اختيار فاروق شوشة

اختيار فاروق شوشة

اختيار فاروق شوشة

يستدعي رحيل الشاعر الإعلامي (فاروق شوشة) الكثير من الأفكار والسياقات ، [ كان رحيله يوم 14 أكتوبر 2016]، كما تستدعي شخصيته الكثير من دواعي التأمل والاستبصار، وهذا ما يتطلب وقفات متعددة .. متباعدة، حتى لا نغمط جانبا على حساب الآخر من خواصه المتعددة . وكان من الطبيعي أن يحتفل به بيته (الإذاعة المصرية) فقد توالت برامج ومقابلات، وتحليلات تخص الراحل الكريم، وقد استوقفني في أحدها قوله : إنه بعد أن التحق بالإذاعة المصرية زمن بهرجتها، وزهوها، وتميزه بالبرنامج الثقافي (الجديد) رأى أن يسجل لدرجة الماجستير، وقد حدث، ولكنه بعد عامين تقريبا رأى أن مكانه الطبيعي ليس بين الأكاديميين، ليس في سلك العمل الجامعي، ولا بين أصحاب الألقاب العلمية، وإنما بين المبدعين (الشعراء) وأصحاب الذائقة العالية في قراءة الأدب، أو الشعر بخاصة
لقد كنت على صلة – وثيقة أحيانا – بفاروق شوشة، حتى عندما كان مذيعا لامعاً، وكنت طالبا متفوقا بكلية دار العلوم، زمن انفرادها في حي المنيرة، وكان يأتي إليها زائراً ليلقى أعز أصدقائه: الدكتور أحمد هيكل، والدكتور عبد الحكيم بلبع، والدكتور محمد غنيمي هلال . في ذلك الزمن كنت (مستلحقاً) بهذه (الشلة) من الأساتذة ذوي المقامات والأسماء اللامعة، إذ كنت طالبا بالليسانس، ثم باحثا متفرغا بالدراسات العليا، وعرفت أن فاروق شوشة سجل لدرجة الماجستير في الشعر (بالطبع) تحت إشراف غنيمي هلال . الذي أعرفه أنه لم يكمل إنجاز الرسالة المطلوبة، ولم أسأله في ذلك، ولا يحق لي أن أسأل، ولكنه كشف قناع هذا الجانب في واحدة من المقابلات التي أجراها، وأذيعت مؤخراً، إذ قال: إنه في لحظة معينة أحس بأن مكانه ليس بين المشغولين بالبحث العلمي (الأدبي) من حملة الألقاب (الماجستير والدكتوراه وما يترتب عليها من الدرجات العلمية/الوظيفية الخاصة بهيئة التدريس في الجامعة)، وأن مكانه الحقيقي هو الإبداع، والتجول بحرية بين منابع الثقافة العربية في كافة عصورها . وكان اختياره حاسما، وبعد هذا الزمن الطويل نستطيع أن نقول إنه كان اختياراً موفقا، ويدل على أن فاروق شوشة كان يملك (بصيرة) نافذة، وانه بلغ حالة من التجرد عن الهوى، والتطلع إلى الاحتمالات، واختلاف المصائر، مما يؤكد على عظم ثقته بموهبته، واطمئنانه إلى قدراته التي تميز بها.

أعرف أشخاصا آخرين عاشوا مثل تلك اللحظة الفارقة، لم تكن لديهم شجاعة فاروق شوشة في مواجهة لحظة الاختيار، والتفطن العميق لمصادر قوته وخصوصية شخصيته، وسلامة ذائقته [ولعلي واحد منهم] !!

إن قدرة الشاعر المثقف المبدع ” فاروق شوشة ” على حسم مواقف الاختيار من خلال وعيه بذاته وبصيرته النافذة في الاحتمالات تمثل مرحلة فارقة عندما يعاني الإنسان أن يكون على مفترق طرق، ويطلب منه الحسم والقرار الذي لا رجعة فيه .

من هذه المواقف اختياره لأن يكون إعلاميا، وشاعراً ومبشرا بثقافة راقية وإيجابية، وتفضيل ذلك على أن يكون حاملا لدرجة الماجستير، ثم متطلعا إلى الدكتوراه، ثم منتظراً لما تغري به الدكتوراه من شغل وظائف هيئة التدريس في إحدى الجامعات .. إلخ، ولعل الفرق الجوهري بين ما تطلع إليه فاروق شوشة، وما انتهى اختياره إلى تفضيله يتأصل على حرية الموهبة المبدعة، وانطلاقها، وخضوع النزعة البحثية لقواعد المنهج!!


