رؤية الكاتبة الخليجية لمجتمعها في روايات مختارة

رؤية الكاتبة الخليجية لمجتمعها في روايات مختارة

 رؤية الكاتبة الخليجية لمجتمعها

في روايات مختارة

 

د . محمد حسن عبدالله

[ مؤتمر روافد التنمية الاجتماعية ومطالب التحول الصناعي في دول مجلس التعاون الخليجي : قراءة في الواقع والمستقبل ]

 توطئة نحو المنهج ..

تحاول هذه الدراسة أن تكون إسهاما فنيا في سياق ما يقدم هذا المؤتمر العلمي الجليل ، عن ” روافد التنمية الاجتماعية ومطالب التحول الصناعي في دول مجلس التعاون الخليجي : قراءة في الواقع والمستقبل ” ، من ثم : أخذت دراستنا عنوان : ” رؤية الكاتبة الخليجية لمجتمعها في روايات مختارة ” – وهو عنوان يتسع للتوافق ، والاندماج في المسار العام ، من منظور أن فنون ” الرواية ” ، منذ حملت هذا المصطلح ” الرواية novel ” وهي تمتاح تجاربها من حياة الإنسان : تجاربه ، وأفعاله ، وحتى تخيلاته وأحلامه المقبولة أو الشاطحة التي تتجاوز حدود الممكن المعبّر عن التمنّي أو الحلم بالتغيير . وتلتقي فنون الرواية مع توجهات المؤتمر في اتخاذها ” المجتمع ”  على اختلاف ما يتسع له هذا المصطلح مصدرا أساسيا ، أو وحيدا لانتقاء العينة التي تخضع للوصف أو التحليل . مع هذا الإمكان للتوافق ، تختلف طرائق المنهج ، وقد يكون من الإنصاف أن نعترف بأن البحوث الاجتماعية لها مناهجها التي أقرها علماء الاجتماع ، ولا يتسامحون في إغفال خطوة منها ، أو الخلط بينها ، في حين ” يتسامح ” كتاب الرواية ويمنحون تصوراتهم حرية باتساع الواقع ، والمحتمل ، والمتخيل . وقبل أن نغادر هذه التوطئة العامة نذكر ما رصدته مدارس النقد الأدبي الحديث ، إذ ذكرت أن ” علم الاجتماع ” و ” علم النفس ” – بخاصة ، في صدارة العلوم التي أثرت في تغذية فنون الأدب – بوجه عام – وتبادلت معها التأثير والتأثر ، وهذا يتضح فيما كتب ابن خلدون ( 1332 – 1406 ) في ” مقدمته ” الشهيرة ، قديما ، وما كتب ” دور كايم ” ( 1858 – 1917 ) و ” فرويد ” ( 1856 – 1939 ) حديثا ، وهكذا أصبح ” النقد الاجتماعي ” منهجا من مناهج النقد الأدبي الحديث ، ويزاحمه أو يتقدمه ” النقد النفسي ” . وقد عني الأمريكي ” ستانلي هايمن ” ( 1919 – 1970 ) في كتابه الشامل : ” النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ” ، وفي مقدمته ذكر عبارات حاسمة تضيء لنا هذه المساحة ( المسكوت عنها ) بين العلوم التي يستخدمها ناقد الأدب – مع ذلك – ليست من ” علوم ” الأدب ، إذ يقول في تعريف النقد الأدبي : ” إنه استعمال منظم للتقنيات غير الأدبية (!!) ولضروب المعرفة – غير الأدبية أيضا – في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب ” . ويقول أيضا : ” إن أكثر ضروب المعرفة فائدة للنقد هي العلوم الاجتماعية التي تدرس الفرد عاملا في جماعة ؛ إذ الأدب – بعد كل شيء – أحد الوظائف الاجتماعية عند الإنسان ” وهنا يعيد إلى الذاكرة جانبا من فلسفة أرسطو التي استقدمت مبادئ علم الاجتماع إلى النقد الأدبي . أما ” ستانلي هايمن ” وقد أبرز معالم عدد من المدارس النقدية ، مثل : النقد الإتباعي ، والنقد القائم على الموروث الشعبي ، والنقد النفسي ، والنقد المثالي ، والنقد الواقعي ، وجميع هذه المداخل / المناهج النقدية تمتاح من المجتمع ، ومن علم الاجتماع على اختلاف الدرجة ، أو العلاقة . على أن ” ويلبر . س . سكوت ” في كتابه الذائع : ” خمسة مداخل إلى النقد الأدبي ” يضع ” المدخل الاجتماعي ” بعد المدخلين : ” الأخلاقي ” ، و ” النفسي ” ، وكأنما يمهدان له ، فهو ” عمود الخيمة ” ؛ إذ يعقبه ” المدخل الشكلي ” : ( الجمالي ) ، و ” المدخل النموذجي ” : ( الأسطوري ) .

 

ثلاث إشارات كاشفة

          بعد هذه التوطئة الموجزة ( شديدة الإيجاز ) عن علاقة الإبداع الأدبي بالفرد في جماعة ، وعلاقة النقد الأدبي بعلم الاجتماع ، نعرض لثلاث إشارات كاشفة لأسباب الاختيار الذي آثرناه ، كما يجمله عنوان هذه الدراسة :

 

الإشارة الأولى : لماذا المرأة الكاتبة ، وليس مجمل كتاب الرواية في دول الخليج ؟ وهنا ستدل ” القراءة التاريخية ” لفن الرواية – نشأة ورواجا ، على أن دور النساء القارئات للرواية كان أقوى في تثبيت أركان هذا الفن عند نشأته ، ففضلا عن أن الرواية الفنية الأولى كانت تحمل اسم امرأة ( باميلا ) – وإن كتبها رجل ( ريتشاردسون : 1689 – 1761 ) فإن النساء ، ربات البيوت في لندن كن أقوى حافز لاستمرار هذا المؤلف الصحفي في كتابة حلقات روايته ، فضلا عن تظاهرة نسائية أحاطت بمقر الصحيفة لتحول بين المؤلف والسماح بسقوط وصيفة البيت ( باميلا ) في غواية سيدها الثري . وقد كان : حافظت باميلا على عفتها بقوة الحضور النسائي الذي تحدى سطوة المال وقوة الغواية وموروث القصص المتداولة في تلك المرحلة . 

 

والمرأة – وهذه هي الإشارة الثانية – ذات حضور في فن الحكي ( نسج القصص ) بخيالها الفطري المكمل للباقتها السلوكية وذوقها الانتقائي وقدرتها على تجسيد الحالات . إذا استعدنا تاريخ الشعر ، أو الدراما سنجد المشاركة النسوية لا تكاد تذكر ، كمًا وكيفا – أما في مجال السرد بأنواعه ( وفن الرواية بصفة خاصة ) فإننا سنكون بحاجة إلى دراسة تحتاج إلى وقت وجهد لمواجهة هذا الفيض ، من الأسماء منذ المبدعات الشهيرات في عصر الرومانسية : الأختين برونتي ( ايميلي وشارلوت ) وجيد أوستن : الكبرياء والهوى ، وحتى هارييت بيتشر صاحبة : كوخ العم توم ، ومرجريت ميتشل : ذهب مع الريح ، وفرانسوا ساجان ، وإلى الفائزة بجائزة نوبل هذا العام (سفيتلانا أليكسيفيتش ) .

 

          هذا عن مطلق الاختيار النسوي ، وهنا تأتي الإشارة الثانية ( الفارقة ) ، فالكتابة النسوية الخليجية ليست صاحبة سبق ، وهذه حقيقة ، ولكنها حقيقة نسبية ، فنحن نعرف أن الموروث الثقافي ( العربي العام ، والخليجي في صميمه ) شديد الاحتفاء بالشعر ، يجد في أغراضه المأثورة ، وفي مستوياته اللغوية بين الفصيح والعامي ، ما يشبع حاجاته في حياته المألوفة ، أما فنون السرد ( القصة القصيرة ، والرواية ) فقد كان عليها أن تنتظر التغيّر الاجتماعي ، والتحديث المعرفي ، والاتصال الحميم بالجيران وغير الجيران ، لتصدر الروايات ( الأولى ) لا تتجاوز نصف القرن الماضي على التقريب ، وفي هذا دلالة على أن الإسهام الأنثوي في فنون السرد لم يتخلف بدرجة فارقة يمكن أن تحتسب سلبا بالنسبة للمرأة ، بخاصة إذا استحضرنا نظام الفصل الاجتماعي ( العنصري ) بين الرجال والنساء ، وتأخر تعليم البنات ، وأمورا أخرى لا يصعب الاهتداء إليها ، ويكفي الخلط ( العام ) المتعمد ( في حالات كثيرة ) بين التجربة الإبداعية المتخيلة ، والكتابة الصادرة عن تجربة مباشرة ، إذ تتحول ( الحكاية في الرواية ) إلى نوع من ( الاعتراف ) أو : على الأقل : التطاول والبوح بما لا يجوز البوح به !! وهذه أمور تزعج ( وقد أزعجت ) كتابا ذكورا ، فكيف بالنساء المنتميات إلى المجتمع نفسه !!

إن قصة حب مبكرة ، كتبها الأديب ( الكويتي ) : فرحان راشد فرحان ، عام 1950 بعنوان : ” آلام صديق ” – نشرها في كتيب – ” ترسم علاقة حب ( مسكوت عنها ) بين شاب كويتي ، وفتاة من بلده ، لقد طوى المؤلف صفحة هذا الحب في بلده ، مبررا سكوته بأن الفتاة قد تكون من بيت رفيع حريص على التقاليد العربية الصميمة ” ولهذا لا يجد المؤلف المحاصر بضغوط بيئته إلاّ أن يحمل بطله العاشق على الرحيل إلى مدينة قريبة ، يعيش فيها تجربة حب موازية ، أو معادة وكاشفة .. وفي هذا النطاق الخارجي يمكنه أن يصور فتاة ( غير كويتية ) تبادله الحب ، أما ” بنت بلده ” فقد جعلها تموت ، ليموت سرها معها ، وكذلك يلزمه الصمت عن التعرض لها ، حتى لا يستفز مشاعر ناس بلده !!

فهل كان ها المناخ الاجتماعي السائد ، حتى بعد منتصف القرن الماضي بعقد أو ثلاثة عقود ، أن يتسع لفتاة أديبة تكتب عن أي مستوى من التلاقي بين فتى وفتاة !!

على أنه – فيما يتراءى لقارئ الروايات العربية عبر زمانها غير القصير ( يتجاوز المائة من الأعوام ) – أن اتجاه الاهتمام النسائي إلى موضوعات الحب والزواج والأسرة الصغيرة والفروق بين الطبقات وما يترتب عليها .. إلخ ، أقوى من اتجاه الكتاب الرجال ، وكذلك الأمر بالنسبة للقارئات والقراء .

 

ثم تأتي الإشارة الثالثة ، وخلاصتها أن انتخابا بين العشوائية والضرورة واختيار الأحدث زمنا هو الذي دفع بهذا العدد المحدود من الروايات إلى أن يأخذ موقعه في هذه الدراسة . وربما بدا لي أنه من الضروري أن تمثل الدول الست الخليجية ، ليتاح لجميع الأصوات أن تسمع ، حتى وإن تشابهت أو تقاربت . إن كاتبة ذات أثر لا يستهان به مثل           ” ليلى العثمان ” ، في الميزان الذي احتكمت إليه لم تطغ على كاتبة لم أجد غير رواية واحدة لها ، وهي ” بدرية الشحي ” ، وكذلك لم أعثر على رواية عمانية أخرى غير روايتها : ” الطواف حيث الجمر ” ، وهي – الرواية – تعكس جوانب ايجابية وتصدر عن تقاليد بعيدة الغور في الواقع العماني ، وهذا من حُسن حظ هذه الدراسة . وبصفة عامة سنجد أكثر كاتبات ما عرضنا له من روايات تدور أعمارهن بين العشرين والثلاثين ، ( حين صدور الرواية ) قد تكون المحاولة الأولى ، أو الوحيدة ، ولكن اختيارها ستكون له مبرراته التي لابد أن نبينها .

 

ثلاث انفرادات فنية

وهذا العنوان يدخل في نطاق تميز الأقلام النسوية واجتهادها في السعي إلى الانفراد ، أو مجاوزة ما هو مألوف في كتابة الرواية بوجه عام ، دون أن تعني هذه الانفرادات حكما مضمنا بأنه انفراد يؤدي – تلقائيا – إلى التفوق أو : الأعلى في الجودة . إنه أشبه بالنكهة أو المذاق الخاص ، الذي لا يعني – بالضرورة – أنه يسترضى جميع الأذواق .

 

الانفراد الأول نستخلصه من إبداعات ليلى العثمان في القصة القصيرة والرواية على السواء . إن الاهتمام بالدوافع النفسية مؤثر ثابت منذ تجربتها الأولى في الرواية :              ” المرأة والقطة ” ( 2010 ) وحتى روايتها الفريدة : ” خذها لا أريدها ” التي أحكمت العقدة النفسية فيها وثاق الشخصية ، بسبب عبارة طائشة ( هي التي اتخذتها عنوانا ) سمعتها الطفلة فاستقرت في وجدانها النفور من أمها إلى آخر أيام عمر هذه الأم الضحية !! على أن ليلى العثمان قد كتبت تجربة ذكورية ، عارضتها بتجربة نسوية : الأولى بعنوان :             ” العصعص ” (2002 ) والأخرى بعنوان ” حكاية صفية ” (2013 ) .

يشكل الدافع الجنسي العامل الوحيد في توجيه أخلاق ( أو : لا أخلاق ) الشخصية ، وفي هذا قدر من المغامرة أو المصادرة في تصوير الدوافع والنزعات ، يكشف عن تبسيط مخلّ ، غير أنه – مع هيمنة الرغبة في التشويق والإثارة ، يكشف عن منظور اجتماعي لا يمكن إغفاله ، حتى وإن احتاج اكتشافه إلى صبر على التأويل والاستنتاج ، والتسامح أيضا ، لكنه يقدم مرحلة ” التحول ” في الحياة الاجتماعية بطريقة غير مألوفة بالنسبة للأدب الخليجي بعامة .

