترف لهذا المؤلف ( سعود السنعوسي ) بأنه يملك ثقافة متنوعة ، والأهم في هذا : يعرف متى وكيف يدمجها ، ويوحدها في سبيكة سرده ، من هنا يمكنني الإفضاء بشعور خالجني في غير موضع من هذه الرواية ، ” يظن ” أن هذا المشهد – هذا الحدث ، هذه الشخصية متأثرة برواية ما ، ولكن من المقطوع به أن هذه الرواية – المزعومة ، المؤثرة ، لم تكن شاخصة بذاتها في    ” فكرة ” المؤلف تلك اللحظة التي مارس فيها الكتابة : حدث هذا بالنسبة لرواية ” الأرض الطيبة ” لبيرل باك ، وربما كان مصدر هذا الاستدعاء أن طبائع الصين وقطاع من الفيلبين متقاربة أو متفقة ، وقد يضاف إلى هذا : تلاعب القدر بمصائر بعض الناس ، صعودا وهبوطا ، أو العكس ، كما دل تحليل معنى : ” الطاروف ” ، بما يعني هوان المكانة قديما، وغرور الأصالة حديثا . كما حدث هذا في المشهد الذي التقى فيه عيسى مصادفة ، ( وهي المصادفة الوحيدة في رواية طويلة محكمة البناء على قاعدة اعتنقتها الأم الفيلبينية جوزافين ومكنت لها في وجدان ولدها ، وهي أن ” كل شيء بسبب ، ولسبب ” ، وقدر ترددت هذه العبارة من جوزافين ، ثم من ابنها الكويتي أباً – غير مرة ، بما يؤكد أصالة البناء الكلاسيكي ، القائم على مبدأ السببية ، وهو – في ذات الوقت – الذي يمنح الرواية سمتها الواقعي مع أمشاج أخرى سنشير إليها ) التقى في فناء العمارة التي يقطن بها ، بذلك الشاب الكويتي الذي سبق أن التقى به في إحدى مزارات جزر الفيلبين ، ورآه – مع جماعته يرقص ويعزف ويشرب .. هذه المصادفة المجنونة ، كما وصفها ، والرقصة الحركية التعبيرية التي مارسها مشعل وعيسى في مدخل العمارة بكل تفاصيلها ، منقطعين عن الشعور بالعالم ( الرواية ص 345 ) ، استدعت مشهد ” زوربا” حين انطلق أنطوني كوين – في الفيلم – يرقص ، مستعليا على مشاعر الخيبة وتهديد الضياع ، وقد يعيدنا هذا المشهد نفسه إلى موقف موازٍ في رواية “المستنقعات الضوئية”، فقد ذهب السجان وسجينه إلى السينما لمشاهدة فيلم زوربا ، ليقرآ في شخصية المغامر اليوناني لوعة أن تكون مختلفاً ، وأن تسبح في بحر تصوراتك الحالمة ، المثالية ، عن الحياة والناس ، غير أنك تكتشف عند أولى خطواتك ، أن ما تراه من تصور للحياة لا يلزم غيرك !! ولهذا تكتشف أنك تسير وحيدا ، في حين تظن أن كل الناس معك ، لأنه ينبغي عليهم أن يكونوا معك !! .. وهنا نذكر أيضا أن خولة – أخت عيسى – قد وضعت أمامه عبارة لماركيز ، وقد استوعبها دون سؤال ( ص257 ) بما يعني أنه في مستوى الإشارة !!