وقد حدثني فاروق شوشة – في مناسبة أخرى بعيدة زمنيا – عن اختيار آخر اجتازه بلباقة ومهارة، وكانت بصيرته النافذة ووعيه بالاحتمالات على رأس الأدوات التي أتاحت له هذه الخصوصية السلوكية المهذبة التي تقول كل شيء دون أن تلحق أذى بأي أحد .

أذكر أنه حين شغل الدكتور أحمد هيكل – رحمه الله – منصب وزير الثقافة، وكنت حينها أستاذا بجامعة الكويت، فلما نزلت إلى مصر في عطلة الصيف، ولقيت الوزير (الأستاذ والصديق القديم والدائم) فتحدثنا في الشأن الثقافي العام، وفيما يلقى من مشاكسات من بعض أجهزة الوزارة، أو الموظفين القدامى على التحديد، فسألته : لماذا لم تفكر في الاستعانة بمحبيك ومريديك ليكونوا من حولك لحراسة خططك وأهدافك بما يجعلك قادرا على تحقيق رسالتك، وبخاصة أنك تدخر الكثير من التطلعات والأمنيات والمشاريع في هذا الاتجاه الثقافي ؟
فقال – وأرجو أن أكون متذكراً ألفاظه بذاتها، وليس بالمعنى فقط – : لقد فكرت في هذا فعلا، وعرضت على فاروق شوشة أن أنقله إلى وزارة الثقافة بدرجة وكيل وزارة، ولكنه اعتذر عن عدم قبول العرض !!


استقبلت هذا القول بقلق، فلست أظن أن مثل فاروق شوشة في خلقه الذي نعرف، وصفاء نفسه الذي نصادف في تعاملنا الطويل معه، يمكن أن يتخلى عن الوفاء لصداقة العمر مع الدكتور ” أحمد هيكل ” ولعلي سألت نفسي أيضا : هل يحق لي أن أفضي لفاروق شوشة بما قال الوزير الصديق ؟! وبعد تردد ومناقشة طويلة مع النفس، وربما وفاءً لحق الطرفين ومكانهما في نفسي رأيت أن أحدث فاروق شوشة بمقولة هيكل . وقد كان .. مع حرص من جانبي على ألا يبدو ما أقوله موشحاً بأية نبرة تجاوز العتاب بين الأصدقاء أو الرغبة في احتمال إعادة العرض إذا ما كان هناك ما يحول دون تحقيقه .. مثلا، ولكن ما قاله فاروق شوشة لي كان جامعا مانعا، وكان مهذبا ومنطقيا، ولذلك ظلت الصداقة ممتدة بينهما، محافظة على دفئها، وصفائها حتى آخر الزمن المشترك بينهما .
أما السبب الذي أبداه فاروق شوشة في اعتذاره عن عدم قبول عرض صديقه الوزير، فكان في أن ما عرضه الدكتور هيكل عليه هو أن ينقل خدماته إلى وزارة الثقافة ليشغل درجة وكيل الوزارة لشئون مكتب الوزير !! ومن ثم فقد رأى فاروق أن هذا العرض لا يثبت موقعه في الوزارة لأنه مرهون بوجود أحمد هيكل في موقع الوزير، فإذا ما حدث وتغيرت الوزارة، أو تغير الوزير فإن الوزير القادم سيفضل مديرا لمكتبه من اختياره الشخصي، وبذلك يكون فاروق شوشة غادر بيته الإعلامي الذي رسخت أقدامه فيه، وتحددت أهدافه به، ليسكن مؤقتا في موقع، مهما كان جميلا أو مفيدا أو مبهرا، فإنه أشبه ما يكون بالحياة في الشقق المفروشة  !!

التشبيه الأخير من عندي ( بالطبع )، وقد احتفظت بجواب فاروق لنفسي، فلم أبلغه إلى هيكل على الإطلاق، ولا لأحد غيره احتراماً للصديقين .
رحم الله أحمد هيكل .. رحم الله فاروق شوشة ..

فاروق شوشة في الكويت

أعير فاروق شوشة إلى إذاعة الكويت لمدة عام (1963) اعتذر من جانبه عن عدم تجديده مع محبة الكويتيين له ، وإعجابهم به . اختاره للمهمة الشاعر أحمد السقاف ( وكيل وزارة الأنباء حينها ) فشغل فاروق – بمجرد وصوله – موقع كبير المذيعين ورئيس القسم الأدبي ، وظل كذلك إلى مغادرته ، والعودة إلى الوطن  .