الانفراد الثاني ، يعبر عن سبق ، قدمته رواية ” بنات الرياض ” (2004 ) التي كتبتها ” رجاء الصانع ” – وهي طبيبة أسنان – وقد نشرتها على صفحات الانترنت ، على طريقة اليوميات ، تاركة باب الإضافة والتعليق مفتوحا ، وبهذا عدت – على المستوى العربي – استهلالا للأدب التفاعلي ، أو القصة التفاعلية Interactive fiction ، فكانت هذه الرواية ذات التشكيل الخاص ، والتأليف المشترك أول مولود لعلاقة جديدة للأدب بالتكنولوجيا ، وليس من الممكن إغفال أثر عنوان الرواية ” بنات الرياض ” بما يحمل من إثارة موروثات وتحسبات ومحاذير ، وما انتهت إليه مسارات التشعب في الرواية من تقارب بين مجتمع الذكور ومجتمع الإناث ، وتبادل العبارات وتقارب أو تقارع الطبائع .. فكل ها جعل من هذه الرواية ” علامة فارقة ” ليس في اتجاهات الأدب السعودي منفردا ، وإنما في تطور فن الرواية العربية ، لأن هذا النمط – عبر وسيلة التوصيل – شرطه أن يتفاعل المتلقي مع النص المعروض ، وأن يضيف إليه ما يمكن أن يوجهه غير وجهته ، أو يمعن فيها حسب رأيه ، أو رؤيته ، أو قدرته ، وبهذا يكتسب النص التفاعلي عبر هذه الإضافات كشفا أو كشوفا ، وأبعادا ، واتجاهات ، قد تبدو منسجمة أو متناقضة وكأن النص الأصلي معروض أمام عدد من المرايا مختلفة الزوايا والأشكال ، التي تمسخ كما تجمّل ، وتؤدي بالرضا لتنقلب إلى السخط أو النقد ، ومن شأن هذا أن يجدد التلقي ، ويغري بالاستزادة ، ولهذا يمكن أن يظل النص التفاعلي مفتوحا إلى ما لا نهاية !! كما يتيح إلى أن يتحول القراء ( أو بعضهم ) إلى كتّاب بدرجات تدخلهم في مسار القصة الأصلية .

لن ندع جانبا – بالطبع – الجرأة الموسومة بالحذر ، في تصوير العلاقات المعلنة والخفية بين الفتيان والفتيات في بيئة تعد – ظاهريا على الأقل – شديدة التوجس من أية محاولة اقتراب بين النوعين !!

 

أما الانفرادة الثالثة ، فقد أضافتها الأديبة ” أثير عبدالله النشمي ” ، وقد كتبت ثلاث روايات . الأولى : ” أحببتك أكثر مما ينبغي ” (2009) والثانية : ” في ديسمبر تنتهي كل الأحلام ” ( 2011 ) و الثالثة : ” فلتغفري ” ( 2013 ) – تتجلى الفرادة ، أو الانفرادة بالعلاقة بين الروايتين : الأولى ، والثالثة ( على غرابة الشخصية في الرواية الثانية بما تستحق به عناية خاصة ) – في الرواية الأولى يلتقي عبد العزيز ( وتتحدث عنه الفتاة باسم عزيز ) وجمانة ، وهما سعوديان يدرسان في كندا لأسباب مختلفة ، ويلتقيان كثيرا في إطار تجمع طلبة الخليج في إحدى المدن الإقليمية ، وبعد مماحكة بينهما ينتهي الصدام إلى حب ، وشغف ، وهيام منها ، وتقلب بين العشق وتنغيص العشق من جانبه .. وتصل العلاقة إلى غايتها بأن يعملا في اتجاه استدراج أهلهما إلى الموافقة على زواجهما بإخفاء ماضي علاقتهما في كندا ، وقد تحققت الموافقة بعد قلق وتردد ، ولكن ” عزيز ” ما لبث أن غالبه طبعه المراوغ القلق ، فأنهى الخطبة ( سرا ) بعد بضعة أيام ، واتفق مع جمانة على اختلاق أسباب لفصم العلاقة التي ذابا في هوى إتمامها ..

 

في هذا النص – بتمامه – تتولى جمانة رواية كل ما جرى ، ما رأت وما لم تر ، تمسك بزمام السرد ، وتسند إلى عزيز أو بعض أصدقائه جملا حوارية ، وأقوالا قد تبدو طويلة أو دقيقة ، مع هذا تتولى هي تقديم المنطوق تحت ذريعة ” وقلت لي ” – “وقال لي” ” فكان جوابه ” ورفعت السماعة فجاءني صوته يقول ” .. وهكذا كانت الصوت الراوي ، والحاضر ، يقدم كل المشاهد كما يراها ، ويسرد الأقوال التي تفوّه بها الطرفان أو الأطراف ، ليس من خلال ” المشهد الحاضر ” ( وطبيعي أن الراوي المشارك كان حاضرا ) وإنما من خلال حكاية المشهد ، حيث تتولى جمانة وحدها تقديم كافة المقولات مسندة إلى قائليها !! – وفي هذا النص كذلك ( وربما ترتيباً على الطريقة الانفرادية التي استولت بها جمانة على انتقاء المشاهد ، ووصفها ، وذكر الحوار المتبادل ، والظنون والاحتمالات .. إلخ ) نلاحظ أن عزيز كان عصبيا ، قلقا ، متقلبا ، مندفعا ، وإن كان من اليسير عليه أن يعود نادما ، وأن يحسن الاعتذار !! في الرواية الثالثة : ” فلتغفري ” نلقى عزيز وجمانة وأصدقائهما ، في المدينة نفسها ، وعبر الأحداث ذاتها ، ولكن ” عزيز ” هو الذي يمسك بزمام الرواية ، محافظا – إلى حد كبير – على تعاقب الأحداث والمشاهد والنزاعات .. ولكن كما يراها هو ، وليس كما رأتها جمانة من قبل !!

هذا نمط غير مألوف – على الأقل بالنسبة لرواية على امتدادها ، وليس في سياق أو سوق حادثة بعينها ، أو في قصة قصيرة ، وإنها لمحاولة ممتعة حقا – لو أن الوقت والصفحات المحدودة اتسعت لها – أن يتعقب التحليل النقدي انتقاء الأحداث الجزئية وطريقة وصفها ، وتعليلها ، وتفسير ما وراءها ، والعبارات الحوارية وما تخللها من خطرات الذهن وفلتات اللسان ، كما تبدو من وجهة نظر ” جمانة ” في الرواية الأولى ، وكما تبدو من وجهة نظر في الرواية الأخرى !!

 

ثلاث روايات بين الهجر .. والهجرة

منطقة الخليج بطبيعة تكوينه الجغرافي ، والبشري ، وموروثها الثقافي ذات إغراء لإقبال عناصر ممن حولها على الهجرة إليها ، لاتساع رقعتها ، وقلة سكانها ، وكثافة سكان المناطق حولها ، وقد حدث هذا الإقبال بخاصة بعد التحولات إلى اقتصاد النفط ، وسيطرة قيم البداوة التي تحتقر العمل اليدوي ، مع جنوح إلى مظاهر الترف معروفة الأسباب . وقد اهتم عدد من كتاب القصة القصيرة والرواية بجوانب من حياة الوافدين على دول الخليج من العرب وغيرهم : نذكر إسماعيل فهد إسماعيل ، ووليد الرجيب ، وغيرهما . وبين أيدينا ، بالمقابل ، روايات عُنيت برصد تجارب وحيوات أبناء الخليج ( الفتيات والفتيان ) في مهاجرهم المؤقتة ، إلى أوروبا أو أمريكا ، أو غيرها ، بدافع الدراسة العليا ( غالبا ) والعمل الدبلوماسي أو التجاري أحيانا أو لحضور مناسبة ما خارج الوطن . ولدينا نموذج محدد لم يكن مهاجرا ، بل هاجرا ، مفارقا وطنه عن عمد ، لأسباب ولتحقيق نمط من الحياة لا يتاح له ممارسته في وطنه . وإجمالا يمكن القول إن الهجرة ، أو الهجر – لا يقف عند حد اختلاف المكان ، أو استبدال موقع بآخر ، إن الاختلاف الأكثر وضوحا وتأثيرا هو ما يمس السلوك والأخلاق ، ويمكن أن نسجّل هنا ملاحظة أساسية ، مبكرة : أن المهاجر ( أو الهاجر ) الخليجي لا ينتقل من موقع أخلاقيات الوطن وأعرافه وسلوكه ، على أخلاقيات أرض مهجره المؤقت أو الدائم وأعرافه وسلوكياته ، بل لعله لا يحاول أن يتفهمها ويقترب منها ، إنه مع تحرره من موروثه يسقط في فراغ هو أقرب إلى الفوضى والاستسلام لردود الأفعال دون ضابط أو تطلع لمعيار متفق عليه . إنه يغادر وطنه ، ولكنه لا يعطي نفسه للوطن الآخر وإن كان يعيش فيه .

          إن أثير عبدالله النشمي – التي لا نعرف عنها أكثر من أنها كاتبة سعودية من مواليد 1984 ، وأنها تعيش في الرياض – هي التي قدمت الرواية المشبعة بروح التمرد على قيم البيئة الأصلية ، وقد سبقت الإشارة إلى روايتها : ” أحببتك أكثر مما ينبغي ” وقد اختارت لروايتها – التي تجري في مدينة كندية صغيرة : فتاة في الرابعة والعشرين ( أي في مثل عمر الكاتبة عند نشر روايتها “2009” )  على أن الطالبة ” جمانة ” بدوية ، لا تحمل اسما بدويا ، ولعل هذا مصدر تناقض ، وتنشأ علاقة حب مع شاب من وطنها : ” عبد العزيز بن صالح القيرلاني ” ليس بدويا ولكنه ينتمي إلى عشيرة تستعلي على غيرها . الفتاة تدرس طب الأسنان ، والفتى يدرس هندسة الحاسوب وإدارة الأعمال ، من ثم يجدان في نفسيهما نوازع ذاتية قد تصل حد الشطط ، ولكنهما لا يستطيعان استكمال خطة التمرد على مواضعات الوطن وقيمة ومعايير الحكم فيه لأنهما يعرفان أنهما عائدان إليه لا محالة . ولم يكن هذا التعارض بين التجربة المعاشة ( في المدينة الغربية ) والحياة المتوقعة التي ليس منها بد ، هو السبب الوحيد لإثارة القلق وتذبذب العلاقة بين الإقدام والإحجام ، فبين الفتى والفتاة اتفاق مؤسس على اختلاف أو تضاد ، فعبد العزيز ( الذي تناديه عزيز ) سادي ( Sadist ) يجد لذته في إيذاء الآخرين ، وبخاصة النساء حين مشاهد الغزل . في حين أن جمانة ماسوشية ( Masochism ) تجد لذتها الجنسية فيما تتعرض له من الألم الجسدي (!!) – بهذا التقابل / التكامل والتوافق ، بين من يجد متعته في إيذاء الآخر وإذلاله ، ومن تجد متعتها في أن تؤذى وتُضرب وتشعر بالهوان ، بهذا التقابل الذي لا يخلو من تدبير الكاتبة ( ولا نقول افتعالها ) كان المتلقي يتوقع أن تصل سفينة إبحارهما المشترك إلى مرفأ الوفاق والزواج ، غير أنه لم يتم ، وهذا منطقي بالنسبة للانحرافات النفسية . وليس مصادفة أن دفعت الكاتبة في سياق السرد بفتى إماراتي يدرس معهما ، ويعرفهما ، وقد تطلع إلى أن تحبه جمانة ، ولعلها في لحظة ثورة على عزيزها سعت إلى أن تكون محبوبته ، ولكن نوازعها الدفينة ، ومطاردة عزيز لها أعادتها إلى مصيرها . وكذلك ليس مصادفة أن طالبة كويتية ( فالجميع من منطقة الخليج ) كانت تشارك جمانة في سكنها ، وتعرف أسرار علاقتها بعزيز ، وحاولت تخليص صديقتها ورفيقة سكنها من إذلاله المتكرر لها ، وكانت تقول رأيها فيه بصراحة ، ولكن جمانة لم تستجب لها مع تكرار المحاولة . الشاب الإماراتي، والشابة الكويتية يجسدان الشخصية في المستوى المألوف ، وبذلك يصلح أن يكون معيارا يقاس إليه شذوذ الآخر . على أن الكاتبة ( ربما ) بلغت حد الإسراف في رصد الحالات والأفكار والمواقف والحوارات بين العاشقين منفردين ، أو حال وجودهما مع آخرين من زملائهما ، تلك التي يمكن أن تحتمل أكثر من تفسير ، فقد تدل على سعيهما في اتجاه موافقة البيئة التي يعيشان بين أهلها ، وإن يكن مرحليا – كما يمكن أن تدل على الإمعان في قطع حبال التواصل مع الوطن ، وإخفاء معالمه ، والتنكر لمباهجه الخاصة ، من الحق أن السياق استدعى قصائد حب لنزار قباني وغيره ، ولكن الأغاني الغربية كثيرة جدا ، بل إن بعض الجمل الحوارية المتبادلة عبر التليفون بين طرفي عربيين تجرى بالإنجليزية : ( كما في صفحة 179 ) – وطرفا الحوار ” زياد ” الإماراتي – وجمانة ، وليس فيه ما يستدعي مغايرة اللغة التي كتبت بها الرواية .

