الاختيار – 20 أكتوبر 2016

الاختيار – 20 أكتوبر 2016

الاختيار
يستدعي رحيل الشاعر الإعلامي ( فاروق شوشة ) الكثير من الأفكار والسياقات ، كما تستدعي شخصيته الكثير من دواعي التأمل والاستبصار ، وهذا ما يتطلب وقفات متعددة .. متباعدة ، حتى لا نغمط جانبا على حساب الآخر من خواصه المتعددة . وكان من الطبيعي أن يحتفل به بيته ( الإذاعة المصرية ) فقد توالت برامج ومقابلات ، وتحليلات تخص الراحل الكريم ، وقد استوقفني في أحدها قوله : إنه بعد أن التحق بالإذاعة المصرية زمن بهرجتها ، وزهوها ، وتميزه بالبرنامج الثقافي ( الجديد ) رأى أن يسجل لدرجة الماجستير ، وقد حدث ، ولكنه بعد عامين تقريبا رأى أن مكانه الطبيعي ليس بين الأكاديميين ، ليس في سلك العمل الجامعي ، ولا بين أصحاب الألقاب العلمية ، وإنما بين المبدعين ( الشعراء ) وأصحاب الذائقة العالية في قراءة الأدب ، أو الشعر بخاصة !
لقد كنت على صلة – وثيقة أحيانا – بفاروق شوشة ، حتى عندما كان مذيعا لامعاً ، وكنت طالبا متفوقا بكلية دار العلوم ، وكان يأتي إليها زائراً ليلقى أعز أصدقائه ، الدكتور أحمد هيكل ، والدكتور عبد الحكيم بلبع ، والدكتور غنيمي هلال . في ذلك الزمن كنت ( مستلحقاً ) بهذه ( الشلة ) إذ كنت طالبا بالليسانس ، ثم باحثا متفرغا بالدراسات العليا ، وعرفت أن فاروق شوشة سجل لدرجة الماجستير في الشعر ( بالطبع ) تحت إشراف غنيمي هلال . الذي أعرفه أنه لم يكمل إنجاز الرسالة المطلوبة ، ولم أسأله في ذلك ، ولا يحق لي أن أسأل ، ولكنه كشف قناع هذا الجانب في واحدة من المقابلات التي أجراها ، وأذيعت مؤخراً ، إذ قال : إنه في لحظة معينة أحس بأن مكانه ليس بين المشغولين بالبحث العلمي ( الأدبي ) من حملة الألقاب ، وأن مكانه الحقيقي هو الإبداع ، والتجول بحرية بين منابع الثقافة العربية في كافة عصورها . وكان اختياره حاسما ، وبعد هذا الزمن الطويل نستطيع أن نقول إنه كان اختياراً موفقا ، ويدل على أن فاروق شوشة كان يملك ( بصيرة ) نافذة ، وانه وصل حالة من التجرد عن الهوى ، والتطلع إلى الاحتمالات ، واختلاف المصائر مما يؤكد على عظم ثقته بموهبته ، واطمئنانه إلى قدراته .
أعرف أشخاصا آخرين عاشوا مثل تلك اللحظة الفارقة ، لم تكن لديهم شجاعة فاروق شوشة في مواجهة لحظة الاختيار ، والتفطن العميق لمصادر قوته وخصوصية شخصيته ، وسلامة ذائقته .
رحم الله فاروق شوشة رحمة واسعة ..

اترك تعليقاً