هل هذه ” قضية ” عيسى الأساسية ؟ بعبارة أخرى – من منظور نقدي – هل كان هذا هو المدخل الطبيعي إلى عالم الرواية ؟ وهل نفعل هذا – لو أنا فعلناه – لما في شخصية عيسى بكل ما يمثله من خصوصية وطرافة – أم أنه العنصر الأساسي الذي       ” يروي ” قصته فيحقق بطريقته المختارة وحدة النصّ وتماسكه ؟ إن المكونات الكلاسيكية، والواقعية ، والرومانسية ، والرمزية وحتى التعبيرية ، حاضرة في هذا التشكيل الفريد للنسيج القصصي . هذا ما أراه حقيقة حتى وإن سبح عكس تيارات النقد الحداثي السائد . بدرجة ما قد نستعيد بعض سمات روايات نجيب محفوظ ذات الأفق القدري ( المصير التراجيدي ) ، وعلى سبيل التقريب ، كم درجة يختلف أو يتفق عيسى مع صابر الرحيمي ( رواية الطريق ) في تصارع الأمومة والأبوة في كيان الفتى المتطلع لاكتشاف مصيره ؟! وكم مرة يتفق أو يختلف عيسى مع قنديل العنابي ( رحلة ابن فطومة) : ( اليتيم أيضا – وإن خاض حيوات الدنيا نأيا عن العودة إلى أمه التي اقترنت بغير أبيه ) وقد تنقل بين طبائع شديدة التباين ، وعاش بين جماعات تتباعد درجات تقبلها له ، كما تختلف درجات انصياعه لها . وتبقى ” نكتة ” أو قطعة من عمق الضمير مشتركة بين قنديل العنابي ، وعيسى راشد ، وهي استدعاء مقولات الإسلام ، الذي نشأ ، أو يفترض أنه نشأ عليه ، في حين يعايش ما يتداخل معه أو يناقضه . ولكي لا يستدرجنا سحر ما في ممارسات ابن فطومة ، وابن جوزافين من غرائب العقائد والطبائع ، نقصر عنايتنا بعيسى وحده ، ولهدف محدد ، هو ما يمكن أن نطلق عليه : ” عناصر التماسك النصّي ” ، ومع معرفتي بأبعاد هذا المصطلح البلاغي / النحوي المشغول بآليات علم المعاني غالبا وأدوات الفصل والوصل أحيانا ، وأن هذا الاستخدام الخاص من جانبي قد لا يروق لبعض محترفي النقد (وأنا لا أكتب لهم) فإنني استعيض بالتماسك النصّي عن      ” الحبكة ” التي تحتفي بالسببية دون غيرها ، أو أكثر من غيرها ، في حين أن التماسك النصّي ينطوي على مرونة ، واتساع في التنوع ، وبعد تاريخي هو في صميم النقد النصّي . فلنقل إذا إننا نعنى بالتنوع التقني الذي يجدد لدى المتلقي نشاطه في التفاعل مع النص والاقتناع بأنه ” الواقع ” أو ” كأنه هو ” على الرغم من تباين المكونات . وهذا ما نلحظه بقوة في تجربة / حياة هذا الفتى ( عيسى ) الذي يمكن أن تعد حياته بمثابة       ” مفارقة ” كبيرة ، استوعبت في داخلها عديدا من المفارقات ، دون أن يشعر المتلقي بأثر التدبير أو استدراج عيسى نفسه لوضعه أمام مفارقة لا يلبث المتلقي أن يحتسبها ” ضربة جزاء ” لصالحه . المفارقة الكبيرة التي لم يصنعها عيسى وإنما وجد نفسه في حومتها دون أن تكون له يد في صنعها ، أنه كويتي، بقوة الطبيعة وقوة القانون ، ولكن أحدا ممن بيدهم الموافقة أو الإنكار لا يريد أن يمنحه هذا الحق الطبيعي . مشكلته أنه ، كما يعترف هو بها ، ولا يعترف بشرعيتها أنه ” كويتي لا يشبه الكويتيين ” ( الرواية : ص 315 ) وحتى المشفقين عليه المتعاطفين معه الواثقين من حقه في إعلان الانتماء للكويت نصحوه : ” لا تفكر بالسفر إلى هناك بصفتك هذه “( الرواية : ص 162 ) وقد تنحل عبارة ” بصفتك ” إلى أحد احتمالين : بهيئتك هذه ( من حيث الشكل) أو بإعلان أنك ابن رجل كويتي !! . إن حياة عيسى في سيرورتها وصيرورتها محكومة بهذه المفارقة الكبيرة ، ولعل أشد فجائع حياة عيسى وجعا موقفه في ” طابور ” مواطني دول مجلس التعاون ، حين عاد توا إلى وطنه ووقف أمام شباك منفذ الدخول في المطار ، لقد نهره موظف الشباك ولم يكلف نفسه عناء رؤية جواز السفر ( الكويتي ) : ” رفض وجهي قبل أن يرى جواز سفري ” ( الرواية : ص 186 ) وهذه سخرية لاذعة ، وإن كان لها ما ( قد ) يبررها ، ولو في جانب منها !!