 

إن جانب ” الأدبية ” في رواية ” أحببتك أكثر مما ينبغي ” يرتفع بها درجات فوق مستوى الحكاية القصصية ، ففيها جانب ” ثقافي ” لا يصح إهماله ، إذ تضمنت  بغير افتعال البتة ، أو باستدراج محسوب لم ينتقص السلاسة – أسماء الأعلام القدماء : أفلاطون ، وابن قيم الجوزيه ، وستاندال ، وكارل يانج ، وغاندي ، ومن أهل الأدب : الحكيم ، ومصطفى محمود ، وإيليا أبو ماضي ، وعمر خيرت ، وموسيقى ليلة القبض على فاطمة .. إلخ إلخ ، فإذا اتخذنا هذه ” العلامات ” دلالة على مخزون المؤلفة المعرفي ، فإنه مشبع بالخبرات التي تساند اختيار المنحى المتمرد ، وتأسيس العلاقة على الانحراف النفسي دون أن يدل ( تماما ) على حالة مرضية ، بل إن قضية ” الحب ” في ذاتها مؤسسة على منظورين متعارضين يواكبان تعارض السادية والماسوشية وتكاملها . فالحب ( أو بالأحرى : العشق ) في التراث العشقي عند العرب تعلق لا ينتظر المقابل أو المعاملة بالمثل ، وقد وصف القدماء هذا المستوى من تبادل العواطف ، بأنه ليس عشقا بل فعل مكافئ ( شيء في مقابل شيء ) – وفي هذا تختلف الرؤية العصرية للحب ، وهو أنه المساواة ، فهي جوهر العدل !! وهنا يحق لنا أن نستعيد عنوان الرواية ، وهو مبني على تناقض ، فالحب الحق لن يكون أبدا أكثر مما ينبغي ، وفي هذا العنوان ما يعني أن جمانة لم تكن تحب عبد العزيز بقدر ما كانت تحب نفسها – في وحدتها ونزعتها النفسية غير السوية التي عرفنا – إلا حين تلتقي به ، وقد عبرت الرواية عن هذا التلاقي القائم على التناقض ، بأنه لقاء المرأة المتفوقة بالرجل الخامل ( الرواية : ص15 ) وتقول أيضا عنه : ” رجل أحبه وأكره حبي له ” ( الرواية : ص17 ) أما هو – عبد العزيز – فإن مشكلته – كما صوره زميل لهما أنه يؤمن في قرارة نفسه أنه لا يرقى إلى مستوى فتاته ، لا يستحقها ، فهي عاكفة عليه مخلصة له ، وهو قد تعرف عليها بعد تجارب عديدة مع فتيات . لكنه لا يستطيع أن يتجاوزها ( الرواية : ص 82 ، 83 ) . يضاف إلى هذا أن عبد العزيز شاعر ، يستحضر من سير الشعراء ” ديك الجن الحمصي ” الذي قتل حبيبته وصنع من ترابها كأسا يحتسي فيها خمرته ويبكي تحسرا !! وهو يرى أن كل الشعراء كاذبون !! على أنه يفطن إلى واقعه المتهاوي ، ولعله يسأل نفسه لماذا لا يتعلق بوطنه هذا التعلق الحميم الذي يلاحظه على كثيرين غيره من بلاد شتى ؟ فمن الطريف أن هذا التساؤل المضمر حمله على أن يكتب مقالا عن أخلاقيات المغتربين ، وعن ضرورة تحصين من يجب إرسالهم دينيا وأخلاقيا قبل السفر ( الرواية : ص25 ) .

إن لحظة اللقاء الأولى بين جمانة وعبد العزيز تثبت حالة الانشقاق بينهما . هكذا تصف جمانة ( راوية السرد ) هذا اللقاء :

” لقد كان لقاؤنا الأول في الثالث والعشرين من سبتمبر ، في عيدنا الوطني ، دخلت المقهى الذي أصبح فيما بعد ملتقانا الدائم . كنت تقرأ وحيدا في أحد الأركان ، جلستُ إلى الطاولة المقابلة لك .. واضعة ( سماغ ) حول رقبتي كشال . جذبك ( على ما يبدو ) الشماغ ، فأطلت النظر إليّ . أشرت بيدك إلى عنقك وسألتني بالإنجليزية وبصوت عال : أتفتقدين وطنا يقمعك ؟

أجبتك بالعربية : ” أيفتقدك وطن تخجل منه ؟ ” – ( الرواية : ص17 ) .

 

في الرواية إشارات دالة على أسباب تلك العلاقة المتوترة بين المواطن وأهل وطنه حين يغادرهم ، ويلتصق بطبائع غيرهم الأقرب إلى مسايرة الطبيعة والألفة ، ويعرف – مع هذا – أنه محكوم بتصورات أهله وطبائعهم !!

يقول عبد العزيز معبرا عن جانب من الموروث الاجتماعي / النفسي : ” تعرفين بأن السعوديين لا يحبذون المجاهرة بالحب ” – ( الرواية : ص85 ) ، فمن باب أولى أنهما يريان استحالة لقائهما في الرياض [ مع أن رجاء الصانع في بنات الرياض كيف يتحايل الشباب والشابات على تبادل أرقام الهواتف ، وكيف أن البنات – في خلو البيت من الآباء والأمهات – يدخنّ الشيشة ، كل فتاة اختارت مذاق المعسّل الذي تفضله ] !! – أما في سيرة الحب بين جمانة وعبد العزيز ، وقد عادا إلى الوطن في مقعدين متجاورين في الطائرة ، فكان الفتى مثل مدمن انقطع عما كان يدمنه فجأة وبلا فترة انسحاب !! ( الرواية : ص138 ) وهكذا بدأت حيل العشاق تجد منافذ للقاء لا تخلو من مخاطرة . وقد يخشى عبد العزيز أن يسارع أحد أبناء عمومة حبيبته بالتقدم لخطبتها قبل أن يفعل فتكون لابن العم الأولية كما تقرر الأعراف ، غير أن جمانة تطمئنه : ” لا تقلق يا حبيبي ، لن يفكر رجل من عائلتي بامرأة متمردة تقيم لوحدها في الغربة ” ( الرواية : ص156 ) . من جانب آخر يطلق عبد العزيز على عقد الزواج : ” صك ملكية ” ( الرواية : ص114 ) – وهذا مشهد وصفي تتولى جمانة تقديمه كما هي السردية ، ولكن من موقع التذكر لحدث مضى عليه زمن ، وهنا نرى وجها من وجوه سيكولوجية الأنثى العاشقة ، ينافسه وجه من تمرد المرأة المعتزة بكينونتها :

” أتذكر . كنا نتسوّق معا ، حينما اقترب رجل وسيم لا أدري من أين جاء ، جاملني مغازلا بلا مقابل . قلت له وأنت تبتسم Don’t try sir, she is mine! بدت لي جملتك حينها في منتهى الشاعرية ، شعرت بأنك غارق في محيط الحب ذاته ، المحيط الذي أعيش في أعماقه من أن عرفتك ، لكنني أدرك اليوم بأن جملتك تلك مهينة !! ” ( الرواية : ص114 ) .

 

إن المستوى الصريح المعلن الذي أتاحته العزلة النسبية التي تحققها الغربة سمحت بمستوى من الألفة وتبسيط العلاقة بدرجة لا تتيحها رابطة الزواج في الوطن . إنهما الآن في المقهى المألوف لهما ، يجلسان متواجهين ، فيرسل إليها على الماسنجر رسما لبطاقة مناسبات مرسوم عليها صورة حبل غسيل نشرت عليه ملابس داخلية رجالية ونسائية ، كتب تحتها : أحتاج لأن أشاركك كل شيء : حياتي ، أفكاري ، مستقبلي ، عمري ، بيتي ، أطفالي ، ملابسي الداخلية ! تزوجيني يا عصبية ! ( الرواية : ص226 ) . هنا تتسع المسافات بين المقدس والمدنس في أرض الوطن ، بالقياس إليهما في أرض المهجر المؤقت ، ويؤدي هذا إلى درجة من الاغتراب حيث كانت الألفة ، وتأخذ الألفة مداها في أرض الغربة ، ولهذا لم تكتمل قصة الحب ، لم تتحول إلى زواج !!

 

إذا كانت الرواية الثالثة لأثير النشمي تعد بمثابة ” إعادة عرض ” لروايتها الأولى ( التي فرغنا منها توا : أحببتك أكثر مما ينبغي ) لأنها تمضي في تسلسل المواقف والأحداث ذاتها ، مع اختلاف واحد هو ” الراوية ” الذي يحتكر تقديم الحكاية من أولها إلى آخرها منفردا . فالرواية الثالثة : ” فلتغفري ” يتولى روايتها الصوت الآخر في الرواية الأولى : عبد العزيز . وقد أشرنا قبل إلى أن الرواية الوسطى : ” في ديسمبر تنتهي كل الأحلام ” تعد تجربة منفصلة عن الصوتين اللذين تشاركا في الأولى ، والثالثة . ومع هذا سنجد “عتبات” و ” علامات ” مشتركة بين هذه الرواية الوسطى والتي سبقتها ، على الرغم من اختلاف     ” النموذج ” ، فالشاب النجدي الذي غادر السعودية منذ تسعة عشر عاما يعد نفسه هاجرا ( وليس مهاجرا وحسب ) إذ ليس في نيته أن يعود . لقد انقلب على كل ما كان يؤمن به من مبادئ وأفكار ، ومنها فكرة الوطنية والقومية . مع هذا الاختلاف بين ” الهجرة ” وآثارها ، و” الهجر ” وما يعنيه من قطيعة أو انقلاب سنجد التكوين الثقافي وخصوصية الأسلوب هي بذاتها تقريبا ، مما يعني استقرار الموهبة على أرض ثابتة .

 

” هذام العاصم ”  بدوي – نجدي ، رحل إلى لندن ، وعمل بالصحافة العربية بها وقد كان يعمل صحفيا بالرياض قبل رحيله ( هجره ) واندماجه في حياة مناقضة لكل أولياته . السرد يبدأ قرب نهاية المسافة الزمنية ( على طريقة المسرحية الكلاسيكية ) ، ولكن استرجاع هذام ، الذي يسجل مواقف وحوارات يكون طرفا فيها وليس الناقل الوحيد لحديث جميع الأطراف ، هذا الاسترجاع يساعد على استكمال أسباب الهجر . وإذا جاز لنا أن نستخدم وصفا لرئيسه في الصحيفة التي يعمل بها ، فإن ” هذام ” الآن أشهر كاتب عمود في الصحافة العربية ( فهل أراد أن يقرب صورة هذام من صحفي عربي لامع في لندن هذه الأعوام ؟! ) وكذلك يقول عنه إنه رجل تقتله الوحدة ، فهو وحيد في أرض غريبة ، ولهذا يقترح عليه أن يزور طبيبا !! وسنعرف عنه لاحقا أنه يعاني حالات مزاجية على حافة المرض ، وأنه – أيضا – يلصق هذه الأمراض نفسها بوطنه الذي فارقه . يصف تجربته في وطنه مبتدئا بخاتمتها :

” غادرت الرياض في قمة الغليان السياسي والعسكري ، أثناء حرب الخليج وقبل تحرير الكويت بقرابة الشهرين . شعرت وقتذاك بأن القومية والقبلية والدين ما هي إلاّ أكاذيب ، أنا الذي كنت قوميا حتى النخاع ، والذي قضى قرابة ربع قرن من حياته مؤمنا بها ، كنت شابا في السادسة والعشرين ، أخطو خطواتي الأولى والخجولة في عالم الكتابة ، بعد حصولي على شهادة الماجستير في الصحافة والإعلام ، كنت وقتذاك ممتلئا جدا بالحب لكل شيء ولكل الناس ، كنت وفيا جدا لوطني ، فخورا بديني ، متعصبا لجذوري العائلية وللقبيلة … كنت باختصار النموذج المثالي للشاب السعودي المتعلم والمتدين والمتمسك والتقاليد حتى تعرفت على ليلى .. ” ( الرواية : ص33 ، 34 ) .

 

هذا الاقتباس ليس فاتحة السرد ، الذي يبدأ ” الآن ” ، بإجمال عام عن إعجابه ( هذام ) بفنانة عراقية الأصل ترسم وتعزف ولا تقف برغباتها عند حد ، ومن خلال هذا السرد المنطوي على مشاهد حوارية بينهما ، يجد فيها ما يجاري هواه الهاجر ، ( أو المهاجر طوعا ) للوطن .

إنه يصف نفسه بالسايكوباتي ” يهوى السيطرة ، القوة ، التحكم ، العنف ، الاستباحة ” ( الرواية : ص15 ) وبصرف النظر عن جهات القرابة والتوافق مع صفات عبد العزيز ( الرواية التي عرضنا لها سابقا ) فإن المقابل ، المشارك في تضفير الحكاية لا تشبه ” جمانة ” في شيء ، بل كانت نقيضا أو أقرب إلى النقيض في المعتقدات  ، وإن شابهتها في الإعجاب بالفن والأدب والغناء .

قالت لهذام : ” في داخل كل إنسان وطن خاص به ! الإنسان لا ينتمي إلى رقعة ، الإنسان ينتمي إلى دواخله ( الرواية : ص30 ) وإذ نراقب سلوكيات هذا الشاب النجدي ( هذام ) سنراه يصنع حياته وفق هذه المقولة قبل أن يتعرف على الفنانة البوهيمية التي تشاركه الفراش ثم تندمج في صلاتها دون شعور بالتناقض !! فهل بارح الشاب الصحفي وطنه لأنه – لا شعوريا – كان يسعى لأن يعيش هذا المناخ البوهيمي ، بديل أنه لم يفكر في الزواج رغم اقترابه من الكهولة ؟! إن ” هذام ” لا يعني بتحسس ما يتوق إليه من رغبات غامضة بقدر ما يرصد تلك الصدمات التي يلقي عليها مسؤولية هجره وطنه . هنا يبدأ بقص ما كان بينه وبين ” ليلى ” .