كانت له غلطة طريفة في سياق إذاعته لأول نشرة أخبار قرأها ، فالمعروف أن قصر الحكم في الكويت يسمى ” قصر السيف ” – والسيف بالسين المشددة المكسورة ، ثم ياء المد ، تعني : شاطئ البحر ، وقصر الحكم على شاطئ الخليج بالفعل ، ولكن فاروق قرأها بمعنى أداة الحرب ( السَيْف ) ولعل هذا التحريف هو الوحيد – ربما – في حياة فاروق شوشة على امتدادها .
وكان أمير الكويت حينها ( المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح ) – مؤسس الكويت الحديثة العصرية ، يطوف بسيارته – دون موكب الحراسة – بطرق الكويت الطويلة في قيظ الصيف ، ليتفقد حياة الناس في هذا الجو الاستثنائي ، وكان يطيب له أن يستمع إلى أشعار المتنبي وأبي فراس من راديو سيارته بصوت فاروق شوشة ، الذي حرصت الإذاعة على وضعه على خارطة برامجها في هذا الوقت تحديداً .


حين عرفت بوجود فاروق في الكويت كان طبيعيا أن أسعى إليه ، وأن أجمع فريقا من الأصدقاء حوله ، وكلنا جلوس على سجادة ، فرشنا فوقها غطاء بلاستيك فوقه أطباق الدجاج المشوي ، والأرز الملون بالبيض والصنوبر والمكسرات ، أكلة ( عزوبية ) مناسبة ، وكانت علاقتي بإذاعة الكويت قبل فاروق شوشة لم تتجاوز زيارة مع تلاميذ المدرسة التي أعمل بها ، وبرنامج عن تونس أذيع بمناسبة زيارة بورقيبة للكويت في ذاك العام ، ولكن بعد فاروق دعاني إلى كتابة سلسلة أحاديث أختار موضوعها ، فاخترت ” الأدب الإسلامي ” وكان هذا فاتحة تواصل مستمر مع الإذاعة طوال مدة إقامتي بالكويت .
أذكر من طرائف وعلامات صفاء نفس فاروق شوشة ، أن حديثي في السلسلة المشار إليها كان عن أبي العتاهية الشاعر العباسي ، وهل كان زاهداً أم متزاهداً؟ وحدث أن استمع كبير أدباء الكويت المرحوم عبد الرزاق البصير إلى هذا الحديث فأثنى عليه، وسأل فاروق عني ، فأبلغني فاروق بهذا الثناء المغرق في المدح لدرجة أنني لا أجرؤ على ذكره بنصه الآن ، وكان هذا فاتحة علاقة حميمة بالأستاذ البصير ، ولكن النقطة المضيئة في هذا الموضوع ، أن فاروق شوشة لم يتردد في توصيل المديح إلى شخصي .. وليس مثله كثير ، وإن كان العكس هو الأكثر انتشاراً .. مع الأسف.

وكان فاروق في مدة الكويت متواصلا مع الدراعمة يستكتبهم ، ويقربهم ، كما كان يرعى الأستاذ الشاعر الشعبي الظريف محمد حمام ، الذي كان يعمل بتليفزيون الكويت ذلك الوقت ، وقد تدهورت صحة الأستاذ حمام ، وتوفي في الفندق– الذي كنت أنزل فيه– (فندق الكويت الكبير– المشرف على ميدان المباركية بالكويت العاصمة) وقد شعرت بالحيرة والعجز عن مواجهة حادث الوفاة ، مع أنه لم يكن مفاجئا لي ، ولكن حين علم فاروق بما جرى فإنه جاء إلى الفندق على الفور ، وعمل على نقل الجثمان ، وإعداده للعودة إلى مصر ، واتصل بأهل الشاعر حمام في القاهرة ، وصحب الجثمان إلى مطار الكويت حتى استقر بالطائرة المتجهة إلى القاهرة، وحين عاد فاروق إلى مصر بعد عدة أشهر، فإن أول ما عمله أن جمع ديوان الأستاذ حمام ، وعمل على نشره ، ولعلها النسخة الوحيدة المنشورة لديوان حمام إلى اليوم  ..


رحم الله فاروق شوشة .. رحم الله الأستاذ حمام .

 

اترك تعليقاً