نجمة أريحا تبحث عن مدار
نجمة أريحا تبحث عن مدار
( أناس لا أعرفهم يسكنون في بيتنا )
قراءة في روايات ليانة بدر
” للثعالب أوجرة ، ولطيور السماء أوكار،وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه ”
[ يسوع – إنجيل متى – الإصحاح الثامن – الآية 21 ]
1- ثلاثة مداخل ممكنة
ثلاثة أمور تتنافس لأن يكون أحدها مدخلا إلى عالم الروايات الثلاث التي نعنى بها من بين كتابات ليانة بدر المتنوعة ، وإن يكن من المتعذّر السكوت عن المنتج غير الروائي ( إذ كتبت القصة القصيرة ، والشعر ، ومسرحيات الطفل ، والدراسة النقدية ) لأن هذه الجهود المختلفة في التصنيف الشكلي ، فضلا عن أنها مصنوعة من مواد السبيكة التي صنعت منها الروايات ، مع اختلاف نسب العناصر المكونة لكل عمل في حدود الشكل الذي ينتمي إليه ، وهذا متوقع بالضرورة ، لإنها تحمل التوجه ذاته ، ونقصد ما يمكن أن نطلق عليه ” روح ” العمل ، أو سرّ الصنعة ، وهذا يختلف عن مواد التصنيع ، وهذا ملاحظ في تشابه أو تقارب الأشقاء في الهيئة أو الملامح ، واختلافهم في ” الروح ” أو ” الشخصية ” .
أول هذه الأمور الثلاثة – والترتيب لا يرجع إلى الأهمية بقدر ما يرجع إلى درجة ” الحضور ” في لحظة انثيال المعاني – أن ” قراءة ” الأدب الفلسطيني بعيون ومشاعر عربية قريبة من الأحداث الصانعة للسرد ، ولم يكن في استطاعتها أن تأخذ موقف اللامبالاة ، أو الحياد ، لن يكون من اليسير عليها أن تقرأ هذا الأدب نفسه مَقيساً إلى المقولات ” النظرية ” التي صنعها مفكرون لم يأخذوا علما ( حقيقيا ) بما بين المعاناة الفعلية ، ومعاناة الكتابة من بعد من شعور بالقصور ، وليس بالتجاوز ، ” فما راءٍ كمن سمعا ” ؛ من ثم يضطرب معيار الحقيقة ، ومعيار الجمالية ، أو يتعارضان .
تعود علاقة ” المشاهدة ” للواقع الفلسطيني عبر جولة قصيرة ( ثلاثة أيام ) بين مدن ومخيمات قطاع غزة بدءا من مخيم ” البريج ” وخان يونس ، ثم مدينة غزة .. إلخ .
كانت هذه الزيارة ( اليتيمة ) عام 1959 – وكنت طالبا بالجامعة ما أزال ، ولكني نلت جائزة على مستوى قطري ” الجمهورية العربية المتحدة ” فزكاني هذا لأن أكون عضوا في وفد من كبار مثقفي الإقليمين ( سورية ومصر ) وكان الوفد برياسة الدكتور مهدي علام . كنت فوق العشرين من العمر ، ومع هذا كان غذائي من الأدب الفلسطيني محصورا – تقريبا – في ديوان ” مع الغرباء ” ، وفيه أتت ليلى لوالدها – وقد نام البريج أسى – : لماذا نحن يا أبتي .. لماذا نحن أغراب ؟! وقد يضاف إلى هارون هاشم رشيد قصائد هاشم الرفاعي ، بخاصة ” وصية لاجيء ” – وكان هاشم يسبقني في كلية دار العلوم بعام واحد ، ولا أزال أحفظ قصيدته إلى الآن ، وهي قد تحمل من حوافز الأمل والعمل ما يتجاوز قصيدة هارون هاشم رشيد . غير أن هذا الزاد المحدود جدا رسب في وجداني صورة للفلسطيني الطريد الحائر ، يطرح أسئلة مثل أسئلة ليلى لا يجد عليها جوابا ، وهكذا قطعنا بالأتوبيس المكيف طول سيناء لنصل إلى القطاع ، وفيما أتذكر بدأنا بزيارة مخيم البريج ، وإدارة خان يونس قبل أن نصل إلى غزة . وتوقعي ( الجاهز ) أن أرى ناساً حزانى صامتين في حالة انتظار لشيء ما يجب علينا ( نحن ) أن نفعله ، ولكن لا أدري ما هو على التحقيق !!
لقد قلبت زيارة مخيم البريج ، ثم خان يونس الصورة تماما . لفت انتباهي – وهو ما لا أنساه بعد مرور أكثر من نصف قرن – انتشار طلاب المخيم يذاكرون دروسهم على جوانب الطرق في ضوء الشمس إذ تتقصد إسرائيل الضرب على أي ضوء ليليّ في المخيم القريب من الحدود . هذه ” الافتتاحية ” – بما تحمل من دلائل القدرة على المواجهة بأقصى الممكن كانت بحاجة إلى دعم آخر ما لبث أن تحقق حين ( دخلنا ) إلى إحدى خيام الإعاشة ، وكانت السيدة ربة الخيمة قد أنجبت حديثا ، وعلقت محفة طفلها في سقف الخيمة . وقد بدت لي هذه الحيلة – على بساطتها – طريفة ونظيفة وآمنة ، ومع أنني من ريف محافظة الدقهلية ، ومن قرية يمتد تاريخها إلى الأزمنة القديمة ، لم أشاهد مثل هذا ، فكانت دهشتي كبيرة ، اكتمل وجهها الآخر حين غادرنا الخيمة ومشينا ( الوفد ) في الممر بين الخيام ، وكانت على جانبه امرأتان تتلاسنان ، تتبادلان الشتائم والمعايرة ( باللهجة المصرية : الردح ) كانت هذه اللحظة فارقة بالنسبة لفكرتي السابقة ( المريضة المتخاذلة ) عن المجتمع الفلسطيني في مواقعه ، وماحقة للتخيل المفترض بأنهم ” السائرون نياما ” – ( مع الاعتذار لعنوان رواية سعد مكاوي البازغة ) المعزولون عن الحياة بكل دوافعها وصخبها . لا تزال صورة المرأتين المتهاجيتين مستقرة في مخيلتي ، وهي عندي علامة العافية النفسية ، والتمسك بالحياة الطبيعية ، وتجذر النضال من أجل ما تراه حقا ، والثقة بالنفس وحقها في الغلبة . لقد وجدت هذه الصورة / الموقف مكررة في روايات ليانة بدر ، وكم فرحت بها ، للأسباب القديمة ذاتها ، وربما زادت عليها تنويعات مطلوبة من صراع الرجال ( الديوك ) من أجل الغلبة لسبب ما ، وصراع الأيديولوجيات ، وهو صراع ماثل ، متلون ، متجدد في زمن الحدث ، وهو قريب من زمن الكتابة ، ولكنه تراجع كثيرا في زمن القراءة ، وهذا ” ما يكاد ” يدفع المتلقي إلى ربط السرد بزمان الحدث ، وقد يتهمه بالمبالغة والافتعال في زمن التلقي ، وليس هذا صحيحا ، بشهادتي الشخصية ، وقد عشت أحداث زمن السرد ، وهأنذا آخذ موقع المتلقي بعد عدة عقود ، تضطرني إلى تأمل الصياغة وإعادة النظر في توزيع الأدوار .
ستبدو الأيام الثلاثة التي قضيتها في قطاع غزة ناقصة المعنى والأثر إن لم أشر إلى أمور عابرة ، قد تبدو صغيرة ، ولكنها كانت قوية التأثير في نفسي : فقد أمطرت السماء ونحن في خان يونس بشدة لم أتعرف على مثلها من قبل ، كانت حبات المطر في حجم لآلئ العقد وفي بريقها ، كنت مأخوذا بالقوة والجمال ، ولعلي تساءلت في نفسي : هل الإنسان الفلسطيني في خان يونس له نفس صفات الطبيعة في بلده ؟ وقبل أن نجتمع حول مائدة عمدة خان يونس شاهدنا الحائط الذي اصطف أمامه شباب المدينة ، وحصدتهم بنادق إسرائيل حين اكتسح القطاع عام 1956 – لقد رأيت – بعين الخيال – هؤلاء الشباب يصبرون على مواجهة الموت ، دون أن يشفي أحدهم صدر عدوه بأن يظهر الجزع أو يبدي الأسى . وقد تكرر هذا المشهد الرائع ، على نحو أقوى من المشاهدة ، في روايات ليانة بدر ..
هذا المدخل الأول ( المحتمل ) كان باستطاعته أن يستدعي أحداث الروايات الثلاث بكل ما تعج به من فواجع ومواجع ودماء وأشلاء ، وبكل ما تدخر من عناصر القوة والتمسك بالحياة واختزال تجربة الوجود ومعنى البقاء في الحفاظ على الوطن : فلسطين رمزا ، أريحا واقعا ، مراسم وطقوس الخصوصيات المجتمعية صورة بديلة يقيمها الفلسطيني أينما ذهبت به وقائع عمره . في الروايات الثلاث التي خطها قلم ليانة بدر تتجلى كافة هذه المعطيات نابعة من تجربتها الخاصة ( ممارسة وملاحظة وتحليلا وتخيلا ) التي مهما تنوعت مستويات الأداء فإنها نادرا ما تجاوزت أو صدمت ” أفق التوقع ” الذي يختزنه المتلقي العربي عبر خبرته المحدودة بالقضية ، وقد يعد هذا امتداحا لطابع الألفة في السرد، كما يعد – بدرجة أقل – افتقادا للحبكة وعناصر التشويق ، وهي تختلف عن عناصر الإثارة ، فإنها حاضرة بدرجة مناسبة .