من المهم جدا ، في تعقب عناصر التماسك النصّي ، وتتبع المفارقات أنها ارتبطت غالبا بالفترة الزمنية ( لمدة عامين ) التي قضاها في الكويت قبل تسليمه بالخذلان وخضوعه لضغوط عماته وتصنيفات المجتمع ، ومن ثم العودة إلى بيت ميدوزا ( جده الفيلبيني ) مرة أخرى .

  • أول مفارقات الفترة الكويتية حدثت عند ولوجه بيت من هي جدته ، وكان بصحبة غسان – صديق العائلة :

” تبدو وكأنها ممرضة ، ضغطت على كتف غسان بكفّي ، طرت فرحا حين رأيت وجهها يشبهني . سألتها بفرح :

– فيلبينية ؟

استدار غسان ، رمقني بنظرة استنكار :

– عيسى ! .. إنها خادمة ! ” ( الرواية : ص216 )

  • وحين رأى الاختلاف – إلى حد التناقض – بين استجابة أو عدم استجابة عمته نورية ، وتعاطف عمته هند معه ، تساءل :

” كيف يخرج الدلفين وسمكة القرش من رحم واحد ؟ ، فهذه المفارقة فاجعة !!( الرواية : ص20 )

وتكتمل هذه المفارقة الثانية بأن عمته هند ، التي عانت خيبة الرجاء في حبها لغسان ، لأنه ” بدون ” مع أن إخوته يحملون وثائق الجنسية ، اتجهت إلى أن تكون ناشطة في مجال حقوق الإنسان ( الرواية : ص223 ) هذه العمة سكتت عما لحقه من هوان واحتقار مع تسليمها بحقيقته .. وحقه !!

  • وحين اصطحبه غسان مبشرا له ” بأنك سوف تذهب لتعيش في منزل جدتك ” تهلل سعادة ، ولكنه – بعد أن عاين المساحة العامة الراقية في البيت ، ساقوه إلى الانزواء في ملحق المنزل ، حتى لا يكشف سره !! مع أن الجدة ، والأخت من بعدها قد اعترفتا بأن صوته هو صوت والده راشد ( الرواية : ص226 ، 233 ، 248 ) ، وكما هو معروف فإن ” الملحق ” مكان سكنى من يقومون بالخدمة ، وهذا مذكور بالرواية ، على أن هذا ” النبذ ” الجزئي ، أو المرحلي مقدمة للاستبعاد إلى الإقامة المنفردة في سكن خاص ، وهذا بدوره قد أدى إلى مطالبته بالرحيل !!

إن حال ” عيسى ” مع أسرة الطاروف – من علم بأمره منهم ، وتستثني أخته خولة ، وعمته هند بدرجة أقل ، من حيث التسليم بالأمر الواقع ، دون الرضا به ، فضلا عن المحبة – التي هي حق طبيعي له – هذه الحال تذكرنا ” بالولد المعوّق ” في مثل هذه المجتمعات المبنيّة على التباهي بالقوة المادية ، والسلطة ، ( قد ) تتقبل الطفل المعوق بما هو قدر ليس من التعامل معه بد ، ولكنها تحرص على إخفائه أو تجهيله ما أمكن ، لا تسلم بوجوده إلاّ مكرهة ، فهو بحاجة مستمرة إلى ” معجزة ” كي يمارس حياة في الحد الأدنى للممكن !!

