محاسيب ومجاذيب – 23 أكتوبر 2016
محاسيب ومجاذيب
وبينهما قدر مشترك هو : تسلط الفكرة الواحدة ، أو الهاجس المسيطر على قوى الفكر وملكة الخيال ، فإن كان من درجة فارقة فإنها تبدو في طريقة التعبير ، وتوجيه السلوك ، وقد صادفت أصنافاً / مستويات من هذا وذاك ، قد يبلغ أحدها مبلغ السخرية والعجب ، وقد يثير آخر الإعجاب ، على الأقل للقدرة على احتضان الفكرة الواحدة والإصرار عليها كل هذا الزمن الطويل .
أذكر – وأنا أعمل في جامعة الفيوم – أن أستاذا تعرَّف إليّ ورغب في أن يركب معي في سيارتي ما بين المعادي والفيوم ( وكان من سكان المعادي ) فكنت أمر عليه ، واحمله معي ، ولا أجد منة في ذلك ، ولكنه كان يأبى إلا أن يبدو ناصحاً ومفيدا لي طوال الرحلة ، وهي رحلة طويلة نسبيا ، ومتكررة ، وكنت أشم رائحة أنفاسه فتضايقني – بدرجة ما – لما فيها من رائحة الثوم بشكل مستمر . وقد برر هذا أنه يعرف من تخصصه العلمي أن الثوم يحفظ الشباب ، وينقي الأمعاء ، ويطهر الفم .. إلخ . وكان يتفنن في تخزينه بالفريزر وبوسائل أخرى ، ولم يكف عن هذا الحديث يوما حتى انتهى العام ، واختلف الجدول فلم يعد لصحبتنا مسوغ !!
وأذكر أستاذا آخر كان على العكس من سابقه يتسلط عليه هاجس ( القرنفل ) وكان يقول عن القرنفل ما قال سابقه عن الثوم ، ولا يخلو فمه مطلقا من ( كبش ) قرنفل ، ولمن لم يجرب فإن رائحة القرنفل المبالغ فيها تثير من المضايقة ما قد يقارب رائحة الثوم .
إن المبالغة في اعتناق شيء مادي أو فكري ، أو فني أمر محمود ، وقد يكون وراء نزعات التجريب ، والقدرة على الاكتشاف ، ولكن الإسراف آفة ، والمبالغة تؤدي إلى مصادرات عقيمة غالبا . وأذكر أن من بين زملائنا – في زمن الطلبة بدار العلوم ( أيام كانت بحي المنيرة ) – من كان يتسلط عليه هاجس ” العقاد ” ، فيحدثك عنه في أي مكان ، ودون مناسبة ، ومن غير تداعيات تتطلب هذا ، ويظل يطاردك بالعقاد حتى تكرهه ، وتكره زميلك نفسه ، وحدثني ابني الدكتور البشير الذي غاب في دولة الإمارات ثلاثة أعوام ، أنه التقى أمس صديقا يعمل محاميا ، من مجاذيب الصوفي الكبير ( ابن عربي ) ويقول البشير : إن هذا المحامي الشاب كان دائم الكلام عن ابن عربي ، ولا يتكلم في غيره ، وأنه حين لقيه بعد فراق ثلاثة أعوام فإن هذا المحامي افتتح اللقاء بالكلام عن ابن عربي ، وكأن الصديقين لم يفترقا هذا الزمن الطويل !!
إن المبالغة وتسلط الفكرة الواحدة ، والإصرار على اعتناقها ، أو مضغها بمناسبة وبغير مناسبة أمر كريه ، ويغلق النوافذ الإنسانية والمرونة والتسامح في العقل والوجدان .
من طريف ما أتذكر في هذا السياق أن زميلا عمل في الكويت مدرساً مثلما كنت أعمل ، وقبيل عودتنا إلى الوطن بدأنا نسعى إلى الأسواق ، ونشتري الهدايا للأهل والأصدقاء في حدود الممكن ، أما صاحبنا – الذي رأى أنه لا معنى لشراء أي شيء ، وحمل أي شيء ، فقد اكتفى بحقيبة يده ( لا غير ) وفيها البيجامة والشبشب وماكينة الحلاقة ( لا غير ) وعندما وقف أمام رجل الجمارك وسأله عن حقائبه ذلك السؤال التقليدي ، قال له : لا حقائب معي ، هذه كل ما أحمل !! فشك فيه رجل الجمرك ، ولم يصدقه على الإطلاق ، وأحاله إلى التفتيش الذاتي في حين انطلقنا جميعا نجرر حقائبنا المثقلة بالكتب والهدايا !!