الأمر الثاني مؤسس على ترتيب ( تعاقب ) هذه الروايات الثلاث . وهذه مسألة ” أكاديمية ” بدرجة ما ، لأنها تكشف للدارس عن مسار العلاقة بين الكاتب والمكتوب ؛ بين ليانة بدر بصفتها الشخصية وتجربتها المميزة ،و قدرتها على تنمية أساليب الأداء في حدود إطار النوع الأدبي الذي آثرته ، ونظرتها إلى الموضوع الذي تطرحه رواياتها ، وهذا جانب مهم لعدة أسباب في مقدمتها أن زمن الديمومة المؤثر في الأحداث هو معاناة المهاجرين ( أو اللاجئين ) وتعرضهم للعدوان من جانب من اغتصب وطنهم ، كما من جانب من ألجأتهم الأحداث إلى محاولة التوطن أو الإقامة في بلدانهم من الجيران العرب . وهنا تجب الإشارة إلى أن تحديد زمن الرواية أو تقريبه بذكر ” النوازل ” و ” الكوارث ” التي حلت بالفلسطينيين في مهاجرهم لا يمثل فارقا ” زمنيا ” بين رواية وأخرى ، وبخاصة بعد أن ينقرض الجيل الذي عاين هذه الأحداث !! في زمن قريب سيأتي ، ولعله يحدث الآن ، لا فرق بين ما جرى في ” تل الزعتر ” ، أو في ” صبرا وشاتيلا ” أو ” مخيم جبل الحسين ” أو حين خطفت طائرة شركة العال الإسرائيلية .. إلخ . إن هذه الأحداث المهمة والفاجعة في حينها لا تلبث – مع حركة الزمن – أن تخف وطأة أثرها وتتحول إلى أخبار ، لا تفقد دلالتها ، ولكن تفقد قوة أثرها ( هل يستثار شعورنا بذكر مذبحة الزنج بين نخيل البصرة قديما ، أو مذبحة المماليك في القلعة حديثا ؟ ) ، فلكي نحفر صورة حدث فاجع مثل ” صبرا وشاتيلا ” ينبغي بناء الحدث وانتقاء الشخصيات ورصد المؤثرات الممهدة ، والنتائج الدامية في حدود تجسيد هذا الحدث كيف كانت صبرا وشاتيلا وإلام آلت حالها . ولكن ليانة بدر اعتزت إلى جنسها النسوي فكتبت ثلاث روايات ترويها نساء وتحدّد ملامحها ، نساء من مختلف الأعمار ، حتى البطولات الفارقة صنعتها النساء غالبا ، ولا نذكر هذا على أنه اتجاه سلبي ، بل على العكس ، فهذه الكاتبة كسب من حقه أن يزهو ، للكتابة النسائية قبل أن تكون كسبا للرواية الفلسطينية ، وهذه الروايات الثلاث أعادت تصحيح النسِّب بين الرجل العربي بمظهره الخشن ، وفحولته المدعاة وانفراده بالنخوة ، والمرأة العربية بقدرتها العجيبة على الحيلة ، والعمل ، وإخفاء ذاتها ، مهما كانت الظروف، فضلا عن أنها بوتقة الحنين إلى الوطن واستبقاء رموزه بكل ما تستطيع من فعل وقول وحشد .
دلت الشبكة العنكبوتية على ثلاث روايات ، قرين كل رواية تاريخ نشرها الأول :
- بوصلة من أجل عباد الشمس : 1979 .
- عين المرآة : 1991 .
- نجوم أريحا : 1993 .
وهنا سؤال مهم وإن تكن أهميته مرتبطة بمنظور التعاقب وأثره في الكشف عن مكونات البنية . السؤال هو : هل هذه التواريخ ترتب النشر والتأليف ، أم أن أمر النشر يختلف عن تراتب التأليف ؟
قد يبدو واضحا .. عبر تأمل جوانب مختلفة – أن الكاتبة ( تطلعت / طمحت ) إلى كتابة ثلاثية فلسطينية ، وهذه رغبة مشروعة ، ويدل المنجز منها على اقتدارها على صناعة هذا العمل الذي لا نستبعد أن تكون ” ثلاثية ” نجيب محفوظ كانت حافز إغراء بالمحاولة ، يرجح هذا أن ليانة بدر ، في نسق ” الرواية ” لم تكتب غير هذه ” الثلاثية ” ويعد ما أنتجته من القصص القصيرة متجاوزا في الكم والتنوع والتسارع ( أربع مجموعات في زمن أقل ) كما أن هناك فارقاً زمنياً بين الرواية الأولى ، والتي تليها ( 12 سنة ) فيلاحظ تفاوت الحجم أيضا ، بما ( قد ) يعني أن التفكير في الربط بين الروايات الثلاث بحيث تبدو ثلاثية ، قد طرأ بعد ” البوصلة ” ومن هنا حدث التداخل والتكرار في بعض المشاهد والأحداث وليس التراتب والتشابك والتخطيط الذي يربط بين التفاصيل كما يربط بين البدايات والنهايات . ( وقد يصح أن نتذكر هنا أمرين : أن رواية ” الأجيال ” أو الرواية النهرية قد استحدثت في ضوء الواقعية / الطبيعية لرعاية عناصر الوراثة ورصد المتغيرات الاجتماعية ، وهو ما لم تحرص عليه الكاتبة وتتخذه هدفا على افتراض صواب ما أشرنا إليه بالنسبة للثلاثية ( المظنونة ) ، ففضلا عن التفاوت الواضح في الحجم بين الروايات الثلاث ، وهو يعطي شكل المثلث إذ يتقارب حجم ” البوصلة ” و ” نجوم أريحا ” ، وبينهما ” عين المرآة ” التي توازيهما حجما وتفرد للمشاهد ، وللوصف ، وللحوار ، ولامتداد حضور الشخصيات ما يسوّغ هذا الحجم المضاعف بالنسبة للرواية السابقة والرواية اللاحقة . ويمكن أن نتوقف عند بعض المشاهد التي ذكرت ( تكررت ) في روايتين لنلاحظ كيف كان المشهد منبسطا ، مشبعا ، يهيئ المتلقي لغرابة الحدث في السرد المعنى بالتفصيل ، وكيف سبق وروده مخطوفا وكأن مقصده تقديم عظة وليس أكثر في السرد المتسارع الذي تغلب عليه الصيغة الإخبارية .
أ : هذا نصّ ما ورد في ” البوصلة ” ، وهي الأسبق باثني عشر عاما – كما سبق القول وحسب تاريخ النشر – وهي الصيغة المختصرة :
” جميع الناس كانت تتوقع الموت . لم يكن هناك أي إنسان في تل الزعتر يتوقع أن يبقى على قيد الحياة . عزاء الناس لنا عند موت أبي كان رجاؤهم أن نبقى ، وأن نعيش . الإنسان لا يعرف حاله . يكون واقفا مع إنسان آخر وبعد ساعة يسمع خبر موته والله . أتذكر أن هناك شابا قال : عندما أموت ضعوني في هذا التابوت . كانوا يفصلون التوابيت من درفات الخزائن .درفة الخزانة تكون جاهزة. قال الشاب : الآن سوف أقيس جسدي . بعد دقيقة ، شظية صغيرة وراح . شظية أصابت ظهره ، وفعلا وضعوه في التابوت الذي جرب مقاس جسمه عليه . بس ! أنا متعجبة لحالي . لم أصب أبدا ” [ رواية : بوصلة من أجل عباد الشمس – ص 122 ]
ب : وهذا نص! ما ورد بشأن الحادث نفسه ، بعد ذلك في رواية ” عين المرأة ” ، وهي الصيغة المنبسطة :
” ظل ضمير أم حسن يؤنبها كلما خلطت طحينا بالماء وباشرت في صنع الأرغفة التي يقل حجمها ووزنها يوما بعد يوم . كان قلبها يوجعها وهي شاردة البال ، مختلبة اللب بحس الفجيعة والفقدان الذي يلازمها منذ نومة حسن الأبدية تلك . قبل عدة أيام اقترب منها ابن جيرانهم الذين تصالحوا معهم في بداية الحصار وطلب منها لقمة خبز ساخنة . فلم تقبل أن تعطيه . زجرته ، وصرفته عنها هي التي لم تعد تطيق إنسانا بعد موت ابنها . الآن بات ضميرها يؤنبها ، كلما تحركت هنا أو هناك وأفعم أنفها برائحة الخبز الساخن الذي يفوق الذهب الأصفر قيمة . بل إنها بدأت تذكر كيف اقترب منها الابن الأصغر لأم مازن على خجل واستحياء ، وتحركش بها :
– يما . مشان الله . بدي رغيفين من يدك الطيبة .
تطلعت إليه من فوق لتحت ، وكأنها تستهجن طلب طفل الأمس الذي صار يرتدي بيريه بنية وسروال جينز . زّمت شفتيها القاسيتين ، وعقدت التكشيرة الاستنفارية على جبينها ، ونهرته :
– يما . إنت شايفني . حالتي حالة ومش ملحق على شغلي . هذا الخبز للمقاتلين على المحاور . إنت ميليشيا طلابية مع السكان . حل عني وروح شوف حدا غيري يطعميك . أنا مجبورة باللي ما يقدروا على ترك المحاور دقيقة واحدة . ولا أوزع رغيف من هنا ورغيف من هناك.
لم يستنكر الفتى حديثها . طغت روحه السمحة على فظاظتها . كأنه آمل من وراء طلبه أن يجمع طحين روحها الرخو المتساقط على التراب . كان قد مر صدفة بالقرب منها ، وأعجبته رائحة الخبز التي تثير نداوة في الجو ، وخاصة عند من لا يتذوق سوى العدس ليلا نهارا . كانت أم حسن متأكدة تماما أن الله لن يغفر لها الصلافة التي أبدتها تجاه فتى مسكين بحاجة إلى لقمة خبر تذوب في فمه مثل زبدة شهية . تطلع إليها قبل أن يذهب ، وحرك لسانه داخل فمه المغلق ، وكأنه يخبرها عن التفحم الذي يصيب بطانة الفم عند غياب الأغذية الطرية والخضار والفاكهة . بعد لحظات ذهب الفتى للاستراحة مع أصحابه من الميليشيا إلى البناية المقابلة التي لا زالت قيد البناء . تمدد على الأرض الأسمنتية ، وحدق في القصارة الناتئة التي لم تنجز بعد . بشر صحبه أنه سوف يصنع لهم شايا . صفن قليلا ، وتلكأ قبل أن ينهض . وطفق يفتش عن خشب كي يوقد به نارا . رأى درفة خزانة مرمية في وسط الطريق . فالتفت إلى أصحابه قبل أن يخرج ، ومازحهم قائلا :
– لما أموت . فتشوا على درفة خزانة مثل هذه لأنها على مقاسي .