  • وتبدو مفارقة أخرى بين قبوله عضوا في بيت الطاروف والرغبة في تغييبه ، بصفة خاصة، حين تذهب الأسرة إلى ” الشاليه ” على شاطئ الخليج ، ويفترض أن هذا يحدث إبان العطلة الأسبوعية بقصد الاستجمام والتمتع بمشهد البحر ، ولكن الأسرة التي لا تأمن لعيسى أن يبقى في البيت منفردا دون رقابة ولو مفترضة ، ولا تريد لزوارها أو أصهارها أن يعرفوا حقيقته ، تصحبه وتفرض عليه السجن الانفرادي في غرفة ملحقة بالشاليه في الاتجاه المعاكس للبحر !! . ” لم يكن مسموحا لي بدخول الشاليه أو الاقتراب من البحر ، خصوصا إذا كانت نورية موجودة . كانت رحلتي الأسبوعية إلى الشاليه تشبه الذهاب إلى السجن ” . كان الموكب العائلي من سيارتين ، وكان موقعي في سيارة الخدم !! ( الرواية : ص245 )
  • وبعد أن أضمر عيسى ، واتجه إلى التنفيذ ، أنه سوف يعيش في الكويت كأي فيلبيني مغترب يكابد لتحقيق أحلامه ، من ثم عمل بمطعم من مطاعم الوجبات السريعة ، اعترض آل الطاروف ومنهم جدته ، لأن هذا يلحق العار بهم ، في حين أن هذه الجدة نفسها قبلت أن تضحي بكرامته حين طلبت منها جارتها أم جابر بصفته خادما – أن يقدم الشراب لضيوفها ، فتسامحت الجدة في ذهابه ، وقد جاء الإباء من جانبه . ( الرواية : ص330 ، 331 ) .

هذه أهم المفارقات التي مارستها أسرة الطاروف في اتجاه إخفاء عيسى والتبرؤ منه ، مع يقينها بأنه منها ( بصمة الصوت أقوى من بصمة الإبهام ) ، وهي – على تنوعها – ترجع إلى أصل واحد ، هو رغبة التباهي بالأصالة ، التي تعني أن الدم الكويتي يعلو ولا يُعلى عليه ، وأن الناس ليسوا سواسية ، ولا تقاس مقاديرهم بما حصلت أشخاصهم ، بل بما زعمته الجماعة لهم من خصوصية لم يبرهن عليها .

في القسم الأخير من الرواية عبارة رددها عيسى بعد أن تراجعت علاقته بأهل بلده ( الكويت ) وانغمرت بأهل ( بلده !! ) : ( الفيلبين ) تقول : ” وجودي في الكويت جعلني أتعرف على الفيلبينيين بشكل أوضح ” ( الرواية : ص360 ) – هذه العبارة ذات نزوع فلسفي ، وهي ليست خاصة بأهل الفيلبين ، هي عامة بجميع أمم الأرض ، حيث تكشف    ” الغربة ” عن جوهر طبائعها ، ولو أن عيسى كان أقل شعورا بالخذلان ، أو كان آل الطاروف أقل شعورا بمعرة ما صنع ولدهم الشهيد راشد ، ( وقد تزوج زواجا شرعيا من الخادمة جوزافين ) لفطن إلى أن مجموعة الشباب الذين شاركهم الرقص والغناء واعترف لهم بأنه من أب كويتي ، كيف داعبوه ، وأحبوه ، وأكرموه ، وحين التقى بهم في الكويت – بعد عامين – لم يتنكروا له ، بل أدمجوه في مجلسهم ولعبهم وأخلصوا له النصح ، وقد لا ننظر إلى هذا الجانب على أنه يخص ” الكويتي ” حين يغيب عن أرضه ، بقدر ما هو من طباعه حين يتحرر من ضغوط مجتمعه المغلق .

