استطراداً .. فلنجرب – 7 فبراير 2017
استطراداً .. فلنجرب
والاستطراد هنا يرتكز على سابقتين : فقد أشرت قبل إلى ذكرى أول مؤتمر عام حضرته وأنا في أول سنوات الدراسة الجامعية ، واستمعت إلى طه حسين والعقاد ، وكبراء مثقفي العصر ، وما نتج عن ذلك . وسبقت الإشارة كذلك إلى مشكلة أن تحاول قول الحقيقة ( أو على الأقل : الحقيقة كما تراها ) وما يمكن أن يترتب على ذلك من الاتهام بالحسد أو الميل إلى التشهير ، فإذا كان ذلك بعد رحيل أطراف الخبر قيل لك ، ولي : اذكروا محاسن موتاكم !!
في هذه الومضة سأذكر ما جرى في أول ندوة كنت متحدثا فيها في القاهرة في إطار عدم التصريح بالأسماء تركيزا على المغزى والدلالة ، ثم سأجرب أن أفضي بالأسماء ، وهل في هذا الإفضاء ما يمكن أن يعد إضافة تمكن للخبر ، وتقوي من دلالته ، أم أن نتيجة ذكر أسماء الأشخاص عملية سلبية كان يمكن الاستغناء عنها دون المساس بالمعنى والمغزى .
في عام 1987 غادرت جامعة الكويت عائدا إلى مصر ، وعلى الفور بدأت أعرض نفسي على ” القبائل الثقافية ” التي قد تعرفني اسماً من خلال مؤلفاتي ، ولكنها ليست على دراية بالشخص ذاته . وكان مثقف روائي معروف مسئولا عن الموسم الثقافي الذي ينعقد في مركز السينما في حي جاردن سيتي ، فحين التقينا في إطار نادي القصة دعاني إلى المشاركة في ندوة بتقديم دراسة عن رواية أدبية ظهرت حديثا . رحبت بالدعوى ، وأخذت منه الرواية ، ولم تكن لي معرفة بمؤلفها . قرأتها وفق فهمي لعناصر تكوين الرواية ، وأسس جماليتها ، والمنهج التكاملي ( المرن ) الذي يستخلص من كل رواية وسائل تشريحها بحيث تكتشف أهم جمالياتها وإنجازها المعرفي بأبعاده المختلفة . ليلة انعقاد الندوة ذهبت ومعي أوراقي ، وتفضل عريف الندوة ، فقدم دكتوراً آخر أقرب إلى ألفة الجمهور ، وإن كان أصغر سنا ، ولم أجد بأسا في هذا ، والمهم أنه – في عرضه التحليلي – قال كلاما عاما يكاد يصلح لكل رواية ، في زمن وجيز ( عشر دقائق ) ثم بدأت من بعده فطرحت ملخص الرواية ، والأفكار المؤسسة لمسارها ، وعناصر تكوينها ، ما بين الأشخاص والمكان ، والزمان ، والرمز .. إلخ . وكان واضحا أن أثر كلمتي ترك انطباعا متميزاً عند جمهور الندوة . وما كدت أنتهي حتى طلب المحاضر الأول ( الذي سبقني ) الكلمة ، فاستأنف حديثا مختلفا يرد فيه على ما طرحت من كشف نقدي بين الواقع والرمز ، ويظهر ما في كلامي من تجاوز وخطأ . وهنا دعوت عريف الندوة أن يوقفه عن الكلام ، لأنني – بأدب الحضور في الندوات والحديث إلى جمهورها – أعرف أن المحاضر يأتي من بيته جاهزاً بكل ما يريد أن يقوله ، فإذا ما انتهى منه ، فليس من حقه أن يقاطع زميله على المنصة أو أن يعلق عليه . أما جمهور الصالة من المتلقين فهو وحده الذي يملك محاورة الجالسين على المنصة ، والاعتراض عليهم ، وحتى رفض مقولاتهم جملة وتفصيلا . أما الجالسون على المنصة فإنه ليس من حقهم أن يشتجروا ويتبارزوا بالأقوال فيما بينهم وإلا تحولت الندوة إلى ” خناقة شعبية ” لا تعرف فيها الجاني من المجني عليه .
لم ير عريف الحفل أنني محق في طلب إيقاف زميلي عن الاستخفاف بآرائي ، وهمس لي : يمكنك أن ترد عليه بعد أن يفرغ من كلامه !! لم أوافق على هذا التصور ، فغادرت المنصة على الفور ، وجلست بين الجمهور في القاعة صامتا ولم أسمح لأحد بأن يستدرجني إلى الكلمة ، باستثناء مؤلف الرواية الذي همس في أذني : يا دكتور .. أنت كنت تتكلم وكأنك تنطق عن أعماقي ، وتكشف عن كل ما دار في وجداني لحظة الكتابة .. فشكرا لك . وأعتذر عن ما حدث لك بسببي .
اعتبرت هذه الترضية كافية حتى لو كانت مجاملة ، ولكن هل ذكر هذه ( الحادثة ) دون التعريف بأطرافها يكفي لتعميق الوعي بأسلوب إدارة الندوات ، والفصل الحاسم بين حق المحاضر على المنصة ، وحق المتلقي في القاعة ؟!