وقهقه رغما عنه ، وكأنه يحارب الوجوم الذي يكبل وجوه الناس في جميع الأمكنة التي جال فيها . خرج ، واتي ببعض قطع الخشب التي عثر عليها ، قرفص ، وأوقد نارا . لكن قذيفة ما لبث أن حطت عليه في إصابة مباشرة . ركض أهل الطابق السفلي ليروا ما حدث في الحارة . كانت ابتسام هي الأخف والأسرع فيهم . شاهدت دماغ الفتى مختلطا بالتراب . شاهدت قطع شعره المنثور على الأرضية . رأت ما جعل القشعريرة تلازمها تلك العشية حتى عندما أتت أمها بطاسة الرجفة ، وجرعتها نقاط ماء منها بعد أن قرأت عليها آيات قرآنية . ظلت أم جلال تتهم الفتى بأنه من أتى بالفال على نفسه .
– فاله على حاله . مين قال له هالمسخم يحكي إنه عايز درفة الخزانة النحس ، حتى جابوها بعد خمس دقايق وأخذوه عليها للقبر . الله يحمينا ويرحمنا .
ظل وجع الوجدان يلح على أم حسن . لعله عاش لو استوقفته وأعطته ما طلب . لعل وعسى . لم تكن تعرف كيف تهرب من صورة الفتى التي احتلت مجال رؤيتها. كانت تعاني مرارة عاتية ”
[ رواية : عين المرآة ” – ص 134 ، 135 ]
قد يبدو الاقتباس الثاني طويلا يستوجب اعتذارنا ، مع هذا نجده في درجة عالية من الأهمية بالنسبة لتقنيات الرواية وتطور أسلوب الكاتبة وإدراكها للفرق بين الخبر والحكاية .
في الصيغة الأولى ( المختصرة ) تنتشر صيغ التعميم : جميع الناس ، أي إنسان في تل الزعتر ، عزاء الناس لنا .. ، الإنسان لا يعرف حاله ، مع إنسان آخر ، أن هناك شابا .. وضعوه في التابوت …
ومن ناحية الزمن فإن الرواية تستدعي هذا المشهد من ذاكرتها : ” أتذكر ” ، كما أن ردّ هذه الفاجعة ظل ( محتكرا / محصورا ) في الراوية ، وقد خلا ردّ فعلها من الحزن على هذا الشاب الذي كأنما كان يجري ” بروفة ” موته قبل أن يحدث بدقائق ، وإنما شرد فكرها في اتجاه غريب إذ تتعجب كيف أنها لم تصب إلى الآن ؟!
أما الصيغة الأخرى ، المطولة لذات الحادثة ، وقد هضمت جيدا عبر السنين ، وتحولت في الموهبة المدربة إلى ” شكل ” يأخذ موقعا في سياق ، ويمد وشائجه في اتجاهات مختلفة هي التي تصنع المشهد العام ، وتحدد العاطفة السائدة فيه ، من ثم لا ينحصر الفرق في الإيجاز والإطناب ( مع الاعتذار لمصطلحات البلاغة القديمة ) وإلا فقد كان الإيجاز – دائما – خيرا من الإطناب مفضلا عليه ، إلاّ في مثل ردّ موسى عليه السلام على سؤال الله له: } وما تلك بيمينك يا موسى ؟ { .
إننا – هنا – في معرض لوحات إن شئت ، وفي حفل موسيقي إذا أردت ، من ثم تؤدي الألوان الصريحة ، والألوان الممزوجة والمموهة ، كما تؤدي الوتريات ، والأبواق ، والطبول ، كل وظيفتها ، في موضعها من سياق البناء المصمم سلفا ليؤدي غاية مرصودة منذ قبل البدء ..
إن أم حسن ذات حضور يناسب مثلها في ظروفها ، وهي وجه مناضل بلا تجاوز خطوط الممكن لمثلها قدمت أبناءها وبناتها للمقاومة ، وكان لكل دوره الفاعل ، حتى الطفل الذي غرس فرنكاته تحت الزرع لنتكاثر !! ، أما الفتى القتيل فهو ابن الجيران ، فهو محدد الموقع والعلاقة وله حق ” العشم ” ولكنها زجرته فلم تعطه رغيفا ، فكان هذا الرفض الأول محفزا لرفض تال لابن أم مازن الأصغر . ويأتى الرفض متجسدا في لغة حوارية كاشفة ، يعقبها تصوير ” جواني ” لما عانته أم حسن بعد أن رفعت صوتها بالرفض فوضعت على سلوكها قيدا ألا تتراجع . أما الصبي الذي وصف قبل بسماحة الطبع ، فكان من سماحته أن سعى لصنع الشاي ، وقام بجمع الخشب ، وأطلق عبارته الساخرة ، فكانت الواقعة ، مفصلة، وقد شاهدت فتاة ( ابتسام ، وياله من اسم في مواجهة دماغ مختلط بالتراب ) وإذ يتجدد وجع أم حسن التي تشعر الآن أنها – ربما – لو منحت الصبي رغيفا لكان هذا سببا في تجنب أن يكون هدفا ، نجد أم جلال تعبر عن الوجه الآخر ، الصادر عن موروثات ثقافية شعبية لها في هذه الأوساط سطو العقائد ، فتعده أنه الذي سعى لحتفه حين أطلق ” فاله على حاله ” . المرأتان كلتاهما ” أم ” وكلتاهما قدمتا شهيدين ، ولكن ” قراءة ” الحادثة تختلف تبعا لموقع المشاركة في تكوينها ، والعلاقة بالضحية فيها .
ليس الهدف من هذه المقارنة أن ندل على أن بعض ما قيل في رواية ظهر في رواية تالية مع شيء من الاختلاف ، فهذا التكرار مظهري ، وفي جوهره غير ممكن ، وكذلك فإن السياق وتشكيل المشهد وتلوينه هو الذي يميزه ، وليس معناه المجرد ، وحتى هذا المعنى المجرد فيه اختلاف كبير . على أن المقصد الذي آلت إليه قراءة الحادثة في نصين هو التعريف بالمستوى الذي آلت إليه قدرات ليانة بدر في رواية ” عين المرآة ” بصفة خاصة .
الأمر الثالث يتعلق ” باللافتة ” التي تحدد نوع البضاعة في ذاتها التي نتعامل معها ، أو نوع المفتاح الذي يتيح لنا الدخول إلى حومتها . تختلف اتجاهات نقادنا جدا تجاه هذين الأمرين ، ولا يستبعد تبادل الاستنكار والتجهيل أو – على الأقل – التجاهل ، وهذا الأمر خارج عن دائرة اهتمامي ، لما أراه من قصور أية محاولة مذهبية أو حتى منهجية عن استيعاب عناصر الحياة والتميز في عمل إبداعي حقيقي ، من ثم فإن ” الماستركي ” غير موجود في عالم النقد ، لأن العمل الابداعي مشكل من مكونات التقت / تداعت / حضرت وأخذت موقعها بالسياق لتقيم هيكلا له خصوصيته ، وجهد المحاولة النقدية أن تكشف عن هذه العناصر أو المكونات ، وأن تصفها وتضنى نفسها في كشف أغوارها ، وأن تبين كيف التقت ؟ وإلى أي مدى تضامنت / تداخلت / اندمجت / انصهرت / تساندت في تقديم ” رؤية ” للعالم ، للحياة ، للمجتمع ، فليست الرؤية غاية في ذاتها ، وإنما الغاية في جماليتها التي تتحقق عبر علاقات المكونات في نسق درامي مقنع ومؤثر ومشوق في آن واحد . فإذا كان أساس إنتاج أي نصّ هو معرفة صاحبه للعالم ( كما يرى محمد مفتاح في كتابه : تحليل الخطاب الشعري – استراتيجية التناص – ص 123 ) فإن قبول المتلقين للنص هو أن تتأسس هذه المعرفة وتتشكل وفق عقائد الجماعة وموروثاتها وقيم الجمال السائدة فيها لا يضير – في هذا المقام – اعتناق المختلف أو التبشير بغير المألوف ، ولكن في حدود الإطار الأصيل ، ومراعاة توازنات ، قد تفجِّر ، ولكنها لا تفجُر ، قد تصدم ولكنها لا تصعق !!
هذه مقدمة نراها ضرورية قبل ولوجنا عالم روايات ليانة بدر الثلاث ، ونختمها – أخيرا – بعبارة جيرار جنيت ( في ” مدخل إلى النص الجامع / ترجمة عبد العزيز شبيل – ص 59 – 65 ) وقد بذل جهدا عسيرا حتى استخلصها – على بداهتها فيما نرى – وهي أن الصيغة السردية مقولة عابرة للأجناس ، كما أن كل جنس بإمكانه أن يحتوي على عدة أجناس ، ويرتب على هذا – وهي إضافة مهمة – أنه سواء كان الإحساس ملحميا ، أو غنائيا ، أو دراميا ، فمن الممكن أيضا أن يكون مأساويا ، وهزليا ، ورثائيا ، وعجائبيا ، وروائيا !!
وهنا أقول عن روايات ليانة بدر إنها تحقق هذه الرؤية ذات الطابع الشمولي بمستويات قد تختلف في الدرجة أو في النسبة والنوع حسب دوافع الكتابة ، وهي دوافع مستقرة عند رؤية بذاتها لم تتخل عنها ، حسب المروي لهم ، وهم بذاتهم أيضا ( القارئ الفلسطيني خاصة والقارئ العربي عامة ) ، المتغيّر الوحيد هو درجة الحرص على مكونات كل نصّ على حدة من وحي ثقافة معرفية تتوسع ، وخبرة بأساليب الأداء تحاول أن تغاير .. لتدخل في نطاق التجريب ، وهو أقرب إلى محاولة تجنب ” الاجترار ” ، بحيث لا يشعر المتلقي بأنه سبق له أن عبر في هذا الشارع نفسه ، وقرأ نفس اللافتات ، وشهد ذات المعروضات !!
من الضرورة أن نختار المؤتلف / المختلف ، لنتعرف من خلاله على أهم مكونات البناء السردي ، ( وقد يستحيل أحيانا إلى بناء شعري ، وليس هذا ببعيد عن مقدرة أداء لها تميزها ) .