هذه أهم مفارقات المرحلة الكويتية ، باستطاعتنا أن نعدها مصادر القلق الروحي المنبعثة من مجتمع يعاني هذا القلق نفسه ، ويمارسه كل قادر على من دونه . في حوار مقتضب مع أخته ” خولة ” وقد أراها عددا من مناظر الحياة في الفيلبين ، سألها : ” – قبائلنا مشهورة بزراعة الأرز ، بم تشتهر القبائل هنا ؟ أجابت من دون تفكير : بأكل الأرز ” !! ، وتمضي به شطحات ذهنه البناءة ، إلى المقارنة بين زارعي الأرز ، ومستهلكيه ، فيقول: ” تذكرت الفيلبين ، ترى لو كانت الحياة في بلاد أمي بالسهولة التي عليها في بلاد أبي ، هل سيتفرغ الناس لهذه التصنيفات ؟ هل يكون للفقر ميزة لم نكن نشعر بها ؟ شيء معقد ما فهمته في بلاد أبي . كل طبقة اجتماعية تبحث عن طبقة أدنى منها تمتطيها ، وإن اضطرت لخلقها ، تعلو فوق أكتافها ، تحتقرها ، وتتخفف بواسطتها من الضغط الذي تسببه الطبقة الأعلى فوق أكتافها هي الأخرى ” . ( الرواية : ص278 ، 279 ) . وهذا – للمرة الثانية بعد موضوع أن الغربة كاشفة .. إلخ – تخصيص لما هو عام ، والتخصيص – هذه المرة – في غير صالح الكويتيين ؛ لأن هذا التراتب التنازلي أو التصاعدي مرتبط بالتصور الماركسي للمجتمعات التي يحدد فضائلها انتماء الطبقة وليس إمكانية الفرد ، وإذا أعدنا تشريح العلاقات الطبقية في كافة أقطار الوطن العربي سنجدها تعتمد هذا الشعور بالتمايز تبعا للنسق الاجتماعي السائد ، فيتراجع مع تراجع التقسيم الطبقي ، وينمحي بانمحائه ، وسيادة الأسرة النووية ( الأسرة الصغيرة ) والاحتكام إلى الاستعداد الذاتي .

لم تكن أيام عيسى في وطن أمه – كما يدعو الفيلبين – خالية من عوامل القلق ، ولكن لأسباب مختلفة ، في مقدمتها ما ملأت أمه وجدانه به عن الثراء والرخاء الذي ينتظره إذا ما تمسك ” بحلم ” العودة إلى وطن أبيه ، فالفجوة بين الحلم والممكن تصنع التوتر وتستديم حالة انتظار لا يرى لها حدا تقف عنده . وهذه مسألة شخصية بحته . أما ما يتصل بالمجتمع ، فنستطيع أن نميّز محورين : الحياة اليومية وما يتصل بها من السعي للعمل واكتساب الرزق ، والحياة العامة في مستوى الاعتقاد وممارسة الشعائر . وهذان المحوران هما عماد الوجود الإنساني ، وهما لا يمثلان أي مصدر للكدر أو الخوف، إذ كان – بالنسبة للعمل – يجد دائما ما يفعله ، ومن يعاونه ، وكان يتقلب بين الأعمال صعودا وهبوطا ، وحتى مزيدا من الهبوط دون أن تمتحن إنسانيته أو يشعر بأنه مطارد ، كان يستطيع أن يحقق التوافق حتى وهو يقيم مع ” بوذي ” في غرفة واحدة ، وقد يحمل التأريخ الفيلبيني ما يدل على التجربة الحضارية ومرونتها ، حتى ينصحه خاله المحسوب على العامة ، والمتبطلين ، بمقولة : ” حسّن علاقتك برب العمل وبربك ”       ( الرواية : ص132 ) . ويمكن القول إن العمل المتاح لأمثال عيسى قد يكون شاقا أو شحيح الأجر ، ولكنه لم يشعره بالهوان الإنساني وما ينتجه من تضييق الخناق إلى حد الحصار . وفي المحور الروحي – على مستوى الفيلبين ، كما على مستوى عيسى بذاته- تعايشت الأديان السماوية والأرضية دون أن تمارس التشهير بالآخر أو تحض على تكفيره ومعاداته . ( وهنا أغفل عيسى – ولعله عمد إلى هذا – الإشارة إلى معاناة الأقلية الإسلامية في مندناو ، والحرب التي – ربما – أجبرت على خوضها – دفاعا عن دينها ووجودها . الطريف أن مندناو تتراءى له في الحلم ( الكابوس ) وكان يضحى به مقيدا ، وأن عمتيه: نورية وعواطف يضغطان عليه ليسهل نحره ، وكانت جدته تشاهد دون أن تهب لمعاونته، وكان زوج عمته هو الذي يمارس ذبحه !! حدث هذا الكابوس في الكويت. وفي بناء الحلم نوع من الإسقاط ، وفيه تجميع مستبعد – يناسب لغة الحلم – في الزمان والمكان والأشخاص ( الرواية : ص267 ) .

