يورك … نيويورك – 5 مارس 2017

يورك … نيويورك – 5 مارس 2017

يورك … نيويورك
يظل حلم بناء ” مصر الجديدة ” يداعب تطلعات المفكرين وأحلام الأدباء عبر زمن طويل ، ربما يبدأ بعصر ( محمد علي باشا ) بما يعني أن التطلع إلى تأسيس وطن له بنية حضارية ، وسمات وجودية خاصة يرتبط بمشروع ” الاستقلال الوطني ” والتخلص من ضغوط الشعور بالتبعية ، فعلى الرغم من استقلال مصر – بعد الفتح الإسلامي – عدة مرات بالانفصال عن الخلافة العثمانية ، ومن بعدها التركية العثمانية ، فإن حكام مصر لم ينفصلوا – شعوريا – عن التبعية للقوة الدينية الراسخة بفعل الزمن .
” محمد علي ” أول من أعلن استقلاله الداخلي ( حتى وإن ضمن قدرا من المال يُدفع كجزية للسلطان ) ولهذا عمل في اتجاه تأسيس مصر الجديدة ، فكانت عنايته بإنشاء الرياحات والترع ، وإدخال زراعة القطن .. وفي هذه الاتجاهات استمر خلفاؤه ، بخاصة إسماعيل الذي وجه عنايته إلى تعظيم العاصمة ، وتجديد الإسكندرية ، فضلا عن المدن الجديدة .
حين سيطر الاستعمار البريطاني (1882) تحول أمل بناء مصر الجديدة إلى المفكرين والأدباء ، ولعل مسرحية ” مصر القديمة ومصر الجديدة ” لفرح أنطون (توفي 1922) كانت إعلانا عن هذا التوجه الذي عاصر إعلان استقلال مصر ، كما ظل ( الحلم ) يداعب طموحات الأحزاب السياسية ( الوفد ، والأحرار الدستوريين ، وغيرهما ) طوال زمن الملكية ، إلى أن جاء عبد الناصر ، فوضع الحلم بمصر الجديدة تحت رعايته ، وفي حدود توجهه الفكري والسياسي . ولكن النقلات الحضارية لا تتم بإرادة فردية حتى وإن ملكت قدرة إصدار القرار ، وفي هذا السياق نتذكر جملة قالها الأستاذ رجائي في ختام مسرحية ” الناس اللي تحت ” للمسرحي المبدع نعمان عاشور ( توفي 1987) مشيرا إلى اختفاء الحبيبين الهاربين من صراع الطبقة ، وعداوات الجوار : إنهما ذهبا إلى مصر الجديدة !!
هذه محطات قديمة تستدعيها الذاكرة التي تلاحظ أن حلم بناء مصر الجديدة لا يزال يلح على السياسيين والمفكرين والأدباء على السواء ، ولعلنا نتذكر دعوة ” فاروق الباز ” إلى إنشاء طريق دولي يمتد ما بين المتوسط إلى أعماق القارة السوداء ، لينشأ حواليه – في الصحراء الغربية – ما يمكن اعتباره واديا موازيا لوادي النيل ، الذي نتجمع حوله حاليا ، ولست أعرف أسباب خفوت صوت فاروق الباز ، وإهمال مشروعه بعد التحمس لهما . غير أني أشعر أننا في المرحلة الراهنة نعيش محاولة فعلية ( عملية ) تمارس أمام أعيننا ، لإعادة تشكيل مصر الجديدة ( ودعنا من المتشككين والمهرطقين ومدمني الصراخ ) فمشروع القناة ، وإنشاء العاصمة الإدارية ، وتجديد شبكة الطرق ، وتأسيس مدن جديدة ، وتحويل الأرض الرملية إلى الإنتاج الزراعي ، كل هذا وما يترتب عليه من إعادة توزيع السكان ، والقضاء على العشوائيات ، يبشر بمصر جديدة .
أذكر ذات جلسة قبل البدء في إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة ، أن تمنيت إنشاء عاصمة ( فعلية ) جديدة تنبسط على المثلث الممتد ما بين محافظة الفيوم ، ومحافظة بني سويف ، ومحافظة المنيا ، ففي رأيي أن هذا المثلث في منتصف الوادي تماما ، ولا يترتب عليه التضحية بمنشآت ، أو زراعات .. إلخ . ولكن أحد المشاركين في الجلسة اعترض على فكرتي بأن العاصمة الجديدة – حال التفكير فيها – يجب أن تكون راسية على مياه دولية لتسهيل الاتصال العالم الخارجي ، وقد تذكرت هذه المقولة حين تأملت موقع العاصمة الإدارية الجديدة ، وكيف أنها على مشارف البحر الأحمر ، وأن شاطئه – مستقبلا – سيكون ( الكورنيش ) المنتظر لهذه العاصمة الإدارية الجديدة . مع هذا يبقى لي تحفظ على اختيار مواقع المدن الجديدة ( المستولدة ) من مدن قديمة مثل : دمياط الجديدة ، والمنصورة الجديدة ، والمنيا الجديدة ، وكل ” جديدة ” ستنشأ في ظل ” قديمة ” لا تلبث أن تلتحم بها ، وتتحول إلى عبء عليها ، مع خسارة الأرض الزراعية التي نحن في أشد الحاجة إليها .
أعتقد أن حديث ( المدن الجديدة )، في إطار ( مصر الجديدة ) لا يزال في حاجة إلى مزيد من التوضيح .

اترك تعليقاً