2- العتبات والتشكيل
وهي بترتيب النشر : بوصلة من أجل عباد الشمس – عين المرآة – نجوم أريحا . هذه العناوين تلتقي على معنى مشترك ، ومن ناحية الصياغة فإنها – ثلاثتها – ذات دلالة مجازية ، بل إن ” بوصلة … ” يربط بين تعبيرين مجازيين بذكر رابط التعليل ” من أجل ” ، فليس في الرواية بوصلة ، ولا ذكر لبوصلة حقيقية ، وكذلك ليس لعباد الشمس ذكر بخلاف عبارة مستعارة في سياق مونولوج حيث تنفرد الراوية ” جنان ” باستعراض عالمها وزمانها الخاص ، وقد أثار فيها حادث اختطاف طائرة ” العال ” الاسرائيلية – وخاطفها جار وصديق لها منذ الطفولة – رغبة محمومة في اقتحام المستحيل وليس انتظار الظرف المناسب : ” فلماذا لا تنتظر زهرة عباد الشمس مزيدا من الوقت ما دامت على هذه الحالة الهائلة من نفاذ !! ( صحتها : نفاد ) الصبر والتوتر ؟! ( رواية البوصلة – ص 96 ) ، وفي هذا العنوان إشكالية مثيرة للتأمل ؛ فالبوصلة لا يصح أن تكون ” من أجل ” ، لأن البوصلة تعني ثبات الاتجاه ، في حين أن عباد الشمس يتابع حركة الشمس ويقبع في انتظارها لليوم التالي ، فالمراد هنا أن ” البوصلة ” مطلب بديل لعباد الشمس . على أن قراءة الرواية في توجهها العام ( وهو توجه مشترك وثابت في الروايات الثلاث ) أنه لا يمكن التفرقة بين الفلسطيني ووطنه ، هي شمسه ، وهو عبادها يتبعها أينما كان أو مهما كانت ، من ثم تكون البوصلة مجرد أداة لإرشاد عباد الشمس الفلسطيني كيف الطريق إلى بلوغ ( وليس مجرد التوجه إلى) شمسه !!
في هذه الرواية دفق من المجازات والرموز التي تؤسس لشعرية ذات حصافة ومذاق خاص ، وكثير منها يصلح أن يكون عنوانا للرواية ( مثلا : إهداء زهور الدفلي للأم – الرواية ص 12 – وأرض البرتقال الحزين – ص32 – اليقين وحده هو فلسطين – ص66 .. وغيرها ) ولكن استعارة البوصلة وعباد الشمس أقوى تجذرا في مضمون الرواية ، فقد قام هيكلها – على الرغم من وحدة الرواية – على تشرذم عظيم لأفرادها بين بقاع الأرض ، بحيث تحتاج حالة التجميع المرتقبة ، أو المتمناة إلى ” بوصلة ” ثابتة تعين عباد الشمس على معانقة معبوده بصفة دائمة وليس خضوعا لطبيعة صامتة ، مرهونة بدورة الليل والنهار .
حين نتأمل العنوان فإن الحواس المدركة له بصرية في الأساس ، تعتمد على الأبعاد ( التشكيل الرامز ) والألوان ، ينتمي جانب منها إلى الطبيعة ( عباد الشمس ) والآخر إلى الصناعة ( البوصلة ) ، وقد التقيا في مفهوم الالتزام والاتساق والانضباط ، ولكنهما اختلفا ما بين الثبات والحركة .
وحين نتأمل عنوان الرواية التالية ” عين المرآة ” سنلاحظ للوهلة جانب الاستعارة فليس للمرآة عين ، ولو أن أداة العطف حلت مكان علاقة التضايف لأمكننا أن نفهم على نحو أيسر في الإدراك السياق الذي ذكرت فيه هذه العبارة في الرواية . وقد وردت “المرآة” في الرواية مرتين متباعدتين ، ولكن الأولى تذكر العثور على المرآة مجردا تقريبا ، ( الرواية ص 97 ) أما الثانية وهي بعيدة جدا ، بحيث يكون من المحتمل أن القارئ نسي هذا الأمر التافه العارض مع تراكم الأحداث الدامية وتساقط المدافعين عن تل الزعتر فضلا عن ضراوة ما ترك الحصار في البيوت من مآسي الفقد والموت جوعا .. إلخ . جاء هذا الذكر الثاني ( في الرواية ص 174 ) قبيل آخر ورقة في الرواية ، وقد لملمت أسرة السيد أشلاءها وعصبت جراحها لتستأنف مسيرة حياة قاسية لا محيد عن مواجهتها ، على الأقل للحفاظ على حق الجنين القادم في أن يعيش حياته !! هذه مسؤولية الأمومة ، وما من أحد يمكن أن يحملها عن الأم !! ( وهذه آخر كلمات الرواية ) .
المرآة المغيبة التي منحت الرواية عنوانها مجرد قطعة صغيرة ، وجدتها عائشة ، التي بدأت بها أحداث الرواية طفلة تعمل خادما في مدرسة راهبات ملحقة بكنيسة ، وبها تنتهي أحداث الرواية وقد استشهد زوجها وهي بعد في حملها الأول ( تكاد تكون طفلة ) وقتل أفراد من أسرتها (أبوها ، وأخوها ، وفقدت أختها الصغيرة لتجسد ماساة تل الزعتر ) وقد دخلت المرآة دخولا طبيعيا في بنية الرواية ، وصنعت نقلة إلى عالم المتخيل وهي تخرج منها . فبين المرآة وتخطي حاجز الواقع علاقة وثيقة في الأساطير والحكي الشعبي ، نذكر ” البنورة ” التي قدمها الجني للأمير في حكايات ألف ليلة ( حكاية لص بغداد وقد صورتها السينما ) فقد رأى الأمير ابنته المخطوفة وعرف أنها أسيرة خلال نظرة في الكرة الزجاجية . أما ” أليس في أرض العجائب ” فقد خطت إلى هذه الأرض عبر المرآة التي كانت تنظر فيها ، ( تنظر ترجمتنا لدراسة عن طبيعة الصور الشعرية ، فصل من كتاب داي لويس تضمنه كتابنا بعنوان : اللغة الفنية – دار المعارف – القاهرة – ص 43 – والهامش ص 69 ) .
أما ليانة بدر فقد استحضرت الأسطورة ، ثم تجاوزتها بما يلائم مطالب الحكي الحديث ، فها هي ذي عائشة تواجه محنة الحصار مع أهل زوجها الشهيد ، فتسعى للحصول على الماء والطعام ، لا تزال بحساب السنين تعد من الصبية الذين يصحبونها وإن تكن حاملا في طفل سيولد يتيما ، وفيما بين المعامل المهجورة والكنيسة الخالية تنتشر أكوام القمامة ، ” ولشدة دهشتها عثرت على مرآة صغيرة مسحتها بأصابعها ، وحدقت فيها كي ترى وجهها . بان في المرآة وجه ملوح بالدفء واليقظة لصبية سعيدة ، فأنكرت عائشة ما تراه ولم تصدق نفسها . أدارت المرآة من جديد كي تحدق مرة أخرى ، فالتمع بريق خاطف في الهواء . قفز حسام الأزعر [ أخوها الأصغر ] يريد انتزاع المرآة منها ، ثم همس في أذنها بنبرة مختنق :
– ضبيها أحسنلك وإلاّ بتفضحينا وبيقوصوا علينا
حملت عائشة المرآة ودستها في صدرها “
[ رواية : عين المرآة – ص 97 ]
لم يكن هذا اللقاء الأول بين الفتاة ( عائشة ) والمرآة ، ولكنها – هذه المرة – مرآة تخصها ، طالعت فيها وجهها بعد زمن أنكرت فيه وجودها ، وكم بدت لها المفارقة ” فادحة ” بين ما كانت تظنه من دمار وانهيار شامل ، وبين ما تشاهده الآن ” وجه ملوح بالدفء واليقظة لصبية سعيدة ” . يمكن أن ينظر إلى هذا المشهد برمته من زاوية سيكولوجية ، مؤسسة على غرام الإنسان بأن يرى نفسه ( بصرف النظر عن أن يصل إلى العشق الذاتي كما في حالة نرسيس ) وإن تكن المرأة أشد شغفا بهذا . كما يمكن أن توصل المفارقة إلى المدى الهائل بين ظواهر الأمور وبواطنها ، ففي المزابل توجد آلة عاكسة للواقع ، كاشفة عن جمال ودفء مخبوء ، والجانبان كلاهما : السيكولوجي والرمزي يكتنزان واقع التجربة الفلسطينية حيث مهاجر الفلسطينيين ، ظاهرها الرضا بالحد الأدنى ، ومحايلة الأحداث لمجرد حماية الوجود ، ولكنها تنطوي على باطن دافئ شديد الحيوية واليقظة والجمال . وهذا التفسير – في مستوييه – لا يخص عائشة ، بل يتسع ليشمل مجتمع الرواية حتى في أشد مشاهدها قسوة ومعاناة وقهرا !!
أما اللقاء الثاني بالمرآة ذاتها ، بعد ثمانين صفحة تقريبا ، فقد كان بمثابة الكشف عما وراء المرآة ، عن عالم ” أليس ” في أرض العجائب ، ولكن مقلوبا أو معكوسا : إنها في لحظة أخرى في سياق مختلف ، من ثم تجاوز الخبر إلى ” توابع ” الخبر من طرح التساؤلات وتأمل الراهن وتوقعات المصير :
” ما عادت تملك شيئا بعد الآن سوى ما في بطنها . وهبت عليها أنسام الحنين تجاه كل من عرفتهم قبلا . كان كل ذلك حياتها . إنها لن تشرب قهوة الصبح مع أم حسن بعد اليوم . ولن يمسد حسن على شعرها النامي حديثا ، ولن ترى من بعد جورجيت التي لم تفقد الأمل بعودتها . ولن ترتدي الثوب الزهري حيث تكون وحدها في الغرفة كي لا تستلمها آمنة وتعيب عليها لباس الفتيات بعد أن صارت عروسا . تلفتت حولها بقلق جديد . دفعت يدها داخل جيب تنورتها ، ورفعت الزجاجة الصلبة الحادة اللامعة إلى خدها تمرغها وتمسحها ببشرتها . كانت قطعة المرآة الصغيرة التي انتشلتها من بين أكوام القمامة في رحلاتها إلى الكنيسة والمعامل المنسية مع حسام وابتسام . ما زالت تذكر وميض إشعاعها حين التمعت قربها بغتة . تتملى فيها أهم أحداث حياتها آنذاك . الرحلة والاستكشاف وإن كان على دوي القنابل والمعارك . لم يكن الملجأ يعني بالنسبة لها شيئا عدا صداقة جورجيت . ولم تعن لها المعارك والقذائف والحروب والمتاريس والدشم والمآسي المتتالية سوى الخسارة . الأمر الوحيد الذي يؤرقها الآن هو أن تفهم لم حدث كل هذا ؟ لم الحرب ؟ لم نحن هنا ؟ لم الموت ؟ ولم لا نعيش حياة طبيعية مثلنا مثل غيرنا ؟ لم لا يقبلون أن يتركونا في حال سبيلنا ؟ لم يخرجوننا من بلادنا ويغضبون حين نعمل على الرجوع إليها ، ثم لا يقبلوننا حيث نحن ! أين نذهب إذا ؟ وهناك في وسط المكان الذي يقسم المدينة إلى شطرين تمثلت عائشة ما حكته لها أم حسن عن البلاد . سهول شاسعة ممتلئة بالقمح الذهبي وحبات الزيتون الأخضر . مراع ممتدة على مد البصر ، ونساء يغنين ويهاين في الأعراس التي تنتظر الفتيات مواسمها لأنها تقام في ساحات تعلق خيالهن بها . ولا واحدة فيهن تعرف الغربة أو التهجير ، أو قتل الأحبة والأبناء . تتركز همومهن في وفرة المحاصيل الزراعية وهطول المطر وتبلل التراب . يجلسن في العشيات على مصاطب البيوت وبأيديهن ابر التطريز والخيطان الملونة . وفي الخلفية قمر ذهبي ينظر ما يحكنه من رموز على القماش ، ويضحك ! سحبت عائشة أنفاسها الثقيلة من قعر صدرها رغما عنها . الحر ! ورائحة الجثث والدماء الفاطسة . لا يمكن أن يتحول البشر الأحياء إلى رائحة مرة وقتلة كهذه . لا يمكن أهذا معقول ! . أهذا معقول على رأي أم حسن التي سبقتها إلى الجانب الآخر من المدينة . واستجمعت في فكرها ما كانت تقوله العجوز لها : يا خالتي سنصير كلنا نساء قبضايات . هل خلوا لنا شيئا آخر كي نكونه ؟ كل شيء يأخذونه منا ، الزوج والأولاد والبيوت والحواديت والعواجيز .. كل شيء . لهذا نظل ندافع طيلة الوقت كأننا لسنا نساء بل واقفات وراء متراس ” .