 

أما ما يخصّ عيسى بذاته في الفيلبين فإنه صلى أمام تمثال العذراء ، كما صلى أمام تمثال بوذا ، دون أن يعاني شيئا من التمزق وطرح الأسئلة المؤدي إلى الحيرة والانقسام النفسي ، وكانت هذه الحالة إحدى لمحات وعي المؤلف بالصورة المتخيلة للشخصية الرئيسية في روايته ، فقد كان عيسى يجتاز فترة المراهقة مشغولا بطلب الرزق لا يملك ترف التساؤل ، ومنهجية المقارنة ، لأنه من بيئة محدودة العناية بالتعليم، معدومة التفكير في النظريات ، لا تعرف شيئا عن الإسلام ، ولأنه – عيسى – كان في شعوره يرى أن التسامح بلا حدود هو الذي يمكن أن يوجد له ” ثغرة ” ينفذ منها إلى المجتمع الكويتي . غير أنه – في الكويت – في ليلة الحلم / الكابوس ، تنبه على نداء الفجر : ” الله أكبر ” فكان سؤاله : ” ماذا عن روحي ؟ وهكذا انفتح باب التساؤلات ، فاستجدت علاقة ترتب عليها مفارقات ، إذ ظهر ” إبراهيم سلام ” الفيلبيني المسلم ، الذي اختير اسمه مترجما لرواية تساق بقلم فتى كان من أسباب فشل سعيه للاندماج في الحياة الاجتماعية والوظيفية في الكويت أنه لم يعرف العربية ، ولم يستوعب خصوصية اللهجة الكويتية ، فقد برهنت حياة ” عيسى ” أن اختلاف اللغة ، وغياب اللهجة هما الغربة الحقيقية ، وأن الاختلاف في الدين أو المذهب من الممكن القفز فوق حواجزه أو تحجيمه على أمل تغييره في زمن محدود ، وربما في حركة خاطفة ، بخلاف اللغة واللهجة ، وتحتاجان إلى رغبة حقيقية ، وصبر ، وزمن طويل ، مع استعداد خاص . وقد كانت     ” المفارقة ” الأخيرة الأشد حدة التي واجهها عيسى في فترته الكويتية أنه كان يختزن في تجربته الإسلامية المحدودة وجهين متناقضين للإسلام ، إذ تدل الصورة الذهنية على نقيض ما يستنتج من الممارسة الحياتية في بعض مناطق تعلن أنها تمثل الإسلام         ” الأصلي ” ؟! في جعبة عيسى صورة عن إسلام سلطان جزيرة ماكتان ( لاپو – لاپو ) الإنسانية المتسامحة ، وصورة تناقضها يمارسها أحد أمراء حرب أفغانستان ( أبو سياف وجماعته الممتدة إلى مندناو ) ، هذه مواجهة / تناقض في المكان ، أما في الزمان فالتناقض بين ” الإسلام ” كما يبرزه فيلم ” الرسالة ” والإسلام كما يتصوره من قتلوا      ” العقاد ” مخرج الفيلم !!