 

من حق القارئ أن يتأمل اختيار اسم ” ليلى ” بكل ما يحمل من معاني العذرية وصفاء العاطفة ، ( وهي – تاريخيا – نجدية مثل هذام ) وقد نحدس بخيالنا أن نتوقع أن يكون ” هذام ” مقابلا لقيس ، وليس لورد ( في الرواية التاريخية ) !! – ليلى – كما يصفها – زميلة في الصحيفة ، بالرياض ، فهي من رعيل الصحفيات الأوائل في السعودية . وكانت جديرة بأن تحظى بمساندة زميلها وقد جاملته وامتدحت جهده في البداية ، لكنه – منساقا مع التيار الاجتماعي العام ، لم يستوعب هذا التغير بما يليق به فأثار رد فعل متهكم ( مغلف ) عند ليلى ، ومن ثم عجز تماما عن إعادة تكييف موقعه منها أو موقعها منه ، مع أنه تعلق بها للوهلة الأولى ، ومع أنه يفطن إلى جفوة التصور الاجتماعي للمرأة العاملة ، ولا يوافق على مقولة أحد زملائه إلى أن المرأة التي تغادر منزلها لتزاحم الرجال في أعمالهم لن تكون إلا امرأة من اثنتين : فإما أن تكون ساقطة ، وإما أن تكون مسترجلة !!

 

لقد دافع عن ليلى إذ أدرك أن المرأة – في بلاده – محاربة من دون وجه حق ( الرواية : ص37 ) ولكنه – وهذه إشارة سيكولوجية ( شرقية / عربية ) دقيقة – خشي أن يُظن أنه لم يساندها إلا طمعا في جزاء سيأتي وقته ، إذ يدرك أيضا – أن اعتقاد بيئته تجاه مشاعر النساء ترى أن كل امرأة ساقطة حتى يثبت العكس !! ( الرواية : ص38 ) !!

لا يضنّ هذام على ما تكتبه ليلى بأن فيه طرحا جريئا ، وأنه يطيل التفكير فيها :        ” بدأت ليلى تستعمرني فكريا ” ( الرواية : ص39 ) فانهارت قناعاته المأثورة تدريجيا ، ومن ثم اتجه إلى الفلسفة ( مع أن الرياض تكفر المهتمين بالفلسفة ( الرواية : ص40 ) وهكذا امتدت جسور التواصل بين ليلى وهذام ، عبر الكتب ، والحوارات على الهاتف ، فاستحال التواصل إلى حب ، فإلى مشروع زواج باتفاق الطرفين ، ولكن تحويل المشروع إلى زواج اصطدم بالمستحيل ” القبلي ” : ” وقضية القبائلية هذه – كما يقرر هذام – هي المأزق العاطفي الأكبر الذي لن يتمكن أحد من الخلاص منه إن وقع فيه . هذه القضية لا حل لها مهما أمطرت السماء من معجزات ” ! ( الرواية : ص43 ) . لقد رفضت عائلته تماما ، وخيرته بينها وبينهم ، ولم يكن يملك شجاعة اختيارها ، وقد أدرك أن علاقته بها تحطمت ، إذ يمكن للصداقة أن تتحول إلى حب ، ولكن غير الممكن أن يتراجع الحب إلى منزلة الصداقة !!

 

هناك حادث اعتراضي ، لعل الكاتبة أرادت به أن تؤكد صدقية الأحداث الشخصية ، حين تربطها إلى أحداث اجتماعية شائعة موثقة ، مثل حرب تحرير الكويت ، ومثل خروج تظاهرة متحدية لفتيات الرياض يقدن سياراتهن دون الحصول على رخصة قيادة ، وقد طلبت ليلى من هام أن يصور التظاهرة لتنشر على العام ، وقد حاو إثناءها عن محاولة الانتحار ، لكنها أبت ، فانصاع لها ، غير أنه فشل في أداء ما وعد به ، وكذلك انهارت التظاهرة وسيقت الفتيات إلى مركز الشرطة !! ساقه فشله ، في مواجهة شجاعة البنات في الدفاع عن قضية الحرية أن يعيد التأمل في حياته ، ومقولاته ، من ثم يقرر الرحيل . تقول الرواية :

” مجتمعنا هو أكثر المجتمعات مازوشية ، يتلذذ بجلد نفسه ، يستمتع باستعباد أفراده لبعضهم بعضا . ولم أكن لأقبل بأن أكمل حياتي في تلك الأرض التي أعرف اليوم بأنها لم تحبني يوما . ليلتها ، شعرت بأنني أفقد انتمائي لكل شيء ، للوطن الذي لم يحبني أبدا ، للعائلة التي قدمت رضا القبيلة على سعادتي ، للقبيلة التي حرمتني من أن أرتبط بفتاتي التي أحب بعنجهية قصوى ..” ( الرواية : ص58 ) وإذ تخرج ليلى من احتجاز الشرطة لها ولزميلاتها ، وتتصل بهذام لتسأله عن التصوير ، لا يملك إلا أن يعترف بعجزه ، وهنا تأتي العبارة الصادمة ، الفارقة : ” متى تتحرر من حالة الجبن هذه يا هذام ؟! صدقني ، لا معنى لحياتك إن كنت ستعيشها مكبلا بالخوف والضعف والتقليدية ” ( الرواية : ص61 ) . هكذا في الأيام الأخيرة من ديسمبر ، توجه إلى لندن ، دون تذكرة للعودة ، ليبدأ هناك حياة جديدة !! يصفها بأنها لا تشابه حياته السابقة بشيء !!

 

إن ما يعنينا – فيما اخترنا من الروايات – ما يتعلق بصورة الوطن / المجتمع الخليجي ، وليس مآل الشخصيات إذا ما قررت مغادرته ، فهذه المغادرة – في ذاتها – تجترحها آلاف من البشر من كل بلدان العالم ، لأسباب مختلفة ، والمهم بصدد ما نعرض له، تلك ” الحيثيات ” التي يعتمد المهاجر أو الهاجر عليها . إذ تبدو – من وجهة نظره – أسبابا منطقية ، أو مرغوبة محبوبة للهجرة ، أو للهجر .

 

لقد سبقت ” بثينة العيسى ” عام 2004 – إلى كتابة تجربة الهجرة في روايتها :” ارتطام لم يسمع له دوي ” – وفيها يلتقي  على أرض السويد : الفتاة الطالبة ” فرح ” التي أرسلت إلى هناك لتشارك في مسابقة في علم الأحياء ، والشاب ” ضاري ” المهاجر من عشر سنوات ، هاربا من وطن يعشقه ويعيش على ذكرياته فيه ، ولكن هذا الوطن يصمم على الاحتفاظ به في موقع ” البدون ” !! إن عنوان الرواية ، واسمي الفتاة والفتى ، يكشفان عن حالات من التضاد المنافي للطبيعة ، ولواقع هذه الثوابت ، فقد أخفقت الفتاة في المسابقة ، وحين كشف لها ضاري عن هويته المفتقدة شعرت بالأسى وقسوة الظلم ، وشعرت أيضا بأن الطريق إليه غير سالكة !! وفي هذه الرواية تتجلى مشاعر الاغتراب والضياع ، سواء لدى فرح ( التي ستعود حتما إلى وطنها ) أو ضاري ( الذي يتدفأ في صقيع السويد بذكريات الكويت ، ولكن الارتطام لا يشغل أحدا ، وهذا وجه المأساة ، وهنا نرصد الفارق بين المهاجرين والهاجرين اختيارا في الروايات السعودية ، والمهاجر اضطرارا في الرواية الكويتية ، بما يستعيد إلى ذاكرتنا رواية ” آلام صديق ” تأليف فرحان راشد الفرحان ( 1950 ) – التي أشرنا إليها قبل ، وكانت بداية روايات الحب ( الخليجي ) في ( المنافي ) القريبة أو البعيدة .

 

الرواية الثالثة انفردت بمنظور خاص للهجرة ، فهي هجرة في الزمن ، وليست في مبارحة المكان ، ويمكن القول بـأنها هجرة إلى الزمن المفتوح ، فعلى الرغم من أن   ” فوزية رشيد ” في استدعاء الأماكن ووصفها قد جلبت صفات المدن العربية والقرى والصحارى ، في روايتها الشعرية ” تحولات الفارس الغريب في البلاد العاربة ” ( 1993 ) ، وكذلك ذكرت أسماء الأمصار والأقطار العربية ، وإن غلبت طبائع مكان معيشتها ( البحرين ) وما يقاربها من أقطار ( العراق بصفة خاصة ، الكوفة والبصرة ، وما بينهما من دساكر وقرى أكثر من غيرهما ) ، وإنما حفزها إلى هذا ما أومضت به أو : أومأت إليه  من الوجهة الزمانية – بما يستعيد إلى الذاكرة التاريخية جانبا من أعمال القرامطة التخريبية ، وفوضى العصر العباسي الثاني والثالث إذ استسلم الخلفاء لسطوة كبراء الأجناس المتغلبة من الفرس والترك والديلم .. إلخ ، فانتشر الخراب وقطع الطرق على القوافل ، ونهب الأراضي والأملاك الخاصة ، وتعددت محاولات ” الخلاص ” بالتجمع ( النسبي ) حول زعامات من آل البيت ، أو الثوار ، ولكن أجهزة القمع السلطوي كانت حاضرة لا تكف عن مطاردة الفرائس .

 

حاولت الكاتبة أن تكتب رواية تجمع بين الشعرية ، والرسالة السياسية ( الإصلاحية ) ، واجتهدت في تلوين المشاهد والإغراب في وصف الهواجس والكوابيس والتخيلات ، وما يستتبع هذا من تداخل الأزمنة ، والاسترسال المطيل دون إسناد المقولات بما يحدد مسار الكلام أو يساعد على توجيه الأحداث وتحديد المواقف . لقد أعقب النص الروائي بعض فقرات مقتبسة من أقوال نقاد ، أشار بعض منهم إلى تأثر الكاتبة بما سبق إليه ” جمال الغيطاني ” من إعادة قراءة التاريخ ( العربي ) وعرضه روائيا في منطقة وسط بين المصدر التاريخي والتشكيل الروائي من منظور نقدي للواقع العربي : ( في الزيني بركات ، و : إتحاف الزمان بحكاية جلبي السلطان ) وفضّل نهج فوزية رشيد على نهج الغيطاني ( ولا تناقشهم فيما يرونه ) . وقد يكون استدعاء عناصر البناء الروائي وحرية المزج والتغليب فيها مما يساعد على تصور هذه التجربة . لقد أخذ بعض هؤلاء النقاد على تجربة الغيطاني أنها قصيدة بالحدث التاريخي ، ومراعاة الحبكة ( أو الانشداد إلى البنية المغلقة ، والتسلسل الزمني ) مما يؤثر سلبا على ” الأدبية ” جراء طغيان الأحداث وتفاصيلها على ذاكرة المبدع !! وقد يكون هذا صحيحا في المطلق ، ولكنه لا ينطبق على روايتي الغيطاني المشار إليهما ، على أنهما ليسا كل ما أنتج في هذا الاتجاه ، أو أهم ما أنتج، ولعل ” التجليات ” تقدم جوابا شافيا . وليس في هذا ما ينتقص محاولة فوزية رشيد ( الوحيدة ) ، ويمكن أن نربطها إلى الموجة الصاعدة في مرحلتها المشغوفة بالواقعية السحرية ، والإحساس الذاتي بالزمن ، وتوظيف الأساطير ، على أن زمن القرامطة ، ومن قبله ثورة الزنج ، ولهما ذكر ووصف في الرواية ، ونشاط الإسماعيلية وقلعة ” ألموت ” – وقد عرضت على وصف الحياة داخلها ، كل هذا يسبغ على الرواية أجواء فيها سحر الشعر ، وليس فيها – بالدرجة نفسها – التصويب على الهدف ، الذي نصت الرواية عليه ، وما يمكن استخلاصه ( بقدر من التسامح ) في نهايتها ، إنه لا بديل عن العدل ، وإنصاف الكادحين ، وحراسة الأمن الاجتماعي بالكفاية ، وليس بكثرة الشرط والجواسيس !!

 

في هذه الرواية : ” تحولات الفارس الغريب في البلاد العاربة ” التي تعد تجربة متميزة ذات نكهة خاصة ، لم تقلد تجربة سبقتها ، ولم يفكر كاتب بعدها أن يقلدها – احتفظت الرواية بعنصر الزمن ، وهو أساس في هذا الفن – ولكنه عنصر يضرب بجذوره في المطلق ، فيقطع الفيافي بالخيال ، ويغوص غمرات المعارك دون أن يسل سيفا ، ويكتشف الأعداء في الأنصار ، ويستخدم ” التقية ” في مقاربة الأسماء التاريخية ، يقاربها ولا يفضي بها ، ففي زمن مهيار – كبير الشرط – نجد من يتساءل : ” أين أنت يا صاحب الزمان ؟ متى تظهر وتملأ الأرض عدلا ” ( الرواية : ص74 ) وإذ تتمدد الدعوة إلى إعادة توزيع الثروة فإن هذا يتحقق ( عمليا ) بقطع طرق قوافل التجار ، وانتشار العياق والشطار والزعر في مصر ( الرواية : ص 80-82 ) . إن حرية انتقاء المساحات الزمنية واقتناص غرائبها ، مثل زواج قطر الندى ( الرواية : ص113) واختفاء صبي السادسة في السرداب ( الرواية : ص129 ) – ومشهد قلعة ألموت دون ذكر اسمها ( الرواية : ص177 ) – أما الأزمنة الحديثة فتبدو من خلال صور جزئية : مثل ذكر عقربي الساعة ، ودقاتها ، والسيارة ( الرواية : ص213 ،219 ، 253 ) .

 

تنص الرواية تحديدا على التحولات في الزمن وثبات المشكلة ، وهذا سؤال وجواب كاشف :

  • كيف استطعت أن تكتب تلك المقالات عن مركزية السلطة ؟
  • بل قلت إن أشكال الحياة القديمة وعلاقاتها مستمرة رغم التغيّر الذي يبدو في الهيكل الخارجي ، ورغم مرور ألف عام .
  • وحددت أن شكل التخلف يقع في أهم موقع له : أشكال النظم !
  • لم أحدد نظاما بعينه .
  • لكنك لا تجهل أن الأنظمة في أقاليمنا متشابهة ”

( الرواية : ص233 ، 234 )

 

هذا المقطع الحواري المتردد بل ممثل السلطة ، والطاهر بن ميمون ، يستخلص مغزى الرواية وهدفها بعبارات محددة ، تتجاوز قدرة الطابع التخييلي وصوره الشعرية النادرة ، التي تحقق متعة القراءة في ذاتها ، ولكن خطوط السرد تتشرذم ، وتتداخل ، بما يجعل فض الاشتباك بين الشخصيات الكثيرة الغامضة ، والكوابيس المتعاقبة أمراً يرتفع إلى مستوى الأحجية !! هنا يتأثر التلقي الجمالي بأن يحتسب ” سلبا ” في تشكيل الرواية .

