حدود الوطن .. الثقافية – 13 فبراير 2017

حدود الوطن .. الثقافية – 13 فبراير 2017

حدود الوطن .. الثقافية
على المستوى الجغرافي ( الأرض ) تتغير خطوط الحدود بين الأوطان بالحرب ، أو بالمقايضة ، وحتى بالشراء ، ( كما اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من الاتحاد السوفييتي بدراهم معدودة ) ولكن تبقى الحدود الثقافية الأكثر أهمية وثباتا لأنها لا تتبع الأرض ، وإنما تستوطن الوجدان ، تعيد تشكيل الإنسان !!
قرأت في الأيام الفائتة نداء من بعض الإعلاميين بضرورة إنشاء إذاعة خاصة لمنطقة حلايب وشلاتين ، لأن المحطة الموجودة راهناً – باعتراف موظفيها – لا تتجاوز قدرتها بضعة كيلو مترات ، وربما بضعة أمتار !! وهذه الصراحة مطلوبة وإن كانت موجعة لنا أبناء ” القاهرة الكبرى ” الذين يتمتعون بكل مستويات الإرسال الإذاعي دون أطراف الدولة . وهذا أمر لا يصح السكوت عليه ، سواء عدنا إلى إحياء منصب وزير الإعلام ، أو استبدلنا به نظام ” مجلس الإعلام ” . إن الاهتمام بالإرسال الإذاعي – فيما أتصور – أهم من الإرسال التليفزيوني ، وإن بدا الأمر نقيض ذلك عند المنظرين الذين يرون ( ورؤيتهم هذه صحيحة علميا ) أننا نعيش في ” عصر الصورة ” وأن التلقي عن طريق الأذن وحدها قد تراجع إلى حد كبير !!
أقول : هذا منطق صحيح من منظور عام ، ولكن تأمل حالات خاصة سيفضي بنا إلى قول آخر . وفي مثل حالة المناطق النائية جدا ، والفقيرة جدا ، والتي يصعب أن تتعامل مع مضمون ما ترسله الفضائيات من معارك سياسية ( وهمية أو مفتعلة ) وما تنشره من سلوكيات وحكايات وألفاظ ترفضها تلك المناطق البعيدة ، أو لا تفهمها من الأساس ( ولعله من الخير لها ولنا ألا تتلقى عن هذه الفضائيات شيئا جملة وتفصيلا ) فإن الراديو رخيص السعر ، ميسور النفقة ، سهل التنقل ، حتى مع قطعان الرعاة ، شديد التنوع في المحتوى ، مأمون إلى حد كبير فيما يبث من أفكار ، وعبارات لغوية سواء كانت عربية فصيحة ، أم عربية عامية .
سأحذر من خدعة ” ارتكبها ” جهاز الإذاعة المصرية في عصر عبد الناصر ، ولا أظن أننا قد أصبح حالنا الراهن أصح خلقاً ، أو أكثر أمانة . الذي حدث – وأنا شاهد عليه – أن عبد الناصر كان في زيارة للاتحاد السوفيتي ( في أقصى الأرض ) وفي جناحه الخاص حرك مؤشر الراديو إلى القاهرة ، فوجد الصوت حاضرا ونقيا ومتابعا ، فأحس الزعيم بالثقة والسعادة . بعد سنوات حدثت النكسة ، وطار عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتي في زيارة سرية لم يعلم بها حتى وزير الإعلام !! وهناك حرك مؤشر الراديو إلى إذاعة القاهرة فلم يجد له حسا ولا صوتا !! وهنا انكشفت وسائل المخادعة ، فقد كان مهندسو الإرسال يوجهون طاقته إلى اتجاه الاتحاد السوفيتي مدة زيارة الرئيس ، ثم ينصرفون عنه عقب عودته !!
لا نريد لإذاعة حلايب الراهنة ، أو المقبلة ، أن تلعب هذه اللعبة الوضيعة ، ولابد أن يعلم جهاز العاملين هناك بأنهم يحملون أمانة وطن ، وشرف مجتمع ، وخصوصية ثقافة ، هي الثقافة المصرية التي – من خلالها ( من خلالها فقط ) نطمئن على أن ” حلايب وشلاتين وأبو رماد ” أرض مصرية تنطق لغة مصر ، وتشعر بالمعاني المشتركة مع أهليهم في الأقاليم الأخرى .
في رواية إنجليزية ( نسيت اسمها ) كانت أحداثها تجري مع جيش بريطاني يغزو أقطاراً أفريقية ، وحدث أن جنديا ضل طريقه إلى فرقته ، وشعر بأن حصاراً قادما يوشك أن يطبق عليه ، وسيقتله لا محالة . لم يهتم بأنه سيموت ، لأنه حتما سيموت ، ولكن اهتمامه اتجه إلى أن يثبت العلم البريطاني فوق أعلى شجرة ليظلل هذه المنطقة ، ويعلن انتماءها لبريطانيا ولو لعدة ساعات أو دقائق ! هذا درس ( في حب الأوطان ) ينبغي أن نستوعبه !!

اترك تعليقاً