 

من المهم أن عيسى – عبر ممارسته الحياتية الكويتية – قد وجه نقدا حادا للطبائع الاجتماعية المتفشية لمكتسبات طبقية ، وهذا متوقع لأن أزمته / التضحية به كانت تستمد صلابتها من هذا الظهير الطبقي ، بعكس ممارسته الحياتية في الفيلبين ، وكانت أطول زمنا ، وكانت تطال كل أفراد الأسرة ، ولكن ليس من منظور الطبقة ، بل من واقع المعاناة العامة . وهذا على نقيض الجانب الأخلاقي / السلوكي ، فلم يذكر عيسى عن عماته أو أزواجهن انحرافا واحدا ، في حين كانت الوصمات تطارد خاله ، وخالته ، وابنة خالته ، وبوجه عام لم يكن الانحلال بممارسة الدعارة ، والمثلية الجنسية بين ميرلا وصديقتها ماريا يثير انتباها – فضلا عن الاشمئزاز ، توحي به أوصاف عيسى في هذا الاتجاه ، من ثم لم يمنعه من الزواج بها !!

مهما يكن من أمر فإن هذه الرواية ذات الومض المركب في طبقات وألوان ، لا يمكن اختزالها في المقابلة أو الموازنة بين مجتمعين ( الفيلبين والكويت ) أو محورتها حول ” نظرة الكويتيين إلى الخدم الآسيويين ” ، أو إسقاط تجربة عيسى على معاناة       ” البدون ” ، إن مستوى وصف الأشخاص والمواقف ، في البلدين ، وسير الطبائع والأخلاق ، والإحاطة بنقاط التوتر في المرحلة الراهنة التي تجسدها أحداث الرواية ، تفرض ” تعددية ” التوصيف والتفسير للنص ، فهي رواية نفسية ، تحتفي بعناصر الوراثة، وتشكيل المكان لأخلاق المقيمين به ، وهي رواية واقعية باتخاذها الصراعات الطبقية ، والفوارق المادية ( ألاعيب رأس المال بصغار العمال ) وحتى نهايتها المعلقة الأقرب إلى التشاؤم ، وهو رواية رمزية ، إذ نهض بنيانها على محاولة استنبات عود البامبو في صحراء الجزيرة ، ولم يكن هذا الرمز الاستعماري هو الوحيد في الرواية ، وإن يكن الأكثر اكتنازا للقضية ، فهناك رمز ” السلحفاة ” – وهي حيوان صحراوي يعيش في المناطق الحارة ( غير أنها ماتت أيضا !! ) ، وهي رواية أيديولوجية تناهض العولمة، وتحبذ خصوصية الانتماء ، .. وهي رواية ” وجودية ” ، لا تنحصر وجوديتها في شخصية ميرلا ( كما تبدو في صفحتي 117 و 131 بصفة خاصة ) بل تتخطاها إلى عيسى ( الشخصية المحورية ) الذي ورث عن أبيه أهمية أن تكون مثقفا ، يمثل         ” الإدراك ” عندك حدا لحمل المسؤولية والثبات في المواقف ( نراقب حالات التقابل الضدي بينه وبين أخيه أدريان – لاحظ تناظر الدلالة وتناقضها – بين عيسى وأخيه لأمه الذي أصيب بتخلف عقلي في طفولته بسبب إهمال رعايته ) ، كما أن مجموعة الأصدقاء الخمسة لم تستطع ممارسة لعب الورق على الطريقة التي تناسبهم ( كوت بوسته ) حتى انضم إليهم عيسى ، فاكتمل عقدهم !!