[ رواية : عين المرآة – ص 174 ]
هل تستوجب إطالة الاقتباس – للمرة الثانية – اعتذاراً آخر ؟ ولكن خصوصية أسلوب ليانة بدر في تعقب وتعمق اللحظات الصعبة تحتاج إلى أن توضع العبارة بذاتها ، وامتدادها !! وقد بدأت بسلسلة من الجمل المنفية : إنها لن تشرب القهوة .. لن يمسد حسن شعرها .. ولن .. ولن ، فتتسع مساحة النفي ، تدمير الماضي واحتراق فرص الحياة . هنا، في أعقاب تساؤلها الأخير تمتد يدها إلى جيب تنورتها ، فتعثر بالمرآة القديمة ، تلك المرآة التي رأت فيها من قبل صورتها المتأبية على الخذلان ، إنها تجتاز الآن لحظة أخرى، إنها مرآة ” أليس ” وما عليها إلاّ أن تقتحمها فتجد نفسها في عالم آخر ، غير أنها لم تعد طفلة لاهية عن توقعات ما يجري حولها ، إنها تدخل من خلالها إلى تساؤلات عن الآتي : لم الحرب ، ولم الموت ، ولم نحن هنا ؟ لم لا نعيش حياة طبيعية مثلنا مثل غيرنا ، لم يغضبون حين نعمل على الرجوع إلى بلادنا ؟ وهنا يعمل قانون التداعي عمله ليرتفع المونولوج إلى مستوى تيار الوعي ، فتستدعي صورة يتناقلها العجائز عن طبيعة فلسطين التي أخرجوا منها ، وهي صورة تتوارثها الأجيال على أنها ” الجنة ” التي غادرها آدم ولكنها لم تغادره ، وإن سعيه الدنيوي كله في سبيل هذه الغاية العظيمة ، وهي غاية لا تتحمل المفاضلة أو الاختيار . لقد حكت أم حسن ( حماتها ) لعائشة عن فلسطين ، عن سهول القمح الذهبي والزيتون الأخضر والمراعي الممتدة .. تتركز الهموم في وفرة المحاصيل (!!) وهذه الصورة حلم بها أبوها السيد ، حتى في زمن بحثه عن أعقاب السجائر وأوراق الأزهار ليدخنها بعد أن اختفى التبغ تماما بفعل الحصار . ( في صفحة 146 من الرواية ) ، فقد رأى مناما ، ومع إدراكه بأنه ليس أكثر من حلم ، فإنه يستعيده ويتشبث به : ” ما شفت حالي إلاّ على حدود فلسطين ، كيف أمشيِ وأقطعها ! والله ما عارف . أسلاك وأنتينات تلفزيونات كثيرة منشورة على الأسطحة . ما شفت حالي إلاّ بفوت . بدّي أدخل . طرت لفوق . رجعت وإلا لقيت حالي في بيروت . زعلت . قلت لحالي : ليس أنا بعدي هون ؟ أغمضت عيني ، وإلاّ شفت حالي راكب على حصان البراق عليه السلام . رأس الحصان على شكل بنت حلوة . شفت حالي بنصّ فلسطين . شفت أهلي بس ما عرفتهم ، قام واحد في الشارع يعمل مشكلة معي ، مددت يدي على جيبي . سحبت الفرد ، وبدي أطخّ . حملت المسدس،لكني فقت من النوم” .
كل شروط الحلم – كما رآها فرويد – ماثلة : التعويض عن الواقع وتحقيق الذات ، تداخل الأزمنة ، والأماكن ، استمداد الموروث الطفولي والشعبي والديني ، تجاوز الواقع والممكن مثل طرت لفوق ، ركبت البراق ..
يبقى في ” قراءة ” عنوان هذه الرواية أنه ذو طبيعة حسية ، يؤدي ” النظر ” فيها وظيفته الأساسية ، فالعين منصوص عليها ، مضافة إلى المرآة ، بما يوسع من قدرة العين على التسجيل والتجميع والتجاوز ، وهذه الإمكانات مرتبطة بالعرافة والسحر ورغبة التعرف على ما لم يكن معروفا من الماضي ، واستكشاف المخبوء من الآتي ، وقد قدم السرد سبيكة جيدة الإدماج ، تقسيماتها أرقام ، وليس عناوين أو فصول ، وقد تحقق هذا التوحد في السبيكة ، بأن نلاحظ أنه بعد عدة صفحات ضرورية تسمح للطفلة عائشة بأن تستردها أمها وإخوتها من الخدمة في المدرسة والكنيسة إلى بيت أبيها في تل الزعتر ، نجد جميع شخصيات الرواية حاضرة في جميع الفصول تقريبا : الأطفال والكبار ، النساء والرجال ، كما يتجلى في المشهد الممتد : الماضي الفلسطيني في مستوى الحلم ومستوى الكابوس ومستوى الأمنية والأمل ، وكان تل الزعتر – في ذاته – معادلاً موضوعياً لبلورة العراف ، أو مرآة ” أليس ” المخبأة في طوايا ضمير عائشة .
تتفق الرواية الثالثة مع سابقتيها في مجازية العنوان ، وإن اتسع المجاز للتأويل / ” نجوم أريحا ” تحتمل كواكب سماء أريحا ، كما تحتمل ناسها ، وانتماء الراوية إلى أريحا يأخذ مداه في جملة كتاباتها ، ولكنه يهيمن على أجواء هذه الرواية بدوافع يمكن استخلاصها، فمدينة أريحا كانت – بالنسبة إليها – آخر ما عاشت فيه متمتعة بحس المواطن من أرض فلسطين ، وإذا كانت ” نجوم أريحا ” تعني ناسها ، فهنا يتأكد الرمز ، فإذا كانت الكواكب مقصودة فإن علاقة التضايف تقوم على غير الحقيقة ، فليست هذه النجوم مخصصة بأريحا !! ومهما يكن فقد أصبحنا في غنى عن التنبيه إلى الطابع الحسي ، البصري في العنوان ، مع اتساع ملحوظ في أفق الرؤية ، فنحن نتملى فيه الطابع الكوني ، ويمكن – من منظور التأويل المفرط _ أن نزعم أن هذه الرواية تدخلنا إلى فضاء أريحا الممتد ، وإلى نجومها = أبنائها المبعثرين في أنحاء الدنيا ، كما لم يبعثروا في رواية سابقة لهذه الكاتبة . ولعل العنوان الذي اخترناه لهذا التعريف المختصر لروايات ليانة بدر : ” نجمة أريحا تبحث عن مدار ” استوحى عنوان روايتها التي نحن بصددها ، ورآها – في نسقها المجازي – قد وصفت ثبات إيمانها بوطنها – مرموزا إليه بأريحا – وعنفوان عواطفها تجاه الإصرار على العودة إليه مهما تنوعت العوائق ، ولكن أفق الحركة يفتقد الفاعلية ودقة التصويب على الهدف ( نتذكر صورة عباد الشمس وضرورة البحث عن بوصلة ) من ثم كان البحث عن مدار !!
تنفرد ” نجوم أريحا ” بإضافات ، كما تشارك سابقتيها في صفات .
أ- السرد المتتابع في الروايات الثلاث مقسم إلى أجزاء تحمل أرقاما ، تتابعت بأكثر من طريقة ” فالبوصلة ” ( 107 صفحة من القطع الصغير ) مقسمة إلى أربعة أقسام ( في حجم الفصول المعتادة ) وكل قسم يبدأ بترقيم داخلي لفقرات ، يتفاوت ما بين قسم وآخر ( الأول 4 فقرات ، الثاني 9 فقرات ، الثالث 7 فقرات ، الرابع 8 فقرات – ثم تختم بفقرة واحدة ممتدة من ص 104 إلى ص 112 )
أما ” عين المرآة ” – وهي الرواية الأطول ، فقد قسمت حسب توالي الأرقام ما بين 1 إلى 16 ، والأقسام – بصفة عامة متكافئة في الامتداد ( يلاحظ أن رقم القسم 15 سقط في الطباعة ) . وأخيرا فإن ” نجوم أريحا ” مقسمة إلى عشرة أقسام حملت أرقاما ، كما في سابقتها ، ولكن كل قسم حمل عنوانا يستحق أن نتأمل مغزى تصدره من حيث هو فاصل للابتداء ، وقد توالت عناوين الأقسام كالآتي :
1: خشب وياسمين – 2 : حجر نحاس – 3 : حجر لازورد – 4 : حجر فيروز – 5 : ذهب أبيض – 6 : حجر بللور – 7 : ياقوت أحمر – 8 : حجر رصاص 1967 – 9 : ذهب أسود – 10 : درة بيضاء !!