 

التمرد على النمط

هذه الرواية العمانية ( الوحيدة ) التي أمكننا أن نطلع عليها ، مؤلفتها :” بدرية الشحيّ ” ، عام 1999 – وعرفت الكاتبة بأنها تقيم – ذاك الوقت – في المملكة المتحدة لدراسة الهندسة الميكانيكية في مستوى الدكتوراه . ويبدو أن هذه الرواية ليست المحاولة الأولى أو الفريدة . ففي بنائها نضج وصناعة تأبى هذا ، والعنوان نفسه : ” الطواف حيث الجمر ” يحمل دلالات روحية وبيئية ، وبموضوعها تنتسب إلى محاولة فريدة في بابها ، كتبتها أميرة عمانية زمن حكم العرب من أسرة ” البوسعيد ” لزنجبار ، واتخاذها عاصمة لهم ، وقد عشقت شابا ألمانيا وعشقها ، وتلاقيا وهربت إليه أو معه ، وغيرت دينها في كنيسة عدن .. ولا تعنينا هذه السيرة الذاتية الأليمة ، غير أنها تلتقي مع قصة الفتاة   ” زهرة” التي تعيش محاصرة بالحياة في قرية معزولة وراء بحر عمان وجبل نزوى ، ومحاصرة بالعنوسة ، فقد كانت موعودة – حسب الأعراف – لابن عمها سالم ، من ثم وجهت مشاعرها نحوه وأحبته ، ولكنه لم يحبها !! شارك في الحرب الأهلية العمانية ، وكان مع الثوار ، فلما انتهت الثورة اختبأ بين أهله ، وكشف عن تعلقه بفتاة أفريقية ، ورغبته في السفر إلى زنجبار ، وقد كان . وإذ تعاني زهرة – ابنة العم المهجورة – عناء الضياع جاء خبر موت سالم في زنجبار ، وأن امرأته ربما وضعت طفلا !! وهنا يتسلط حافز الهرب إلى زنجبار ، لترى تلك التي انتزعت زوجها الموعود ، وترى ابنه ، وبذلك تنجو من زوج ( آخر ) من أبناء عمومتها تقدم للزواج منها وهو يصغرها بكثير ، وفيه سذاجة كانت تحملها على أن تسخر منه وتنتقص كرامته ، ولكنه كان يثأر لنفسه منها بقوله : ” التيس مثلي بألف شاه ” !! وربما بذلت الأسرة جهدا في ترضيتها ، بأن وعدوها بأن تسافر إلى          ” نزوى ” لتختار ما ترغب من الذهب . وهكذا تحددت ملامح المكان ( العام ) أما المكان ( الخاص ) فالبيوت الطينية المسقوفة بالنخيل ، وفي ساحتها الآبار أو قريبا منها ، أما الزمان فيحدده ظهور ” الكاز ” في عمان ، وبداية رواجه ، والخوف من أن يفسد تجارة المواشي وحقول الليمون ، وكما سنرى – فإن ” زهرة ” هربت من أهلها خلسة في نزوى، وأغرت النوخذا سلطان بأن يقبل الذهب نظير أن يحملها إلى أفريقيا ، وقد كان .. إذ أخذت السفينة طريقها إلى مقديشيو ( الصومال ) ثم ماليندي ، ثم ممباسا ، لتصل إلى زنجبار ، ولكنها تجابه بثورة الأفارقة ( الذين – غالبا – يعملون في المزارع التي يملكها العرب ، وكانت زهرة قد تمكنت من شراء بيت ومزرعة ، ولكن الهياج العام حملها على أن تنجو بنفسها ، وتترك كل شيء !!

التنقيب وراء الدوافع لابد أن يمثل الجواب على ما يلحق الأفراد والجماعات من التغير . وإذ كانت ” زهرة ” المتحدث الرئيسي الذي يروي قصته ، وأنها – على الرغم من فقر التجربة التي عاشتها في قريتها الجبلية ومحدوديتها ، فإن الفتاة تبدو ذات شخصية أكثر نضجا في التعامل مع الآخرين إذا ما غادرت الجبل ، وفيها جرأة وتملك حدسا ورؤية ، من هنا يمكن أن نقرأ هذه الرواية من مستويين : فقد حرصت الكاتبة على رصد العادات والتقاليد وفروق السلوكيات ، والموروث الثقافي ، ما بين العرب ( في عمان ) والأفارقة على الشاطئ المقابل ، وحتى بقايا الشعوب القديمة مثل ” الزط ” وحتى نساء أفريقيا : وهذه بعض أمثلة على العناية الواضحة برصد العادات والأعراف والنظم السائدة :

 

  • يبدأ يوم زهرة بنداء أمها منذ الفجر : صلي واخبزي العجين .
  • ويقول ابن عمها ، لها : تذبح الشاه ويبقى التيس . التيس مثلي بألف شاه !!
  • وتقول أمها : عيب يا زهرة ، ابنة الأصل لا تعترض على قرارات الرجال !!
  • وتصور والدها من زاوية جماليات القبح : أبي المسكين لا يجيد صقل بشرته السمراء المجعدة ، ولا تفيده الحناء الرديئة المبقعة على رأسه في طرد منظر الشايب منحي الهامة .
  • وتدرك زهرة ما سيحدث لها عقب زواجها : اعرف يقينا إن ثالث أيام العرس هو بداية أبدية لعمل الحمار في بيت عمي !
  • وحين استقر مجلسها في السفينة التي ستهرب فيها ، وهي المرأة الوحيدة بين عدد كبير من الرجال ، وتتسلى بمحادثة ولد مراهق من خدم السفينة ، فيرسم صورة آلية لحياة رجال البحر ، ولحريم أفريقيا : صبورات يعملن دونما تعب .. لكنهن متفرنجات .. أنا أحب بنات صور ( مدينة عمانية ) أكثر ، ويقول عن النوخذا : بعد عام واحد من الآن سيكون له كما لغيره زوجة سرية في أفريقيا ، تنجب له قافلة من الأولاد بلون البن ، وأخرى علنية في صور .

 

وهكذا صورت الأزياء البدوية في مقابل الأفريقية ، والاستحمام في البحر مقابل الاستحمام في مياه بئر حاشدة بالصراصير الميتة .

 

هذه بعض ملامح قراءة الرواية من منظور البيئة والسلوك الاجتماعي ، إذ يجري الحوار بين الجبل ( الصحراء ) والبحر ، أو عمان القاحلة وزنجبار الخضراء إبان ثورة الانفصال ، وهناك القراءة الأخرى ، التي لا تنافي وصف ” زهرة ” بأنها نموذج التمرد على النمط ، والحلم بالانعتاق من حياة القوالب الجاهزة المعدة سلفا للمرأة بصفة خاصة . إن ” سالم ”  ابن عم زهرة سبق إلى كسر النمط ، بأن قاتل في صفوف الثوار ، وبأن رفض زواج ابنة عمه ، وتزوج إفريقية ورحل معها !! ولكن وفاته السريعة أجهضت تجربته ، ولكن زهرة – تخرج بالتمرد من الاستنتاج إلى التفاصيل الدقيقة ، سواء بالممارسة ، أو باستعادة ما مضى ، وهو كثير في هذه الرواية . لقد حملت الذهب الذي اشتراه أبوها وعمها استرضاء واستدراجا لزواج ” التيس ” الأصغر منها ، ومنحته كاملا للنوخذا نظير أن يغادر بها قبل أن يفطن أهلها إلى غيابها !! هذا من منظور المرأة ( بصفة عامة ) مخاطرة حمقاء غير مأمونة ، ولكن هذه الفتاة العزلاء المعزولة عديمة التجربة ، التي لم تغادر قريتها الجبلية قبل هذه المرة إلى نزوى ، استطاعت أن تفرض شروطها ، وأن تلزم النوخذا المزواج الشره لكل شيء بأن ينصاع إلى شرطها ويهابها وهي بغير سند ، إلا ثقتها بنفسها وجسارتها . تشير الرواية إلى ” الشتات العماني ” ، وهذا قدر البلاد التي تضيق مواردها عن إعالة أهلها ومواجهة تكاثرهم ، فلا يكون أمامهم غير الانتشار وممارسة الأعمال بمستوياتها المختلفة . حدث هذا في اليونان في القرن الماضي ، ويحدث في مصر حاليا دون أن يعد نوعا من الشتات ، فالانتماء إلى المكان والتاريخ لا يتطلب أن يكون حبسا لأهل الوطن ، وسنرصد من العبارات والمشاهد ما يدل على هذا المحور المؤسس لفكرة الرحيل عن عمان إلى أفريقيا ، الذي قد تفسره زهرة بأنها تتعقب خطى ” سالم ” زوجها الموعود لها الذي لم تتزوجه ، ولكنها تومئ بقوة إلى أهداف أخرى لهذا الرحيل المتحدي .

 

تقول في وصف رحلتها الجسورة :

” الطيور البيضاء تبارك الرحلة بأصواتها المتمازجة ونشوة البحر ، اليوم أترك عبدالله ، وعمي ، والثائرة عائلتي ، حقا وفعلا ، اليوم راحلة للبعيد حيث لا لغو ، ولا يد تغتال أدنى حق من حقوقي المغتصبة ..

أمامي مشوار مضبب الرؤية ، وخلفي كل شيء بغيض …”

                                                                  ( الرواية : ص106 )

 

وتقول عندما ترى السفينة تغادر المرفأ ، معبرة عن فرحتها بما تعده نجاة لها :

” المرفأ أصبح الآن نقطة في خبر الماضي ، والبحر يلتهمنا من كل حدب وصوب ، أزرق بلون السماء وأمواجه الحلوة الشقية تخاطبني برغوتها الشفافة ، تخبرني حكايات عن الأعماق وعن السفينة الغارقة والناجية ، وعن سالم الساكن فيها ، في لمعتها ، في عمقها ، وفي ملوحتها .

بدني تعتريه رجفة حلوة مع نسمة ريح رهيفة .

كيف تراك يا أمي الآن ؟

الرياح ملائمة للأشرعة بأذرعتها المفتوحة وابتساماتها السعيدة .

أتراك ، تلطمين ، أم تبكين لوعة وشوقا .

هو ذا ، الحلم الذي قتلك يا سالمي الهارب المسكين ، قال بأن المستحيل محض خيال العاجز وأن الإرادة تخلق الطريق وإن إلتوى أو طال ، وليته تعلق بالخيال وصان روحه على البر .

آه ، ما أحلى الحرية التي تسري في عروقي الآن .

الآن بعد الثلاثين أو أكثر أحس أنني مخدومة من الجنس العالي ، ها هم يخدمون أمامي يكدون وتتقاطر حبات العرق منهم ، بينما أمكث أنا هنا أنظر وابتسم .

هل تعلمين أنني أحس كالأميرة .

أحس بجوفي الضبابي يروق ويتضح أمام هذا السحر الأزرق وهذه الشرعة المتضاربة المغرورة .

كيف تراك يا أمي المسكينة ؟ ”                   ( الرواية : ص113 ، 114 )

 