وقد سبقت الإشارة إلى تلاقي المدارس الأدبية في هذا التكوين / التشخيص الماثل، فلغتها منحوتة على النمط الكلاسيكي ، والانفعالات فيها ، مهما بدت جامحة ، منضبطة انضباطا كلاميا معهودا في سيطرة الفكر على الفعل ، وتجنب شطحات الانفعال وجموح الخيال وانفلات المشاعر بالنسبة لجميع الشخصيات . ( وقد خلت الرواية تماما من هذا الأمر باستثناء اللحظة الصادمة التي ارتفع فيها نداء إحدى العمات لطفلها عيسى، فإذا بعيسى ( ابن راشد ) يستجيب لنداء تمناه وتاق إليه . مما ترتب عليه بناء موقف شديد الاضطراب ، آلمه أشد الألم ، وترتبت عليه قرارات جادة غير مسبوقة ( الرواية : ص265 ، 266 ) .

 

لقد ماتت السلحفاة ، وعجز ساق البامبو عن مد جذوره في التربة الصحراوية ، وكان هذا أشد نقد موجه إلى البيئة بوجه عام ، تأكدت هذه الرؤية بوصول عيسى إلى وطن أبيه يوم وفاة أمير البلاد ( الشيخ جابر الأحمد ) ، وإذا كان بإمكانه أن يكون أوفى معرفة بما هو مقبل عليه ، فقد كان باستطاعته أن يصل مع استهلال الأمير الجديد ، وقد نقرأ هذا الحدث الذي يبدو عارضا قراءة رمزية ، وقد نقرأه قراءة قدرية ، وتلتقي القراءتان عند اتشاح التجربة بالحزن والانطفاء . ولكن : هل يعني هذا أننا – في ساق البامبو – نقرأ رواية متشائمة ؟ إنني أرى الأمر على النقيض من هذا ، وإن اختيار القضية في ذاته يحمل معنى التفاؤل ، فمنذ القدم ربط علم الطب بين معرفة المرض والاهتداء إلى الدواء وطرق العلاج ، وقد اصطحب عيسى – مع وثائقه حفنة من تراب مقبرة والده البطل الشهيد ، وأسمى ولده باسم أبيه – وهذا عرف كويتي راسخ وقبلي متأصل ، وقد أثمرت الرحلة – من بين ما أثمرت – تنمية حسه اللغوي وانتماءه لدينه ( الإسلامي ) واستعادته لاسمه العربي ..

إن أمورا كثيرة ، في جوهر صناعة الرواية لا تزال تستدعي القول ، منها بناء الشخصيات وما بين جملتها من تنوع وتكامل في المواقف والطباع ، ومنها : كيف شكل السارد بنية روائية من حالة فردية ( درامية ) نادرة جعل منها قضية مجتمع ، وكيف أنه – في التنوع المكاني – عني بإبراز لوحات كأنما قصد بها الدعاية السياحية ، ومع هذا لم تستدرج التحليل إلى التسطح ، وظل ملتزما بسمت الحالة النفسية ، وموقف ” الحيرة ” بين عالم الأم الذي يمارس ضغوطه ، وعالم الأب الذي مكّن للطبع المتوارث . وكيف التزم بلغة فنية تصويرية راقية ، اقتربت بشدة من مواقف الطبائع الشاذة ، وسلوكياتها ، ولكنها تجنبت بصرامة أية لفظة نابية ..

 

إننا – في رواية : ساق البامبو ، لسعود السنعوسي ، نقرأ عملا كلاسيكيا متكامل النقوش ، متوازن الرغبات ، يغوص في أعماق الموروث ويقتحم بنا مشكلات زماننا ، دون أن يتعرض لانكسار في المسار ، أو فراغ في المسافات ، أو المساحات .. إنه إبداع متميز بكل ما تعني الكلمة .

 

* * *

اترك تعليقاً