إن هذه الطريقة في عنونة أقسام الكتب تقليد عربي تراثي ، أشهره ما أطلق ابن عبد ربه على أقسام كتابه الموسوعي ” العقد الفريد ” ، ولكن ليانة بدر لم تستلهم سبق ابن عبد ربه أو غيره ، حتى وإن قدمت غير دليل على معرفتها بجانب من كتب التراث ، كما سنرى ، لأن عناوين ابن عبد ربه كانت اعتباطية ، أما عناوين ” نجوم أريحا ” فوراؤها قصد يحتاج إلى عناية سيميائية متأنية ، إذ بدأت بالخشب والياسمين ، ثم توالت اختيارات المعادن التي تتفاوت نفاسة أو متانة أو ندرة ، مع الإيحاء بطبائع سنوات أو حقب من التاريخ القريب ، ولعل الأقرب إلى الإدراك اختيار ” حجر رصاص ” ليتصدر عام النكسة، واختيار ” ذهب أسود ” ليدل على واقع الأمة العربية ( والعلاقات الفلسطينية العربية )فيما بعد غزو الكويت .
ب – عنيت الكاتبة بإضافة إهداء : إلى أمها في البوصلة ، وإلى أصدقائها في عين المرآة ، وإلى أخيها – على الأرجح – في نجوم أريحا . وهو عمل تقليدي ، ولكنها في ” نجوم أريحا ” خاصة أضافت فقرة مستقلة من سبعة أسطر ، وضعتها بين أقواس ، ونسبتها إلى ” نص عربي قديم ” لم تكشف مصدره ، وهذه هي الفقرة .
” وفي ستة أيام خلق سبعة أنجم ، كما خلق تسع سماوات بحرفي الأمر ( كُنْ)، وخلق النجوم وكأنها حزز ( صوابها : خرز ) من الحُق الذهبي ، ليكون في مقدار الفلك اللعب بها في كل ليلة ، وجعل لقفص الجسد أحوالا مختلفة ، كما خلق لطائر الروح أجنحة وريشا من طين ، وأذاب البحر تسليما له بالأمر ، كما دُك صرح الجبل رهبة منه ، وأحال البحر صادي الشفة ظمأ ، وصيّر الحجر ياقوتا والدم مسكا، ومنح الجبل قمة وسفحا ، فرفع الرأس له معظما ، كما خلق الورد ناري اللون قنطرة تعلو سطح الماء أحيانا ”
هذه العبارة نقلها فريد الدين العطار في كتابه ” منطق الطير ” ، عن بعض ما كتب الحارث المحاسبي ، الصوفي ، المتوفى ببغداد عام 234هـ ، وهي ذات طابع أسطوري يتوسع في تأويل بعض خصوصيات ما خلق الله من مشاهد الطبيعة ، ولعل هذا النص هو مصدر الإيحاء الحقيقي بعناوين الفصول التي اشتقت من أسماء وصفات المعادن والأحجار ، ويصعب – فيما نرى – أن نعزل هذا الاقتباس عن شكل النص السردي أو معناه الكلي ، ولعلنا نستعيد عبارة متداولة عن المعري تسلم بقدرة الله المطلقة ، إذا شاء صنع ما لم يسبق له مثال ، فقد تأولوا هذا بأن المعري – في عمق أمنياته أن الله يستطيع أن يرد إليه بصره إذا أراد ، فهل تمنت ليانة بدر ، في طوايا آلامها ومعاناتها – لو أن الله مطلق القدرة أعاد إليها وطنها ، أو أعادها وقومها إلى وطنهم !!
ج- ولا تنفرد نجوم ” أريحا ” – دون سابقتيها بالعناية بالموروث الشعبي الفلسطيني ، فمنذ روايتها الأولى ، وهي حريصة على تسجيل ما يمكن أن نطلق عليه الفولكلور المميز للطبقة الشعبية الفلسطينية ، وهذا الحرص – أيضا – يحتاج إلى دراسة خاصة ، ( واعتراف بأن قراءتي في الرواية الفلسطينية لا تتجاوز غسان كنفاني ، ووليد أبو بكر ، وليس لديهما هذا الشغف بتسجيل طبائع الحياة الفلسطينية في مهاجر الفلسطينيين ، ربما بسبب التركيز على القضية والمعنى السياسي ) لأن الحشد والتنوع كانا على وفاق تام مع طبائع الشخصيات وبنائها الثقافي العام ، هذا ملحوظ في الروايات الثلاث ، ولكن ” نجوم أريحا ” ارتفعت بالتشكيل لهذه المشاهد التي تحتفي بالموروث الشعبي بأن تجاوزت ” التسجيل ” – الذي يمكن أن نطلقه وصفا على الاستعانة به في ” البوصلة ” و ” عين المرآة ” – إلى أن تكون رواية ” طقوسية ” حافلة بالمناسبات الخاصة من الولادة ، إلى الخطبة ، والزواج ، وحتى الاستشهاد ، وهذه الطقوس كما هي حائط صد ، أو ” صَدَفَة ” تحمي الكائن الكامن فيها من ذوبان الشخصية أو تزييفها ، فإن لها دلالة مكانية ؛ إن الفلسطيني المحتضن لأرضه في سويداء قلبه يحمل معه طبائع المكان ، ويقيم وطنه الخاص مهما اضطره الرحيل ، إذ تبقى فلسطين غناءً يردده في المناسبات السعيدة ، وعديد ينوح به في المناسبات الأليمة ، وأمثالا وأشعارا وأقوالا مأثورة يستدعي بها حضور المكان ، وأهل المكان .
3- المكـان وأهل المكان
الروايات الثلاث ” مكانية ” ، المكان هو البطل الحقيقي المشكل للحدث ، المحدد لمنظومة القيم المطلوبة أو المناسبة . أتذكر مشهد الردح بين السيدتين في مخيم البريج ، أكثر من نصف قرن لم تنسني فرحي ودهشتي بالمشاهدة والسماع ، وعجبي من نفسي ( واعذرني !! ) كيف استخلصت أن هذا الشجار ” النسواني ” علامة حياة وقوة ورغبة في الصراع والغلبة !! لقد حدث هذا في الروايات ، ولكن مع إضافة ضرورات تحول دون التمادي في الخصومة ، أولها أن الجميع يدركون أنهم يعيشون على أرض ليست أرضهم ، ويدركون أن أي نزاع لابد أن يقف عند حد وإلاّ تحول الغالب والمغلوب إلى ضحية ، كما تدخل الحوادث الحادة المستجدة عاملا ماهرا يوقف الخصومات ويفرض المصالحة فرضا دون شعور بالحرج . حدث هذا بدرجة ما في كل رواية ، فيكون استشهاد الابن ، أو فقدان الزوج ، أو – حتى – شح الطعام سببا مسوغا لإسقاط الخصومة كأن لم تكن ، فضلا عن تعرض الجميع للقصف العشوائي !!
الروايات الثلاث مكانية ، نقطة الارتكاز فيها ” اريحا ” الماثلة في كل رواية ، وكذلك القدس القديمة وخان الزيت ، وأماكن أخرى تحملها الأجيال القديمة ذكرى ، وتتطلع إليها الأجيال المتتالية حنينا وشوقا . بالنسبة للمكان ، لا نملك ترف التقسيمات الشكلية( الأكاديمية) ما بين مكان مغلق ، ومكان مفتوح ، وآخر ثابت وغيره متحرك .. إلخ إلخ . المكان الفلسطيني هو فلسطين التي تهفو إليها القلوب ، وإن يكن حجرة في فندق في أثينا ، أو بيت من غثاء الطوب والخشب في صبرا وشاتيلا . هل نحتاج إلى مساندة رينيه ويليك وصاحبه عن البيئات وما تحمل من دلالة مجازية ؟ فليكن ، ولتكن كل الأماكن على اتساع الحركة في الروايات ، كما أرادتها ليانة بدر هي فلسطين ، أو أريحا ، أو خان الزيت . وإذا كان جيرار جنيت ( في خطاب الحكاية ) ينظر إلى المكان على أنه مجرد عنصر ، وأن الزمان هو الأهم ، فإن ليانة بدر ، ونحن معها – لن توافقه على أن يكون المكان الفلسطيني مجرد عنصر ، إنه كل الرواية ، وكل القصد ، إن فلسطين هي ” الحجر الأسود ” تختزل فيه رحلة الحاج وطقوسها من البداية إلى النهاية . وهذا ” الحجر الأسود ” هو الذي يمنح الرواية الفلسطينية خصوصيتها ، فلولا هذا المقصد الذي يحتم على الروائي أن يقول شيئا محددا مهما حاول أن يراوغ فيه ليبدو أدخل في الفن وأبعد عن الدعاية ، إنه في النهاية لابد أن يقول هذا الشيء بالطريقة المحددة التي لا يمكن أن يؤدىّ إلا بها . إن ” عباد الشمس ” لن يتخلى عن معبودته ، ونجوم أريحا لن تساوم على مداراتها ، فالوطن ، والقبض على الهوية لا مجال لإرخاء القبضة عن الإمساك بهما وإن تحولا إلى جذوة نار . هنا يكون جاستون بشلار ( في جماليات المكان ) هو الأقرب إلى طبائعنا ومعاناتنا ، فالمكان مهم جدا ، ولكن عبر ما ينبعث عنه من ذكريات وانفعالات .. ومن هذا الباب الرحيب الكاشف يتجلى المكان في هذه الروايات . تتحدث الراوية في ( نجوم أريحا – ص41 ) عن ” تعدد المنافي وتغيير الأمكنة ” ، وهذا لابد أن يحيل إلى النقيض : التمسك بالمكان / الهوية ، إنه الوحيد الذي لا تتغير صورته المستقرة في القلب .