* * *

شهقة .. بين الواقع .. والتمنّي

” قليلا .. وشهقة ” رواية ” هبة بوخمسين ” – ( الكاتبة من مواليد الكويت 1977  والرواية نشرت 2008 ) – هي روايتها الوحيدة ، سبقتها مجموعتان من القصص القصيرة ، في هذه الرواية جرأة فنية ، ورؤية اجتماعية ، يمكن أن تعدّ أحد ملامح الرواية النسائية الجديدة . وقد سبق أن وجدنا الفتاة ( العانس ) العمانية : ” زهرة ”  في رواية            ” بدرية الشحي ” تهرب من الحياة الفظة وراء الجبل ، وتنطلق وراء حلم بالمجهول ، وتعايش الرجال وحيدة بينهم في سفينة يقودها رجل كله شبهات ، ( مجرد قبوله أخذ الذهب مقابل تهريبها يكفي للارتياب فيه ) على أنها تتولى تزويج نفسها استجابة لاعتبارات الحماية واستنقاذ الطموح !!  وبالمثل : سنجد ” ليلى جعفر ” ، بنت الرجل الطبيب الكويتي الشاب ، الذي هجر الطب إلى تجارة الأدوات الطبية ، والأم الأمريكية التي تعرف عليها في ميامي ، فعانت رفض عائلته لهذه الزيجة ، ولكنها لم تستطع منعه ، وفي هذا الجو الأسري المنقسم عاشت الطفلة ليلى وعانت من هذا الانقسام الذي لم تجد له حلا غير مرونة الملاءمة حينا ، وتحدي جمود تقاليد الأسرة وخشونتها حينا آخر . لقد دبرت الكاتبة ظروفا قاسية تحيط بنشأة الفتاة ، ( يدعوها أبوها وأصدقاؤها لِيلِى – لما كانت تدعوها أمها – وتصرّ العائلة على إعادة الاسم إلى نطقه العربي ( الأقرب ) : ” لَيلَى ”  ، ويتجلى التدبير القاسي في وفاة الأم ( الأمريكية = ماريا ) وطفلتها الوحيدة لم تجاوز العاشرة ، ومن ثم عاشت في كنف أبيها المستقل بحياته الخاصة في منزل بين المزارع على شاطئ خليج الكويت ( منطقة الفنطاس ) – على أن الأب الشاب التاجر الثري ، برغم وجود مدبرة أجنبية لبيته ، كان – إبان أسفاره الكثيرة  يودع ابنته في رعاية ” الأم العودة ” = ( الجدة ) بمنزل العائلة بمنطقة القادسية ( إحدى ضواحي الكويت العاصمة ) فكانت الفتاة البريئة تلقى من كبار هذا البيت العائلي – في جملتهم – نظرات وتوجيهات منتقدة – غير متعاطفة مع يتمها ووحدتها ، ربما باستثناء لمسات حانية متباعدة من ” أبوها العود ” = ( جدها ) الذي لم يعش طويلا بعد رحيل أمها ماريا . كانت كريات العائلة عن ماريا  حتى بعد موتها في شبابها – غير عاطفة ، تكره العائلة في ماريا وابنتها لون الشعر الأشقر والبشرة البيضاء الصافية ، على أن ( الكبار ، على الأقل ) يضمرون أن الفتاة ابنة غير شرعية ، لاعتقادهم بأن ابنهم( جعفر ) قد عشق ماريا ، فتزوجها ولكن بعد أن حملت بهذه الفتاة ، وتسهم تربية الأم وحنان الأب وانفتاحه على أساليب التربية ( الأمريكية ) ، وأن الفتاة نفسها  وقد ولدت في ميامي  تحمل جنسية مزدوجة ( كويتية / وأمريكية ) ومن شأن هذا أن يثير قلق المتزمتين الذين يرون في ” الإسلام ” تراثا خاصا تملكه البداوة وما يدور في فلكها من الموروث ، حتى الجاهلية هذه الضغوط المحيطة بالفتاة التي تنمو جسديا ونفسيا وسلوكيا وتعليميا في رعاية والد كثير الأسفار وراء تجارته ومشروعاته ، فيورثها التردد بين حرية الإنفراد في منزل الفنطاس ، ومعاناة إعادة التشكيل ( المستحيلة ) في منزل القادسية ضروبا من العناد ، والمداراة ، والالتفاف على الأوامر ثم يضاف مؤثر ( خارجي ) آخر ، فقد تعرضت الكويت لغزو من جارتها ، فتدخلت الدولة الأمريكية وأعادت الكويت إلى أهلها ، وهكذا أصبح                 ” العلم الأمريكي ” – كما تقول ” ليلى ” يخفق في كل القلوب ، غير أن المشاعر لم تستمر في هذا الاتجاه ، بل انقلب الشعور الراضي الموافق إلى نقيضه عند قطاع من المجتمع يخشى الانفتاح على النمط الغربي ، وينظر بارتياب إلى كل ما يحمل السمات الأمريكية ، و هكذا استقرت المشاعر وأساليب التعامل مع الفتاة البريئة على أنها تجسيد لهذا الشعور الرافض المستريب بكل ما جاء ، أو يجيء من الجهة الأمريكية !!

 

ليس تعسفا أن نقرأ هذه الرواية الطريفة المثيرة قراءة سياسية حضارية ، إذ اختارت حقبة زمنية محددة بعدة سنوات ، فقد تولت ” ليلي ” تقديم تجربتها النادرة بالنسبة لموضوعات الرواية في الخليج – وهي في السنة الثانية ( الجامعية ) ، كما أنها تدرس           ” الإعلام ” [ فقد اختارت الكاتبة لها مهنة قوامها البحث عن الحقائق ، وكشف الغموض ، ومهارة التواصل مع الآخرين ] فاجتمع التخصص العلمي مع تفتح الأب الذي جمع في بيته الخاص مكتبة يمكن أن توصف بأنها عالمية عصرية – وإلى جانب المكتبة آلة ” البيانو ” التي تجيد الفتاة العزف عليها من طفولتها . من هنا ” يبدأ ” المحور السياسي في الرواية باختيار ” أم ” أمريكية ، اختارها الأب ، ولا يزال يعيش على ذكراها ، فالفتاة يتيمة ، وهذا الأب نفسه قد يتمه الحب فتبنّى إسعاد ثمرته . ولكن المحيط العائلي العام – الذي يرتبط به بقوة الفطرة والموروث ، يرفض هذا الحب ، كما يرفض رمزه الباقي .

وليس تعسفا – كذلك – أن نقرأ هذه الرواية قراءة اجتماعية ، أو مجتمعية ، ترصد تصاعد موجة الانفتاح على التجارب الحديثة ، ممثلة في إرسال بعثات الطلاب ( العرب = الكويتيين في هذه الحالة ) إلى أمريكا ، والتباهي بتعليمهم الراقي وتفتحهم ، ومع ذلك لا يرحبون ( = يرفضون ) أي تأثر يمس الموروث من المعتقدات وحتى التقاليد السكوكية مهما كانت عابرة أو بريئة !!

 

على أن القراءة النقدية ( المنصفة ) لا تستطيع أن تفصل بين المحورين : السياسي والاجتماعي ، وهذا برهان على تملك الكاتبة / الساردة / ليلى زمام التصور للشخصية وغرسها في مهادها المجتمعي العائلي ، والحقبة الزمنية على حد سواء . سنشعر – لا محالة – بقدر من المبالغة في ” تسامح ” هذا الأب ( جعفر ) بقبول سلوكيات فتاته الوحيدة اليتيمة ( حتى مع الوحدة واليتم ) – وهذا التسامح ( كذلك ) في حجم الجرأة التي تتمتع بها الفتاة في انفرادها بتقدير المواقف والعواقب رغم ما يواجهها من حذر وتحذير ( عائلي من جهة آل أبيها ) – ربما أساغ هذا – نسبيا ، ونفسيا ، إلى جانب الوراثة المزدوجة أن “ليلى” لم تكن تشعر بالحنان الفطري ( المتعاطف – ولو نسبيا ) من جهة جدتها وعمها وزوجة عمها ، وإحدى بنات ها العم – بقدر ما شعرت من الرفض والتنديد بالأم ( إلى درجة رفض الترحم عليها ، لأن الترحم لا يجوز إلا على المسلم (!) ومجابهة الفتاة بمقولة : إن العرق دساس ” !! ( الرواية : ص32 ) ، وإذ تذهب ” ليلي ” في إجازتها إلى أخوالها في ميامي ، فإنها – لا مفر – تقارن بين لقاء عائلة الأم ، وعائلة الأب ، لها ، وتفطن إلى الفروق في المشاعر وصدق السلوك مع الاعتقاد المعن ، ففي الوقت الذي تعلقت فيه ليلي بشاب ( كويتي ) تعرفت عليه في ميامي أيضا ، فاكتفت به ، وتبادلا أمارات الحب الصغيرة ، حتى تزوجا في نهاية الرواية ، وكأن ” الكاتبة ” لم ترد أن تخيّب رجاء القارئ ( العادي ) في إضفاء معنى الصدق في الحب حتى وإن اعترضته بعض النزوات والأخطاء ( بل الخطايا ) فإن واحدة من بنات عمها كانت تقيم علاقات حب متعددة ، عبر اللقاءات والمكالمات الهاتفية ، وكانت ليلي تعجب كيف يمكن لبنت عمها ( الخشن المخيف ) أن تغافل أهلها ، وان تحتفظ بهذا العدد من العلاقات دون أن تخلط بين أسمائهم ومواعيدها معهم ، بل تذكر ليلي أن بنت عمها هذه حاولت الاتصال بالشاب الوحيد الذي اقترب منها وارتضته حبيبا ، لاختطافه ، وما عاتبتها ليلي على فعلتها ، استنكرت العتاب !! ، ومن وجه آخر فإن زوج إحدى عماتها هجر بيته ، والتحق بجماعات ” الجهاد ” في أفغانستان ، وكان يرسل لزوجته مالاً شحيحا ، وإذا زار الكويت في إجازة فإنه كان يسأل أطفاله عمن يزور أمهم أو يحادثها بالتليفون !! وخلاصة هذا أن الوجه الإسلامي ( اعتقادا وسلوكا ) الذي تعاملت معه ليلي اضطرارا ، أو لاحظته ، لم يكن الوجه المتسامح العاطف على معاناة البشر ( أيا كانوا ) المتقبل للاختلاف تأسيسا على أن الناس جميعا من خلق الله ، وفي رحمانيته . هكذا تجري ” المقابلة ” بين الموروث المسيحي في شخصية الفتاة ، والموروث الإسلامي – كما ترصده تجربة الرواية مرتبطة بسياقها الزمني ( فلا نزعم أنها تعبّر عن رؤية أو مطلق أو معتقد للكاتبة ) .

 

في سياق الرواية ورد ذكر عقيدة الأم ( ماريا : المسيحية ) – وما تتذكره الطفلة وتستعيده بعد اكتمال أنوثتها من عبارات أمها وتكوينها الثقافي في أربعة مواقع ( الرواية : ص73 ، 90 ، 91 ، 92 ) وجميعها تحض على التسامح والأخوة بين البشر .

 

تقول ليلي معبرة عن ذاتها :

” علمتني ماريا أن الاختلاف هو مشيئة الله الذي حدد لكل مخلوق غاية من وجوده ، أن الوجود هو رغبة الله في الظهور ، واختيار المادة من خلال جميع مخلوقاته ” ( الرواية : ص73 ) .

 

وهذا التصور المسيحي يقول به الصوفية في الإسلام ( بخاصة الصوفية الشعراء من الفرس مثل : عبد الرحمن الجامي ) .

وتقول :

” نتقارب حين نكفّ عن الحكم على بعضنا ، حيث نتلقف معتقداتنا – باختلافها  بلهفة الناهل من المعرفة ، المقدر لعظمة تنوعها ، الموقن بأن للحقيقة ألوانا تشبه ضوء منبعها وأصولها ، فكيف الحياة بلا تنوع ألوان ؟! بأن اختلافنا هو سمة جمالنا ، بأن للآخر نورا لا يشبه غيره ، وأنه من الظلم تلوينه وتهجينه ونفي إرادته … بأن الضراعة والعبادة ليستا حكرا على نسّاك دون غيرهم . بأننا ذالك رغم انقسامنا ” ( الرواية : ص73 ) .

 

وتقول ليلي مستعيدة بعض ذكرياتها مع أمها :

” رافقت أمي في زياراتها المتباعدة إلى الكنيسة في مناسبات متفرقة ، وخلال رحلة علاجها أشعلت وجدتي وخالتي الكثير من الشموع . كنت التحف صلاة خاشعة تضمها عيناي المغمضتان . لم أدرك ما أتلوه أبدا ، ولم أحفظ أي ترتيل ، لكني كنت أشبك أصابع كفيّ معا ، أقربهما من شفتيّ ، أتمايل مع حاجتي لرحمته ، وأحاكيه بصمت جليل ” – ( الرواية : ص90 ) . وإذ تجري مقابلة هذا الطقس الصامت لطفلة ، تجاه اصطحاب ” جدتها ” ( أمها العودة ) لتؤدي صلاة التراويح في المسجد ، والذهاب معها لأداء فريضة الحج وهي في الحادية عشرة ، ومن ثم عجزها ( الجسدي ) عن إتمام المناسك ، نشعر بأن نوعا من القسر قد مورس على هذه الطفلة ، أوجد بينها وبين موروثها الديني نوعا من عجز الممارسة الذي يغري بالاستسلام للهرب !!

 

لقد دفع الإلزام القسري المتعجل إلى مقولات لم تجد من يناقشها أو يدحضها ، فاستقرت في الوجدان البرئ كحقائق مطلقة ، وهي ليست كذلك ، فنلاحظ – حتى – انفراط الاجتماع العائلي الأسبوعي عند ” الأم العودة ” ، إذ فرض الحجاب والفصل بين السيدات والرجال ، في ديوانين ، وتعبر عن منظورها أو تكييفها لما تشاهد قائلة : ” إنهم يربون الخوف فينا باحتراف جاهلي ” ، ومن ثم تستخلص من فرض الحجاب أنه ليس سوى تبرير الرجال لكل آثامهم ” . ( الرواية : ص83 ، 54 ، 93 ) !!

هذه – إذن – خلاصة حياة ليلى / ليلي ، الكويتية ، الأمريكية ، المتشكلة بطموح تسعينيات القرن الماضي وحتى تاريخ كتابة الرواية أو نشرها ( 2008 ) – وقد قسمتها تحت خمسة عناوين ، أولها محايد ، وثانيها ( ص67 ) قرآني الصياغة : ” ونفس ما سواها ” ، وثالثها ( ص103 ) الفرد ومسؤوليته تجاه ذاته : ” ليس سواي مخلص ” ( ص151 ) …

 

عبر هذه التجربة الذاتية ( بالنسبة لفتاة الرواية التي تولت منفردة تقديم سيرتها وكل ما شاركت فيه أو لاحظته ) حاولت إدماج تجارب وقضايا ( قد ) تبدو هامشية ، ولكننا نرى أنها تغني التجربة الذاتية للرواية ، وتقوّي الاقتناع ، أو الميل إلى – واقعية الرصد لطبائع المرحلة ، كما توجد نوعا من الاشتباك أو التداخل بين محاور المجتمع الكويتي  وليس الاقتصار على مجتمع الكويتيين ، فهناك قصة الفتاة الصحفية المتمرسة ” سارة ” التي قدمها الأب ( جعفر ) إلى ابنته بدعوى أنها ستدربها إعلاميا ، وتدرك الابنة – من اللقاء الأول – أن والدها يضمر شيئا تجاه سارة ، وأنها تتكلم عنه بألفة تتجاوز معرفة رجل أعمال بصحفية أجرت معه حوارا ( !! ) وبالفعل – تزوج جعفر وسارة ، وأنجبا لليلي أختا ، في نوع من المقايضة ، غ وافق جعفر على زواج ليلي وعاد ( بعد حدوث ما جعله يتنكر لعادل ) – ونعرف أن سارة ( درزية الأب لبنانية ) غيرت اسمها ، وليس معها أوراق ثبوتية، ونعرف أنها  ربما – تنتحل اسم أختها التي قتلت في لبنان ( فاسمها الحقيقي مريم ) – ونكون  من خلال أسرة سارة – على كثب من مشكلة ” البدون ” لدرجة أن الرجل غير الكويتي يطلق زوجته الكويتية ليكون لها الحق في طلب الجنسية لأبنائها ! ونعرف كذلك أن أم عادل ، ترفض أن تهذب تخطب ليلي ، لابنها ، لأن ” ليلي ” ليست كويتية خالصة !! إلخ . هذه الشذرات ، أو الدوائر المعلقة بمسار القصة الأصلي ، تتوالد منها ، لتعود إليها ، فتكسبها مزيدا من الألوان المفاجئة ، تصدم الألفة وتجدد التشويق .

