مستويات من التداعي – 17 يناير 2017
مستويات من التداعي
لست أستغرب امتداد أو تداعي الحديث حول ( الموت ) – الذي نتجنب صدمته بأن نستبدله بكلمة ( الرحيل ) ، ومهما يكن فإنه تغيير نوعي في المسيرة . وفي مصر – دون غيرها يُذكر في نعي المتوفى المسلم : ” انتقل إلى رحمة الله ” وفي نعي المتوفى المسيحي : ” انتقل إلى الأمجاد السماوية ” !! فالانتقال قاسم مشترك في العقيدة المصرية المتوارثة قبل المسيحية والإسلام . أي منذ زمن الفراعنة ، ولهذا أثره المستقر في الضمير المصري .
أذكر عندما سافرت إلى كمبريدج – فترة تفرغ أثناء عملي بجامعة الكويت – كانت آخر وصية لزوجتي التي تقيم مع أولادها بالكويت ، أنه إذا حدث ومت في الغربة ، فإن مطلبي الوحيد أن تعود الجثة إلى القرية التي ولدت بها ، وأن أتوسد ذراع أبي !!
لم يحدث .. ورجعت إلى بيتي ، وفتحت الكلام مع أبو المعاطي أبو النجا ، فقال بهدوء المتأمل كعادته : لست وحدك . جميع المصريين يتمنون أن يعيشوا خارج مصر ، وأن يموتوا فيها !! وعلينا أن نفحص هذا اللغز !
أما جمال الغيطاني فقد حدثني منذ نحو ربع قرن أنه حين كان في ألمانيا للعلاج ، منح كفه لقارئة البخت ، فنظرت في خطوط كفه وقالت له : ( وكان قد أجرى عملية جراحية خطرة ) إنك ستعيش 13 عاما ، ولم يستطع أن يسألها لماذا هذا الرقم بالذات ؟ وكان لجمال تعليقان على هذا التحديد العمري ، والأعمار بيد الله : التعليق الأول : أنه حين أدلى بهذه النبوءة إلى سيدة ألمانية أخرى كانت تُعجب بأدبه ، وذهب لزيارتها ، لم يظهر عليها شي من المباغتة ، بل قالت له بنبرة محايدة : 13 عاما تكفي جدا لإنجاز الكثير !! ولا أنسى ملامح الغيطاني وهو يدلي لي بهذه العبارة . فقد كان مستنكرا جدا – التعليق الآخر : أن الغيطاني عاش – تقريبا ضعف هذه المدة التي ذكرتها قارئة الكف .
يمكن أن نتلمس جانبا من عقيدة الموت في المعتقد المصري القديم ( الفرعوني ) وقد حرص على ذكرها وتثبيتها الروائي الفنلندي ( ميكا والتاري ) في رواية ” سنوحي المصري ” ، وفيها قرب نهاية الرواية : أن سنوحي الذي غادر وطنه هاربا خوفا من عقوبة فرعون الجديد على تهمة لم يرتكبها عاش غربته مكرما ومعينا لأبناء وطنه المصريين حيثما يلقاهم ، فلما تقدم به العمر كتب إلى فرعون يسأله أن يأذن له بالعودة إلى وطنه ليدفن في ترابه ، ويبعث في الآخرة مع بني قومه ، لأنه – إذا مات في غربته – فإنه سيدفن متدثرا بجلد حيوان ، وليس في لفائف الكتان ، وأنه لن يبعث ليقف أمام الإله المعبود ، لأن أرض مصر وحدها التي تتهيأ للبعث ، فمن مات في مصر ضمن لنفسه حياة أخرى . أما خارجها فليس إلا الفناء .
رواية ” ميكا والتاري ” الفنلندي هي الأسبق في الإفادة من مصادر التاريخ المصري القديم (1945) من بعدها كتب محمد عوض محمد روايته ” سنوحي ” ، وكتب درويش الأسيوطي عن سنوحي أيضا فيما بعد .
” الإنسان ” هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه مهما طال به العمر ستكون له نهاية هي الموت !! يدرك الطفل ذلك في سن الثالثة تقريبا ، إذا رأى أمه تلبس السواد ، وترفض أن تضاحكه لأنها فقدت أباها .. فيتسرب إليه – على مهل – شعور الفقد ومحدودية الوجود مهما طال . أما الحيوان فإنه لا يدرك خاتمته إلا حين يدهمه شعور الخطر ، قد يحدثوننا عن مقابر الفيلة ( بما يدل على أنها تدرك قرب نهايتها ) ولكننا – في المألوف – لا نجد جثثا لحيوانات ميتة على الطرق أو في الغيطان إلا إذا داهمها إنسان بسيارته أو بفأسه ، فأتى عليها .
لا يزال لغز الموت مطروحا ، وما بعده سيظل مفاجأة ، وتوقعات تتدرج ما بين اليقين ، والتهوين ، والإنكار .