” أريحا ” هي المرتكز الذي يختزل كل المدن ، ويتجه إليها القلب أينما كان ، بل إنها – عبر العلاقة – تعيد رواية ما جرى في الخروج الأول ( 1948 ) من فلسطين . حين حوصرت أريحا ولا مناص من المغادرة حرصا على السلامة ( 1967 ) تقول الراوية : ” جمعت حنيني إلى أريحا وحرقته بلا ندم ، عرفت تماما أننا لن نعود . اندفعت في ارجاء بيتنا ملتاثة ، مضطربة ، فصرخوا بي وقالوا : اسرعي ، لا حاجة إلا لقمصان النوم ، يومان ليس غير ونرجع إلى هنا مسرعين . تسممت دمائي إذ فكرت أن قصة العودة بعد يومين مكررة بائسة ، سمعناها دائما ممن خرجوا في النكبة الأولى .. ” [ بوصلة … ص : 32 ] ، والمتوقع أن الرواية التي بدايتها مغادرة أريحا ، أن تتوالى فيها أسماء الأماكن تلاحقها صفات وجدانية لا تحمل الخبرة بالمكان التي حملتها تلك المدينة في عمق الغور : الرحيل إلى مخيم جبل الحسين ، كما تختزل مدينة عمان في نافذة زجاجية كبيرة ، كانت تطل منها الراوية ( جنان ) وصديقها شاهر ، وإن وصفتها شهد ( بوصلة .. : ص 25 ) بقولها إن مدينة عمان مسيح رائع القسمات والعذوبة ، أما القدس فتذكر اسما ، كما يذكر سجن الجفر الذي ثوى فيه أبوها سجينا ، لم تصف السجن ولكنا لمسنا آثاره ، فقد غادره الأب وقد فقد نصف جسمه تقريبا ، كما يوصف جبل النزهة بأنه الجبل المجاور المحاصر ، وحين قتل الإسرائيليون جعفر برصاصة في الجمجمة منعوا إعادة جثته إلى مسقط رأسه في سبسطية ( بوصلة … : ص 82 ) فدفن في مقبرة الشهداء .
من الأماكن الجديرة بالاهتمام وسبر المغزى ، مقابر نزلاء مخيم شاتيلا ( وقس عليه سائر المخيمات ) فقد كانوا يكتبون على شاهد القبر : ” هنا مثوى فلان الفلاني من حيفا ، وهنا مرقد فلانة بنت فلان من البروة ” [ بوصلة .. : ص83 ] . وإذ تذكر جنان ( الراوية ) أن صديقتها زمن الطفولة ( سمر ) قد استقرت زوجة مهندس معروف في ديترويت ، وأنها شديدة الإعجاب بالمجتمع الأمريكي ( ص89 ) وربما تؤسس هذا على ماضيها الأسري المترف ، لا تلبث أن تستعيد زمن أريحا التي لم تكن كمشة ياسمين أو دفلى أو بيارات مترامية بقدر ما كانت رمزا لزمان العشق المفقود ودفقا من نار وطين وماء يسري بين أقنية المياه الشفافة حين تخوضها أقدامنا الحافية [ بوصلة .. : ص 91 ، 92 ] . إن الراوية ( جنان ) ذات النزوع الشعبي الإشتراكي لا تحمل عبارتها عن ” سمر ” معنى النكير والسخرية ، إنها تسجل واقعا قديما بدأت جذوره في أريحا ، وتباعدت أغصانه لأسباب مختلفة ، لكنها – وقد تجولت هي بدورها بين كثير من المواقع – لا تغفل عينها عن المستوى الآخر : ” كان عليّ أن أتابع خطوي في الزقاق ، وكان الأطفال يلعبون ببقايا الدمى وأغطية البيبسى كولا ، يجمعونها من قناة المياه الرئيسية مع قشور البرتقال العتيقة “ . [ بوصلة .. : ص 92 ] .
تثبت الجملة الأولى في رواية ” بوصلة من اجل عباد الشمس ” اسم مخيم ” صبرا ” وترمز للآتي : بذبيحة يعلقها الجزار ولا يزال دمها يسيل ، ولكنها تمضي لانتقاءات يمكن أن توصف بأنها فردية . مصائر دامية لأفراد تعرفهم ، وهذا ما يتسق وأسلوب الراوية المشارك حين يلتزم بضمير الأنا المتكلم ، ولعل هذا ما أتاح لأريحا أن يكون لها هذا الحضور في رواية كتبت بعد الرحيل عنها بزمن ليس بالقصير ، وأتاح أيضا لحادث اختطاف الطائرة الإسرائيلية ألاّ يهيمن على مجرى الأحداث مع أن الخاطف كان واحدا من معارفها أو جيرانها الأقربين !!
في الرواية التالية ( عين المرآة ) تنطلق الأحداث من تل الزعتر ، ومن ثم فإن عناصر المواجهة محددة : الكتائب ، والأحرار ، وحراس الأرز ، وتفاصيل الحصار أكثر تفصيلا وضراوة ، ولكن ليانة بدر تمتعت بحساسية تستحق الاحترام وهي تراوح بين مشاهد الموت الفاجع ، وعناصر التشويق وتدبير المفاجئات . إننا – عبر الوصف المتجاوز للتقليد – رأينا مصانع الحلوى ومخازن العدس ، وقد اكتشفها أطفال المخيم فهجموا عليها ، ولكن كم كان حزننا على طفل جورجيت الرضيع الذي لم يره أبوه ، ولم يحمل اسما ( التقليد العربي أن الأب هو الذي يسمى ابنه ) وإذا لم يدرّ صدر الأم حليبا ، لم يكن أمام الجميع إلاّ أن يطحنوا للوليد بعض العدس .. فمات جوعا !! ( عين المرآة : ص 132 )
شخصيات الرواية : كل يستدعي مسقط رأسه القديم وينتسب إليه ، فالسيد يتذكر أيام يافا ، ( ص24 ) وينتسب جورج إلى طولكرم ، ويشرح معناها : الكرم الطويل ( ص36 ) السرد في ” عين المرآة ” مقدم براوية ، هي صحفية ( نعرف هذا نصا : ص 87 ، 88 ) قدمت إلى تل الزعتر لتسجل ما يجري إبان المواجهة والحصار ، ولهذا اكتفت بالوصف والتسجيل وأحيانا التعليق دون أن تشارك في الفعل ، ولهذا أيضا لم يتوازن في سردها ما يجري لدى الفريق الآخر في مقابل ما يعاني نزلاء تل الزعتر . مع هذا كانت عنايتها بإيراد التفاصيل داخل البيوت ومعرفتها ما يجري في مختلف المواقع تتجاوز حدود رؤية صحافية في مثل هذا الموقع ، ففي تل الزعتر قدمت وصفا تفصيليا مطلوبا لاستيعاب صورة المكان ، وتطور المواجهة عبر محطات الحرش الأخضر ، ومخيم جسر الباشا ، والنبعة وسن الفيل ، والكرنتينا .. إلى آخر تلك الأسماء المتداولة ذلك الحين ، ولكنها مع الزمن لا تعني إلاّ ما جري فيها من أحداث ، وهذا ما حرص عليه السارد ، ولكن الراوية ما كان باستطاعتها أن تدرك هذا ( عين المرآة : ص 83 ، 84 ) إن ما يناسب حركتها ذكرته ( ص 87 ) ، واستمرت في المقابلة بين صورتين : بيروت / تل الزعتر بطريقة رائعة ( ص89 ) ، على أن الراوية ، في أعقاب أنشودة فولكلور تستخدم الكليشية الشعبي ” وكان ياما كان ” ( ص 39 ) وقد تدفع في سياق سردها بعبارة : ” حتى النساء المؤهلات ذوات المهن والإمكانيات ينطبق عليهن ما ينطبق على عائشة في بلادنا ” ( ص65 ) هذا دون أن نعرف تماما هذه البلاد المومى إليها . وقد تنسى الراوية مهمتها الصحفية فتذهب بعيدا في تعقب حادث بعينه ، ثم تستدرك فتقول : ” أعود إلى الليلة الأخيرة ” ( ص144 وهي صيغة خاصة بالحكاء الشعبي ترتبط بـ ” كان يا ما كان ” وليست من لغة صحافة الريبورتاج .
ثم تأخذ ” أريحا ” مكان الصدارة في عنوان الرواية الثالثة ( نجوم أريحا ) ولأنها – مع توارد الأحداث القاسية – تكاد تسلم بفقدان أريحا ، فإن أريحا تتحول إلى شعر :
” وها أنت ترى الآن أنني عدت بلا أريحا ، بلا مدينة ، أو شارع ، أو حائط أسند عليه ظهري عندما أملّ من الوقوف على أبواب المدن ، حينما لا أجد أمامي إلا غبار البيت أو المكتب ، عندما أكون بلا بيت جدي في وادي التفاح . دون بلدة من برتقال وعشب ، دون حيّ ، أو زقاق ، أو حارة ، أو منزل صغير على ” كتف الواد ” ، بلا مكان أذهب إليه يوم الجمعة “ [ نجوم أريحا : ص11 ] .
وقد مهدت الراوية لتقبل شعرية أريحا بذكر المعاناة في أزقة مخيم اليرموك ، وإقامتها في بيت ضيق ، سدت مسالكه حقائبها التي لا تزال تحمل ” أغراضها ” ، فالتاريخ الفلسطيني تاريخ حقائب محزومة تستعد للمغادرة ( 48 ، 56 ، 67 ، 70 ثم 1982 ) ( الرواية : ص 8 )،وهنا نستعيد العناوين العشرة التي تقاسمت أحداث الرواية ، لقد منحت الراوية لنفسها حرية إضافية فحققت ما وصفته بقولها : ” … ربما اخترع بحرا شعريا ألقي فيه نفسي كي أنسى فشل الآخرين في إيجاد بحر يرموننا داخله ، ويرتاحون .. حتى الأبد، أسبح داخل اللغة بحثا عن وطن يقبلنا ، رغم أنني لم أكن أعرف أنه الوطن عندما كنت أعيش في أريحا .. بعد عام 1967 بكيت على وطن لم أعرف أنني كنت أعيشه ” .