 

نتأمل عنوان الرواية ، وجميع ما مر بنا ، وما سيأتي من الروايات المكتوبة بأقلام نسائية يحمل عناوين قابلة لأن تكون رموزا ، ولأن تكون عناوين صحفية تهدف إلى إثارة الاستطلاع ، ولأن تكون بمثابة كسر لغوي يغري المتلقي بالبحث له عن ” تقدير ” يجبر كسره !! وهذا العنوان : ” قليلا وشهقة ” من هذا النوع الأخير ، فالقله – غالبا – وصف للزمن  وللحجم ، ويغلب هنا وصف الزمن ، ولكن  ما بال هذه الشهقة ، التي تكررت  على مدار الرواية – تسع مرات ؟ ( الصفحات : 48 ، 63 ، 65 ، 70 ، 93 ، 114 ، 123 ، 126 ، 220 ) – ترد بالمفرد كما في عنوان الرواية ، وبالجمع : شهقاتي ، وتكون حركة حسية ( أنثوية ) تلقائية حينا ، كما تكون تعبيرا عن القرب الزمني ، كما في : الله على قرب شهقة ( ص93 ) وكأنما تستوحي العبارة القرآنية : ) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( ، ولكن المعنى المستخلص أو المجرد لما عانته هذه الفتاة التي واجهت صدمات مبكرة ، وظنونا متحفزة ، أنه لا أحد يفوز بكل ما يريد ، ولا أحد يخسر كل شيء ، فالتغيّر قانون الحياة ، كالاختلاف ، وليس بينك وبين تحقيق ما تريد أو فقدانه غير مقدار شهقة ، وليس اقل – في قياس الزمن ، من شهقة !!

 

في هذه الرواية إيجابيات فنية تعلن عن مهارة واقتدار ، مثل وصف الشخصيات ( النسائية خاصة ) وتوليد الاستعارات التي تناسب الشخصيات المختلفة ، وتلتقي عند تواشج النسيج اللغوي ، ومن هذه الإيجابيات ثقافة الكاتبة التي وجدت في تصريف المعاني وعمق التأملات بديلا عن الإغراب في الأحداث واصطناع المصائر الغريبة . لقد اختير كل حدث جانبي أو عابر بكثير من الحذر ليؤدي معنى جزئيا باستطاعته أن يتماحى تلقائيا في الحدث الرئيسي ، نجد هذا في تحولات أحمد وفيصل ابني عم ليلي ، والأثر الانعكاسي الذي صنعه هذا العم الفظ في معاملة أبنائه ، على أن ” لمسات ” التصوف جاءت في سياقها وطاقتها إذ تكافئ جوهر تجربة تشهد بأن الحب قدر ، وأن الأرواح مقسومة منذ الأزل ، وتلتقي أو تفترق بفعل القدر .

 

* * *

رواية التفاصيل الصغيرة

هذه الرواية : ” دنيانا مهرجان الأيام والليالي ” للكاتبة ” دلال خليفة ” ، هي الرواية الوحيدة – بين كل ما قدمنا من روايات  التي حظيت بدعم المؤسسة الثقافية :                      ” المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث ” بالدوحة ، عام 2000 – وهذا في ذاته يحمل دلالة على إمكانات التأليف الروائي في قطر . وكان لي اتصال مباشر بالنشاط المسرحي القطري تأليفا وإخراجا ، وهو متقدم عما أتيح لي قراءته أو القراءة عنه من فنون السرد ( القصة القصيرة ، والرواية ) فإذا رجحنا القول بأن هذه الرواية تمثل طابع البداية في التأليف الروائي فلن نعد هذا نيال من قيمة الكاتبة ومحاولتها ، وإنما هو وضع لتجربة في موقعها الزمني وسياقها الفني . وقد يشي العنوان بكثير من تفاصيل الطابع السائد ، إ يضيف ” الدنيا ” إلى ضمير المتكلمين ، وقد يعني بالمتكلمين ” هند ” و ” ماجد ” بطلي قصة الحب ( ونا : ضمير يصدق على الاثنين المتكلمين ) كما قد يتطلع هذا العنوان إلى صياغة ما يتوق السارد الغائب ( العليم بكل شيء ) بأن يرسله في عبارات أقرب إلى ” اكليشيهات ” الجاهزة ” ، أو الحكم المرسلة . ومهما يكن من أمر هذا العنوان فإنه يحمل طاقة عالية من التفاؤل والاطمئنان إلى الحياة ، بأن جعلها ” مهرجانا ” ، ولا يكون المهرجان إلا معرضا ومناسبة للفرح والبهجة .

 

الرواية تحكي قصة حب يمكن أن توصف بأنها ” رومانسية ” ، ليس بمعنى أنها           ” مهجران ” ، ولكن بمعنى أن الحياة لا تمضي  في كثير من الحالات  وفق ما نرغب فيه بإرادتنا ، فهناك ” القدر ” الذي يحرك الناس في اتجاهات لم يعملوا لبلوغها ، تماما ، كما تصور الرواية – مثل حبات الرمال في الساعة الرملية – ” المزولة ”  إن حبات الرمل تنزلق بلا تدبير ، وفي لحظة محددة ، ستلتقي حبتان في مضيق ” القمع ” دون تدبير . ولعل هذا التصور ” الفلسفي ” كان يشغل الكاتبة ، التي صورت الحياة – على نقيض ما يوحي عنوان الرواية – بأنها صراع : ” بركان دائم الغليان ، والناس فيها كالأنغام الصاخبة ، تتدافع ، إ تبدو الأشياء عشوائية ، وتبدو الأحداث  كالصدف ( المصادفات ) ( الرواية : ص9 ، 10 ) في حين أنها محسوبة الحركة بكثير من الدقة ..

 

يمكن أن نصف هذه الرواية بأنها قصة حب قدرية ، والتدبير القدري لا سلطان للبشر عليه ، ولها تم الزواج على كثرة ما اعترض سبيله من عقبات مختلفة . لقد حرصت الكاتبة على ” بث ” المصادفات ، والعثرات . ووضعتهما في مواجهة ، على أن أزاحت المصادفات القدرية كافة العثرات عن طريقها وأنفذت حدسها وتقديرها الخارج عن تدبير البشر .

 

إذا احتكمنا إلى الأسلوب ، أو عمل الحواس لدى الكاتبة ، فإن العنوان الذي صدرناه يكون صالحا لوصفها ، إذ نجد العناية بالتفاصيل الصغيرة ، الحسية والمعنوية تأخذ حيزا كبيرا في وصف المشاهد والمشاعر والشخصيات ورصد التوقعات . إن هذه العناية المسرفة بالتفاصيل إحدى خواص الفن القصصي ، وهو في هذا نقيض الشعر الذي تكتنز صوره المعاني والدلالات الكثيرة في مجازات ورموز قليلة ، ومختف عن المسرح كذلك ، الذي يتولى المشهد المسرحي والديكور والحركة التعبير عن أمور كثيرة تقوم بالدور البديل لكلام . فمن العناية بالتفاصيل تلك اللحظة التي تقدم فيها الشاب ( الباحث عن وظيفة ) ماجد ، فدخل مكتب فيصل ، وهذا الأخير مشغول لم ينتبه إليه . لقد احتاج هذا الموقف العابر إلى أربع صفحات ( الرواية : ص65 – 68 ) ، وبالمثل هذه العناية بتفاصيل ما جرى في كابينة الطائرة ( الرواية : ص132 وما بعدها ) بين ماجد وهند ومن معهما ، ونسوق هذا النص :

 

” قبيل آذان المغرب جلست منيرة مستندة إلى مسند مزخرف في المجلس العربي ببيت خالة هند ، على يمينها هند بأظافرها الجديدة ذات اللون البهيج، وعلى شمالها أم سعود حماة خالتها التي ارتدت ثوبا مشجرا ومعطرا بدهن العود والبخور ، وقد ظهر من تحته سراويل مطرزة بخيوط ذهبية جميلة . جدار المدخل الزجاجي يظهر الحوش المبلط وجزءا من الحديقة ، والجميع يرتشفون الشاي من أكواب شفافة صغيرة ” ( الرواية : ص134 ) .

 

المبالغة في ذكر التفاصيل واضحة ، وهي تفاصيل مألوفة يمكن أن تستمدها من الذاكرة ، وهي – وإن لم تخل من طرافة  ليست بنائية في تشكيل الرواية أو توجيه فكرتها .

 

وبالمثل ، إذا احتكمنا لمسار القصة / الحكاية في هذه الرواية سنجد فيها عناية مبالغا فيها بالمصادفات التي تخرج عن تدبير الأشخاص إلى تدبير المقادير ، وهذه النزعة – على رومانسيتها – تناسب الرواية الشعبية التي تكتب للتسلية والترفيه عن العامة . إن العنصر القدري أو المصادفة مما لا يمكن إنكاره ، ولكن الاطمئنان إليه في تدبير الأمور الحاسمة يفرض على الحياة تصورا لا يخلو من الزيف وهي أنها – عند قوم : مهرجان الأيام والليالي ، وعند قوم آخرين : دار المناسبات الحزينة أو المحبطة !!

 

لقد رأت هند – المدرسة – في طريقها إلى عملها سيارة خضراء طرف في حادث اصطدام ، ورأت شابا نحيلا يقف في المكان فافترضت أنه مرتكب الحادث ، واستغربت وجود سيارة باللون الأخضر فعلقت في مخيلتها ، وبخاصة حين رأت تتابعا رقميا في رقم السيارة !! فظل هذا المشهد يتراءى لمخيلتها ، واستحضرت صورة الشاب النحيل .. الذي سيصادفها مرة أخرى ، فلا تشعر نحوه بالميل . ولكننا سنعرف فيما بعد أن هذا الفتى النحيل ( ماجد ) ولد في المستشفى والغرفة واليوم والساعة التي ولدت فيها ( هند )  فأي تدبير ، أو أية مصادفة ؟!

 

وهكذا تتكرر مصادفات أخرى ، حتى اعتراض والد هند على استمرار زواجها من ماجد ، بعد أن وافق ، وتم العقد وجرى إعداد بيت الزوجية ، هذا الاعتراض الحاد الصاخب يعتمد على مصادفة كذلك .

ويتأكد الطابع الرومانسي في أن ” ضفيرة ” القصة مجدولة من إيجاد عثرات وموانع تعترض طريق الحب ، ويتمكن المعنيان بها من تخطيها بتدابير أو مصادفات قدرية ، إنها في تعقبها للسيارات الخضراء تفسر الألفة والحب لشخص بذاته :

 

” لأن الالتقاء لحظة مقدر لها منذ الأزل ، كان أسلافي وأسلافك في العصر الحجري يتنقلون شعث الشعور من مكان إلى مكان مرتدين جلود الحيوانات الفجة ، وهم لا يعلمون أنهم حلقات في سلسلة لقائنا ! “

( الرواية : ص206 )

هذا مقبول في صميم نظرية الحب / العشق عند العرب ، أما مصادفات الأصدقاء المشتركين فإنها تضعف بناء الرواية وإن تكن ” المصادفة ” واقعا يحدث كل يوم .

 

ومن أوجه الرواية الرومانسية الاهتمام بالوطنية والطابع الوطني والأعراف والتقاليد ، وقد عنيت ” مفردات ” الرواية بإبراز هذا الجانب ، في الرحلة إلى جبل الدخان ، والعناية بأشجار البيئة حتى لا تواجه الانقراض ، وكذلك الطيور المعرضة للفناء . وتعكس الرواية خصالا اجتماعية طيبة تجري في إطار العائلة الصغيرة ، مثل الاجتماع الأسبوعي ، وحتى شرب الشاي بالهيل والزعفران ، وتفرق بين ما يحق للأب أن يتحكم فيه فيطيعه أولاده دون مناقشة ، حتى تقول هند : ” أنا مستحيل أقهر أبوي ” ( الرواية : ص200 ) فتطلب الطلاق من حبيبها لأن والدها قرر هذا دون كشف عن أسبابه ، التي سيظهر أنها أسباب تتعلق بطلب المصاهرة أيضا في جيل الآباء !!

 

إن هذه الرواية تضع تحت عدسة الفحص أصغر أسرة – من حيث العدد  في مواجهة مع نظيرتها ، وبهذا تراجع البعد الاجتماعي العام ، فلم تظهر آثار التطور أو التغير الآمن خلال بعض المظاهر ، مثل ظهور السجاد الحرير ، وقضاء جزء من العطلة خارج قطر ، واختيرت الإمارات لتظل الرواية في الإطار الخليجي ، وفي هذا التوجه إيماء إلى أن المرأة والرجل من أقطار الخليج من الخير أن يبحث التي تحتاج إلى ” رحلة ” خارجية ، وإن بدرجة ما ، يتاح للحب فيها أن يتنفس بقدر أكثر من الحرية . ففي الطائرة ، ثم في ضيافة الخالة بالإمارات حدث التقارب المفضي إلى الخطبة !! من ثم يمكن أن تضاف إلى قصص الحب المهاجر كما في روايات سابقة !!

 

في سياق الحوار والسرد انحرافات عما قررته الكاتبة في مقدمتها للرواية بالنسبة لكتابة الألفاظ الخليجية ، وكذلك اضطربت مداخل الفصول ما بين فصل يتصدره عنوان ، وكأنه مركز الدائرة ، وفصل يكتفي فيه بوضع الرقم المسلسل ، وكان من الخير أن تكتفي           ” دلال خليفة ” بالنص الحكائي ، ورسم لوحة الغلاف ، فهذا جزء من عتبات النص التي تنتمي إلى التجربة في جملتها ، دون ذلك عملية ” التنفيذ ” التي دلت على شيء من التسرع وضعف المراجعة . أما مفاهيم التكافؤ القبلي التي وجهت الحكاية فقد أدت وظيفتها .

