حديث الشر .. طويل – 2 مارس 2017
حديث الشر .. طويل
كما توقعت فإن حديث الشر يتسلسل ويتمدد ويتلون بحيث يغمر كل جوانب الحياة ومسالكها ، وهذا حق ، ولعل كلمة السيد المسيح ( يسوع ) تلمس عمق الحقيقة في قوله عن الخاطئة مريم المجدلية : ” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ” ، فكل بني آدم خطاء ، والخطايا شر ( لابد منه ) إذ لا يتصور عالماً خالصا للخيرية ، لأنه – والحالة هذه – لا معنى للخيرية ، فبضدها تتميز الأشياء ، لقد أشار المنظرون إلى ضرورة السالب في مقابل الموجب لتتم الحركة ، وتحدث توفيق الحكيم عن التعادلية ، وأن الحياة تبدأ من ” اثنين ” ، فالواحد قوة معطلة ، والخالق سبحانه خلق الشيطان ، ونصبه رمزاً للمخالفة والعصيان ، وهنا أشير إلى قصة قصيرة كتبها نجيب محفوظ في مجموعته الأولى : ” همس الجنون ” – وهي بعنوان : ” الشر المعبود ” وفيها يعود إلى مصر القديمة ، وقد كانت مقسمة إلى أقاليم ، أو ولايات ، وفي إحدى هذه الولايات كان القاضي ، والطبيب ، والضابط .. كل منهم يبذل غاية جهده لمقاومة الانحراف في مجال عمله ( الخلقي – الطبي – الأمني ) ويجد كل منهم عناءً شديداً في الإمساك بزمام الخير كما يرجوه في صورته المثالية . ثم حدث أن نزل إلى الإقليم رجل من الزهاد ، اتخذ مكانا يلتقي فيه بالناس ، فكان أن استطاع – بقوة تجرده وصدقه ، وشفافية توجيهاته – أن يصل بالإقليم إلى درجة الأمان المطلق ، فاختفت مظاهر العصيان ، وتراجعت الأمراض ، وتوقفت الخطايا والتعديات ، مما أشعر القاضي ، والطبيب ، والضابط بكثير من الطمأنينة ، والخلود إلى الراحة ، ولكن مع استمرار هذا التوازن البيئي ، والاعتدال السلوكي ، ما لبث هؤلاء الثلاثة أن ضاقوا بالبطالة ، وشعروا بأن الإقليم لم يعد في حاجة إلى أحد منهم ، حيث لا تعديات ، ولا خطايا ، ولا أمراض .. إلخ ، ومن ثم جاءت لحظة تصارحوا فيها ، وأفضى كل منهم للآخرين بقلقه من دوام الحال على هذا السكون المستغرب على الحياة ، ورأوا أن ” الصراع ” هو السلوك الطبيعي الذي يعمل على ترقية مظاهر الحياة ، ويبث الحيوية في البشر ، ويوفر أنشطة مهملة أو مسكوت عنها بقوة ” الإستكانة ” السائدة !!
وهكذا اتفق الثلاثة على ضرورة التخلص من الرجل الزاهد الذي غير طبائع مجتمع الإقليم ، ولم يكن صعبا عليهم أن يحملوه إلى خارج الإقليم ، دون أن يدري أحد !! شعر الناس بالصدمة ، وحاولوا التمسك بطريقته ، ولكنهم ما لبثوا – بعد مدة – أن عادت إليهم طبائعهم القديمة ، وهكذا دبت الحياة في المحكمة ، وفي المستشفى ، وفي مركز الشرطة ، وتداخلت مصالح الناس ، وعرفوا معنى وجودهم ، وتنوع خصالهم !!
وفي مسرحية ” الحامي والحرامي ” تناول محفوظ عبد الرحمن جانبا من هذه الإشكالية الأخلاقية ، وفي رأيه – كما في المسرحية – أن هناك اتفاقا صامتا بين ( الحامي = الشرطة ) ، و ( الحرامي = اللصوص وسائر المنحرفين ) بحيث يظل الميزان متأرجحا ، فلا يميل بحدة إلى أحد الجانبين ، لأن إلغاء أحد الطرفين يؤدي إلى اختفاء الطرف الآخر ، فلو أن قوة الأمن قضت على اللصوص بشكل نهائي لفقدت أجهزت الأمن مسوغ وجودها ، وتوسعها ، وما تتمتع به من سطوة ، ولو استطاع اللصوص إعلان تغلبهم على أجهزة الأمن ، فإن هذا سيجعل الحياة غير ممكنة ، ولكنه – وهو الأهم – سيؤكد للناس أن الشرطة فقدت مبرر وجودها ، بما يعني في النهاية أن العلاقة بين الحامي والحرامي محصورة في حرف ( الراء ) الذي يفصل بينهما ، مؤكدا على الاختلاف المؤدي إلى التكامل الوظيفي ، كما بين الخير والشر حين يتبادلان المواقع والأحكام حسب طبائع الأمم والأديان والطبقات ، والممارسات العملية . وهذه أهم الجوانب ( المرجعية ) التي تؤثر في إعادة تصور المطلق المثالي ، في ارتباطه الموافق / المناقض للنسبي الذي يتموج / يتلون / يتأرجح حسب معاملات ، ومعادلات ، ومطالب مرحلية لا تجعل الخير خيرا مطلقا ، ولا تحكم على الشر بأنه شر مطلق !!