[ نجوم أريحا : ص 9 ]
سترد في سياق الفصول أسماء مدن ووصف أحياء ، وسفر وسياحة .. إلخ ، وكثير من هذه الأماكن ورد ذكره في الروايتين السابقتين ( جبل الحسين – شاتيلا – البلدة القديمة بالقدس ، وخان الزيت ، يزيد عليه وصف شناشيل بيت الكهل ( العلامة ) عارف العارف باشا ( مؤلف كتاب النكبة ) وفي هذه الرواية تستعيد ذكر المرآة ” تبادرني المرآة ” ( ص : 40 ) وتنفرد بالقيام برحلة إلى أثينا يداعبها حلم أن ترى شواطئ فلسطين ، ولكن الرحلة لا تتم ويتحول الحلم إلى كابوس بسبب طائرة العال المختطفة ، ولعل هذا اليأس يدفعها إلى تسجيل شجرة العائلة ، فالجد من أسدود ، والأب ما يافا ، والراوية من أريحا (!!) تتميز هذه الرواية الثالثة بما ذكرنا من قبل عن طابعها الطقوسي ، هي تسجيل أمين لفنون الفولكلور الفلسطيني ، جدير بأن يتحول إلى سلسلة من أفلام العرائس ( على غرار الليلة الكبيرة التي ألفها صلاح جاهين ، وأخرجها لمسرح العرائس صلاح السقا ) إن كل فصل من الفصول العشرة ينطوي على حدث رئيسي يدور حوله أو يصنعه عدد من الشخصيات المرسومة بعناية ، وإنسانية ، وصدق . باستطاعتها – لو قيض لها من يحسن تصورها – أن تستقر في الوجدان الجمعي ( العربي ) محققة الهدف الذي تمنته راوية ” نجوم أريحا ” إذ تبحث داخل اللغة عن وطن بديل ، إن الصورة أقدر على صناعة هذا الوطن واستبقائه في الضمير العام ، دون تحريف أو مصادرة لقصد الكاتبة ، فجوهر اللغة الفنية هو التعبير بالصورة ، وقد رسمت مشاهد الحياة الشعبية الفلسطينية في المهاجر بطريقة رائعة ، تؤكد أن هذه الرواية ( نجوم أريحا ) تجسد ذروة القدرة على الوصف واستجماع شوارد الحياة العامة والخاصة ، مع روح متسامحة حانية على ألام البشر ، وقدرة على ربط الأحداث وتحريك الشخصيات وفق الزمن الخاص بهم ، والزمن العام من حولهم ، حتى شارب أنور وجدي ، ومشاهدة الجدة لأول فيلم سينمائي ، وصورة أم كلثوم المنتزعة من غلال مجلة الكواكب ، ملصقة بالحائط ، وحتى معرض رسوم انجي أفلاطون .
تتميز ” نجوم أريحا ” بروح الفكاهة وسماحة النفس ، حتى المشاهد الدامية – وهي ليست قليلة – توصف باقتضاب وبأقل التفاصيل ، عكس المشاهد والشخصيات ذات الطرافة مثل أم فضل ، وأم حسين ، ونرجس الشريرة ، ونرجس العانس ، أما المراهقة الرائعة ” غزالة ” فإن رحلتها من شقاوة البنات بين الضفة والأردن أيام المدرسة ، إلى السفر إلى موسكو وزواج ” مناضل ” مصري ، ووفاتها بأمريكا ، ورفض إسرائيل عودة جثمانها إلى نابلس حتى تدخل الصليب الأحمر .. سيرة ” غزالة ” هي سيرة فلسطين بتمامها ، فالرمزية هنا متحققة .. ولكن مهارة الحكي هنا ليست مجرد العثور على النموذج، بقدر ما هي ماثلة في تشابك الحب والحرب .
[ نجوم أريحا – ص 77 ، 78 ، 85 ، 86 إلى 95 ]
* * *
4- أخيرا …
ما الذي يعنيه الوقوف عن الكتابة اضطرارا ، انصياعا لشرط مساحة الكلام ، في حين أن الكاتب يشعر أنه لم يستكمل محاولته في صحبة النص الذي عايشه حتى شغف به ، ولا تزال لديه ” أقوال أخرى ” يريد أن يفضي بها ؟! – في ظني – ليس أمامه إلا أحد أمرين : أن يعود إلى ما كتب فيختصره ، ويعاني آلام الابتسار ، وإما أن يترك ما أنجزه على حاله، ويمارس هذا الابتسار بشدة فيما بقى لديه من أفكار يشعر بأن الأمانة تقتضي الإفضاء بها ، وهذا الأمر الأخير هو ما أجده أقل عناء ، وأبعد عن التشويه ، كما أنه ( قد ) يفتح آفاقا لدراسات أخرى تأتي ، وتتسع لها ، ولغيرها – ” قماشة ” الروايات الثلاث . يمكن أن ندل على ما نتطلع إليه في الآتي :
- ما التصنيف النوعي لهذه الروايات بوجه عام ؟ إنها روايات ” قضية ” ، بحيث لا يكون من التجاوز وصفها بأنها ” روايات سياسية ” ، ففيها مواقف واضحة ، تعبر عن جانب واحد ، حتى وإن ندر فيها ذكر الزعماء السياسيين كما نعرفهم ، ويتأكد هذا الوجه السياسي بذكر تاريخ المعارك والمواجهات ، ووصفها بشكل يغلب عليه طابع التوثيق . فإذا كانت رواية ” رجال في الشمس ” تعرض لمعاناة أبناء فلسطين في مهاجرهم العربية ، فروايات ليانة بدر تعرض لهم في ترحالهم وتشرذمهم بين المخيمات على مشارف وطنهم المستلب . لا يحول دون الوصف السياسي أن قصص الحب والزواج تأخذ فيها مساحة مأهولة نابضة وليست عارضة .
- دور ” الأنا ” في الروايات الثلاث ، فهي جميعا مروية بضمير المتكلم ( المؤنث ) المشارك أو المشاهد عن قرب ، وقد أثر الدخول من زاوية المتكلم في تشكيل بناء الرواية ، واختيار مشاهد الوصف ، ومواقف الحوار . وقد حاولت الكاتبة أن تنفصل عن الراوية قدر المستطاع ، بأن تكثر من الشخصيات في كل رواية ، وأن تنتقل الأحداث من مكان إلى آخر ، ومن زمن حاضر إلى زمن مضى قريب أو بعيد ، لتفلت من طابع رواية المذكرات أو اليوميات ، وقد أفلحت في هذا إلى حد بعيد .
- الحضور الواضح للأطفال والصبية والشباب من البنين والبنات في الروايات الثلاث مع مرونة التصرف في استحضارهم وإظهارهم في المشهد الروائي . على سبيل المثال : إنهم موجودون بكثرة لافتة في ” عين المرآة ” بذواتهم وحركاتهم وكلامهم، وموجودون في ” نجوم أريحا ” عبر استدعاء الذكريات القديمة ، وتنوع المواقع واختلاف الأزمنة ، وهذا الحضور الواضح للأطفال والشباب ، كما يعبر عن الواقع الفلسطيني الذي يؤسس لحل يرتكز على كثرة الإنجاب ، مستقبلا ، فإنه يرمز إلى فقدان الثقة في جيل الأجداد ، ومن بعده الآباء ، الذين أوصلوا الأحفاد إلى ما هم فيه من معاناة ، كما يرمز إلى الأمل والقوة .
- الطابع الفولكلوري الذي يوشح ويتخلل الروايات الثلاث ، وهو في ” عين المرآة ” واضح جدا ، وفي ” نجوم أريحا ” أكثر من واضح ، وقد أعاد الفولكلور الفلسطيني تشكيل مادة هذه الرواية حتى ارتفعت إلى مستوى ” الطقوسية ” ، ( طقوس الميلاد، والخطبة ، والزواج ، والموت .. إلخ ) وما يتبادل المتحادثون فيها من عبارات ( كليشهات ) جاهزة هي مسكوكات شعبية ثابتة لا يحيد المتحدث بها عن صيغتها ، وقد استعانت ليانة بدر بعدد كبير لافت من الأمثال العامة ، وأغاني المناسبات ، وأغاني وأهازيج الأطفال وألعابهم ما يستحق أن يرصد ، ويحلل ، ويعتني بدوره المأثور في الحفاظ على ملامح المكان وصيانة خصوصيته .
- ويدخل الفولكلور القولي في نطاق التناص ، وهذا مبحث نقدي مستقل ، من جهة أنه مستجلب تمتد جذوره إلى زمن آخر وتجربة مختلفة . في الروايات الثلاث وضوح مثير لهذه التناصات ذات الجذور الشعبية ، وهذا ما يؤكد على شعبية الشخصيات وحرصها على الانتماء إلى موروثها الخاص ، ولكن ” التناص ” – الظاهرة – لا يقف عند هذا الحد ، فالشعر العربي ( عنترة قديما ، وعبد الرحيم محمود ، ومحمود درويش حديثا ) وعناوين مؤلفات سارتر ، وابن حزم ، وديوان والت ويتمان ، وعبارات وردزورث ، والعشاء الأخير ، وكل ما سبق وغيره في ” نجوم أريحا ” ، ولها أشباه فيما سبقها ، وفي الروايات الثلاث شغف خاص بالحياة المصرية ( بصرف النظر عن أن السادات هو الوحيد الذي وجه إليه السب صراحة:(عين المرآة:ص64)وإن يكن تبادل الشتائم في الوصف الحوار ليس نادرا.
- وأخيرا . هذه الخبرة النادرة ، والحساسية ( النسوية ) بالألوان ، وهي تحتاج إلى رصد شامل ، أينما حلت هذه الألوان في الأزهار ، في الملابس ، في الغابات والأحراش والجبال ، في الرمال والوهاد ، في السماء ليلا ونهارا ، في مياه البحر ( مرة واحدة تبعت التقليد الرمزي في تراسل الحواس بقولها : الرائحة الحمراء : عين المرآة : ص17 ) وتبدو دقتها وحرصها النسوي في ذكر قميص النوم الأخضر الحشيشي ، وفي عبارة نادرة ترصد رؤيتها للألوان :
” كنت أميل إلى الظن بأن مخلوقات سحرية تطرز الثياب خفية ، لون الأزاهير ، عناقيد الكروم . الشموس المضيئة ، رزمات القمح ، والفراشات كانت تتحرك داخل أقواس قزح مشعة فتتوهج الألوان أمامي دفعة واحدة . الأحمر الصارخ ، القرنفلي ، المشمشي ، الوردي ، الزهري ، الناري ، البطيخي ، القمري ، الجوري ، الكعكباني ، والنبيذي ، الأزرق الفيروزي ، الزنجاري ، النيلي ، والسماوي ، الليلكي ، البنفسجي ، والنهدي ، والأصفر المشعشع ، المطفي ، الناهي ، الشمامبو ، صفار البيض والكموني .
كل هذه الألوان تلتمع أمام ناظري ، تكون شموسا سحرية ، أقمارا تملأ فضاء الحجرة ، تدفع الدمى إلى النط واللعب ، فتخطر فيما بينها على قاعدة الطاولة ، وترطن بالأرمنية رغم أن أثوابها الفلكلورية فلسطينية ”
[ نجوم أريحا : ص 14 ، 15 ]
هذه أهم المحاور التي لم تتسع المساحة للعناية بها ، ولعل هذا يحدث في سياق آخر إذا اتسع الزمن ، أو ينهض به غيري ، ولعله يكون أقدر مني ، وبالله التوفيق .
محمد حسن عبدالله