 

* * *

ثرثرة ” سنة أولى حب ” !!

هذه الرواية ” الاعترافية ” قادمة من إمارة ” رأس الخيمة ” – إحدى إمارات دولة الإمارات العربية المتحدة ، كتبتها ” عائشة جاسم الطنيجي ” ، وهي أحدث الروايات التي تناولتها هذه الدراسة ظهورا ( 2014 ) ، أما الكاتبة التي تدرس الهندسة المعمارية في جامعة الشارقة ، فإنها تكتب الشعر ( على لسان بطلة روايتها ” حصة ” حين يحرك حبيبها العسكري الشاب ” مطر ” مشاعرها الجاهزة للاستثارة . عنوان الرواية يحمل اسم البطل ” مطر ” يتبعه عنوان شارح ، أو بديل : ” أو : أيما كنت ” وهذا تعبير عن الماهية ( = أياًّ ما كنت ) بمعنى : أنت هو ، مهما تكون أو تفعل . وها العنوان يتفق وختام حكاية الرواية ، كما سنرى .

 

الرواية المكتوبة حديثا جدا ( 2014 ) تعبر عن ” حدود الاستطاعة العاطفية ” التي تملكها راهنا الفتيات والفتيان في تكوينات اجتماعية لا تزال تعيش حالة ” القبيلة ” وتحتكم إلى أعرافها ، وفي مقدمتها : أن بنات القبيلة . للقبيلة ، وابن العم مقدم على الغريب ، ورفض الخطبة أو الاعتذار عن قبولها يساوي ” الإهانة ” الشخصية . ولا يزال هذا المجتمع يفرض على فتياته تغطية الوجه بمجرد ظهور علامات الأنوثة . أما ” حدود الاستطاعة للفتيات ” فإنها تخضع لكل الشروط ( القبلية ) كما يريدها جيل الآباء ، ظاهريا ، ولكنها تمزق هذه الشروط وتذروها في الهواء عبر الهاتف النقال ، وأدوات التواصل الحديثة ، التي جعلت من حكاية الحب بين ” حصة ” و ” مطر ” مباراة ” لغوية ” لاستعراض الأغاني المتداولة والأشعار ، وتبادل عبارات الغزل التي تتسم بالجرأة في مواقع متعددة .

بناء القصة  في ذاته – تقليدي ، وإن امتاح نقطة بدء نادرة ، تعيد إلى الذاكرة الأدبية ما كان من الشاعر الأموي : عمر بن أبي ربيعة في تطلعه للنساء ومطاردتهن أثناء الطواف ، حتى يقول :

يذهب الناس للطواف احتسابا           وذنوبي مجموعة في الطواف

 

فهكذا انبثقت شرارة العشق بين حصة ومطر من خلال تجاور الأسرتين في الحرم ، وتقارب الإقامة في الفندق . إن الفتاة التي عاشت – على الهاتف  تجربة عشق ملتهبة ما كانت تستطيع أن تسجلها في صيغة اليوميات ، من ثم اختارت مدخلا فريدا ( مسرحيا ) بفقرة ( مشهدا ) وبعد تسعة عشر فصلا ختمت الرواية بـ ( مشهد 2 ) . وهذه الفصول المتعاقبة ، مع التجاوز عن الرغبة في استعراض المعلومات الثقافية والتاريخية والفنية .. إلخ ، التي تعترض مسار الحكاية ولا تضيف إليها شيئا ، بل لعلها تشتت التلقي عند مستوى من القراء ( هم في الأغلب جمهور قراءة الروايات ) – استطاعت هذه الفصول أن تروي وتصور ، بكثير من الدقة والمباشرة – قصة حب لفتاة مراهقة ، تنطوي في باطنها على شعور متوارث بضرورة الرجل للمرأة ، وضرورة أن المرأة بحاجة – دائما  لرجل يحكمها ، بل يتحكم فيها :

 

” أعتذر لكوني أنثى تحتاج إلى قوّام .. إلى رجل ”

” أفضل دائما أن يقودني رجل يفوقني قوة ، يفوقني ذكاء ، ويجيد توجيهي ! ”

أعتذر عن حاجتي إلى كف أكبر من كفي ، لتقبض على قلبي ، وقامة أطول ، وصوت أكثر وأكثر غلظة ، وصدر أكثر صلادة من صدري الهش ، الذي بإمكان أغنية أن تثقبه ”           ( الرواية : ص14 )

 

وتعود – غير مرة – لتعبّر عن شعورها ( هي ) بأهمية الرجل ، أي رجل !!

” أعرف أنني مهما تعلمت وتثقفت وحفظت حقوق النساء وحرياتهن .. فإنني سأعود لأخضع لرجل .. لأستند إلى ظهر ، وإلاّ قضيت العمر بقوام مائل ، أعرف أنني لن أصمد به . ففي النهاية يا عزيزي .. أنا تربية ” كلثم ” “

                        ( الرواية : ص147 )

 

و ” كلثم ” هي الجدة العجوز الحانية عليها ( نقيض الأم العودة .. الجافية في رواية : قليلا .. وشهقة ) والإشارة إلى الجدة هنا تعني رسوخ الموروث الأنثوي ، الذي عجزت دعوات العصر عن إزاحته  إلاّ ظاهرا – من معتقدات الأجيال الجديدة .

 

وينعكس هذا الشعور بحماية الرجل لأنثاه ( بكل ما تحمل العبارة من دلالة الإضافة ) أن تتصور الفتاة علاقة الحب تعني ” تملك ” الذكر للأنثى ، وأنه ينبغي  من ثم – أن يدافع عن حبيبته دفاع المالك عما يملك : و ” حصة ” تفضي بهذا التصور الباطن ، حين عرف   ” مطر ” أن أحد معارف أسرة فتاته تقدم لخطبتها !!

 

” كان انسحابا فجائيا .. ما أن تلقيت الخبر حتى صمت هاتفي عن اتصالاتك ورسائلك ..

كان هذا خذلانك الأول في تاريخنا معا .. ظننتك ستقاتل من أجلي .. ستثور وتقسم بأن تحرق بيته ، وتحطم سيارته ، لو رضيت به زوجا لي .. ستهدد بقتلي وقتله ..

هذا ما فعله أبي حين بلغه نبأ خطبة رجل آخر لأمي .. هو الذي أحبها منذ الطفولة .. ليذهب إلى الرجل ويضربه ، ثم يرسل إليها رسالة تهديد بقتل أي رجل يقترب منها ..

ولكنك بقيت هادئا كمقبرة .. باردا ككهف جليدي .. ساكنا كصبار في صحراء المكسيك .. ”                     ( الرواية : ص104 )

 

وقد تكرر هذا المعنى في عبارات أكثر استفزازا للعاشق :

” كتبت لي بعد أيام شيئا من تلك السخافات التي يرددونها .. النصيب والرضا والقناعة ”

” لكني لا أفهم .. كيف يمكن أن تقول بأنك تحب فتاة .. ألا يوجعك أن يلمسها آخر ؟! ”                        ( الرواية : ص105 )

 

على أنها تكرر هذه ” الكناية ” الأخيرة بصيغة فاجعة :

” .. رجل لن يكتفي بصوتي مثلك ، رجل سيتجاوزك بكثير .. وسيعبرني حتى آخري ! ”                    ( الرواية : ص106 )

 

بهذا التسليم الأنثوي ( الموروث ) عن أن الحب والزواج قضية رجل يرغب في فتاة، وليس قضية مشتركة ، تفسر الرواية استقبال ” حصة ” لعروض خاطب بعد آخر يرغبون في زواجها ، فيأتي اعتراضها من خلال استثارة الشاب ( مطر ) دون أن تعلن هي قبولا صريحا ، أو رفضا مسببا !!

 

          تصوير هذه الشخصية ( حصة ) التي تشبه أرضا بكرا ، تنبت كل حبة ما تأتي به الريح من الحبوب !! هو ما يناسب الطور الاجتماعي الذي تجتازه القبائل البادية التي فاجأتها مظاهر الحضارة وأدواتها دون تدرج أو تمهيد .

إن ” القبيلة ” حاضرة بقوة في مسار قصة الحب ، حاضرة في التصور الأخلاقي للبيئة كما تراها الفتاة ، أكثر مما هي حاضرة في الواقع السلوكي المعاش . ومن هذه الثنائيات القلقة ( في واقع التجربة وليس في الرواية ) انطواء الشخصيات على شعور بالفرح والاعتزاز ” بدولة الإمارات ” ، والانحياز لأدبائها ومطربيها ، والفرح بأعيادها ، والحزن الشديد المتجدد الفاجع لوفاة أميرها الشيخ زايد بن سلطان ( الرواية : ص45 – 47 ) وفي لغة الحوار ، عبارات مأثورة :

” كليشيهات ” بالنطق البدوي ، انحيازا له ، ولمزاعم ( أنها ) الواقعية ، في حين أنه يعطل المتلقي العام .

 

يتصادم الانحياز للبداوة ، والتهوين من وصفها أن ” مطر ” تقدم لخطبة ” حصة ” فرفضته أسرتها ، فلم يعاود ، ولم يتساءل أو يصحح !! ، أما أبوها وهو من إمارة ” أبو ظبي ” فقد كان من بين أسباب رفض خطبة ” مطر ” لها أنه من ” دبي ” .

 

” أبي أيضا رفض الخطبة ، رفض فكرة أن أغادر أبو ظبي بأكملها ، عز عليه أن تكون حبيبته بعيدة عنه لأكثر من مائة كيلو متر . ( من طلع من داره قل مقداره ) .. هكذا ظل يردد . ( الرواية : ص159 )

 

أما “حصة ” ، فلا تزال تملك ” شجاعة ” الكتابة ، وتوجيه عبارات الاستفزاز إلى ” مطر ” – دون أن تحمّل نفسها تبعة أيّ شيء .

 

” كنت أعرف أن إصرارك على الارتباط بي يمكن أن يغير رأيهم .. نحن في القرن الواحد والعشرين يا ” مطر ” .. القبيلة الصلفة التي ما كانت تهادن في قرارتها أصبحت أكثر مرونة ..

لكنك انسحبت ؟

إن دور العاشق الحزين الذي كسرته القبيلة لا يليق بك .. لا يليق برجل بدوي مثلك أن ينسحب بذريعة الكرامة التي لا تسمح له بأن ” يدق الباب للمرة الثانية ” .                  ( الرواية : ص168 )

 

يحتاج المحور القبائلي ، وانعكاساته على الحياة العامة وعلاقات المصاهرة من خلال ” التكافؤ ” إلى تحليل عرقي ، وفقهي ، واجتماعي ، وسياسي ، وقد ألمحت له هذه الرواية من خلال حكاية حب على قدر من الخصوصية ( الأسلوبية ) بين كاتبة وشاعر ، ليس بينهما تكافؤ ( نفسي ) فأطاح بحبهما غياب التكافؤ القبلي !! .

 

* * *

خاتمة .. موجزة جدا

بعد هذا العرض الوصفي التحليلي لعدد محدود من الروايات الأقرب إلى زماننا ، كتبتها أديبات خليجيات ، يمكننا أن نجمل خلاصة الصورة في :

  • أن جميع هذه الروايات – باستثناء رواية واحدة – صنعت سياقها من منظور الراوية المشارك الذي يتحدث بضمير المتكلم ، وهذا الأسلوب الفني هو الأكثر مناسبة للرواية النفسية ، أو ما يقارب الرواية النفسية مما يُكتب على سبيل المذكرات أو الاعترافات .

 

  • هذه الروايات جميعها تتولى روايتها ( الأنثى ) – باستثناء رواية واحدة كذلك – وهذا ما يناسب أن الكاتبة تنتمي إلى النوع نفسه ، بما قد يعني أنها تدخل جانبا من تجربتها الذاتية في سياق روايتها .

 

  • ” الشعرية ” واضحة في كثير من هذه الروايات ، إن لم يكن في جميعها . والشعرية تُستمد من لغة المجاز – وفي الروايات طرائف وإبداعات من المجاز تستحق دراسة قائمة بذاتها – كما أن هذه الشعرية تُستخلص من الحس الإيقاعي في بناء الجملة ، وفي تركيب الجمل ، وفي توجيه السياق بتعميق ما يتوافق ، أو بإحداث صدمة بعرض النقيض . على أن بعض الروايات شاءت أن تستعين بالنمط السائد من شعر المرحلة ( الموزون المقفى أو قصيدة التفعيلة ) ، ولم يكن أكثر هذه المحاولات محققة لروح الشعر ، ومراميه . كما استعانت بعض الروايات بالإسراف في ذكر الأغاني ( الخليجية بخاصة ) وتوظيفها في الحوار ، وكأنها خطاب من خلال القناع .

 

  • التصور المجتمعي الغالب على أهل الخليج ، في أكثر هذه الروايات ، هو التمسك بالقبيلة الذي يتحول إلى نوع من التصلب أو الهرب من مواجهة التفكير الموضوعي – وبخاصة في علاقات المصاهرة – في حين أن الطباع الشخصية لأهل القبيلة – كأفراد – تتسم غالبا بالرقة والتهذيب والمسايرة ، وربما التساهل السلوكي ، كما في بعض هذه الروايات . من ثم لا نريد أن نقول إن المجتمع الخليجي يعيش مرحلة تناقض ، أو مرحلة توفيق بين الموروث والمجتلب ، ولكن نقول ” إن المجتمع الخليجي – بوجه عام – يعيش مرحلة تفاعل وتطلع إلى كل الجهات ، وكل التجارب – كما تدل هذه الروايات ، وروايات كثيرة غيرها ، لم يتسع المجال لعرضها 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً