الرجل العجوز .. 15 مارس 2017

الرجل العجوز .. 15 مارس 2017

الرجل العجوز ..
الرجل العجوز رابض خلف نافذته كالعادة ، منذ تباطأت خطواته ، يتفرج على العابرين ، بعينين غاب عنهما الصفاء والبريق ، وحل في مكانه شرود جميل يتعقب أخيلة تموج في داخله ، الذي يبدو ساكنا . أما المشهد الدائم الذي يسري عنه حقيقة ، بما يحمل من طرائف ، ويستدعي من ذكريات ، فمنظر الآباء والأمهات الذين يفدون كل صباح – في مواعيد ثابتة – بأطفالهم إلى باب الحضانة المواجه للنافذة . كان يُسري عنه مشهد هؤلاء الآباء وتلك الأمهات ، وكلهم من الشباب ، ( يجرجرون ) أطفالهم المعاندين ، وأحيانا الباكين ليسلموهم إلى فراش الحضانة على الباب حتى يلحقوا بأعمالهم ، أو يحملون أطفالهم كودائع ثمينة بين أذرعهم وأحضانهم ، ليودعوها أمانة عند مشرفة الحضانة .
كان هذا المشهد المتكرر يُسري عنه كثيرا ، رغم تكراره مرات في اليوم الواحد ، وكل يوم ( ما عدا أيام العطلة ) .. كان يتملكه إشفاق حائر بين معاناة الآباء الشبان والأمهات الشابات ، وما يمكن أن تنطوي عليه حالات الانزعاج عند الطفل أو الرضيع حين ينفصل قسرا عن اليد الحانية التي تقبض على كفه الصغيرة ، حتى وإن كانت تجره جراً ، أو الصدر الدافئ الذي يضمه بحنان بالغ ، تبدو أثاره واضحة لعيني العجوز عبر الشارع الذي يفرق بين نافذته وباب الحضانة ، وكيف يتحول هذا الحنان – عند الأمهات خاصة – إلى نوع من الأسى المتوكل على الله .. !! غير أنه – في سياق تداعيات عمره الممتد – كان يستحضر صورته الشابة ، وصورة زوجته حين كانت غضة العود وريانة ، ولا تقل عنه ارتباطا بعملها ، وحرصا على توقيته ، ومع ذلك تجر الطفل الكبير ، وتحمل بين يديها أخته الصغيرة لتودعهما على باب الحضانة إلى أن يبلغا سن رياض الأطفال . كان – ذلك الزمن – لا يشعر بالمعاناة بقدر ما يشعر بأنه يعمل وفق نظام وحتمية يجب التعامل معها بدقة ، وبتنحية المشاعر الخاصة قدر الإمكان ، وقد شجعه على تأصيل هذا الجانب في نفسه أن أطفاله – ذلك الزمن البعيد – عبروا مرحلة الحضانات المختلفة بسلام ، ودون متاعب تذكر ! فهل يخفف عنه هذا ما يتصور الآن من قلق الأمهات وأحزانهن عند مفارقة الطفل ؟ وهل تعوضهن لحظة استعادة الطفل – آخر النهار ، وما يبدو على وجه الأب أو الأم من راحة نفسية ، وفرح تعلن عنه لهفة التسليم والتسلم على الباب ، والانطلاق النشط إلى السيارة أو قفزا على الرصيف ؟
أوشكت عاطفة العجوز تجاه الطفولة مع الأمومة بخاصة ، بأن توقعه في حرج ، وربما عرضته إلى إهانة لم يكن في حاجة إليها . ذات مرة حين كانت إحدى الأمهات تجرجر طفلها في الشارع وهو يبكي بعويل حزين تحت حرارة الشمس اللاهبة ، وكان العجوز ذلك الوقت يقود سيارته ، فأوقفها على الفور ودعا السيدة إلى أن تتكرم بالركوب في المقعد الخلفي مع طفلها ليوصلها إلى حيث تشاء !! ولكن الأم الشابة لم تفكر في تقدير المجاملة ، بل رأتها على العكس من ذلك ، محاولة تدخل سخيفة فيما لا يعنيه ، ومن ثم واصلت سيرها بعد أن رمته بنظرة لا تخلو من ازدراء !!
مع أن هذه الحادثة القديمة لم تتكرر ، فإنه لم ينسها ، ومع هذا تظل ( إيده تاكله ) وفيها حبة بونبوني متأهبة ليقدمها لأي طفل يبكي على باب الحضانة ، غير أن حبة البونبوني ظلت في يده لا تبارحها . ثم حدث مرة أن كان يمرن ساقيه على المشي أمام نافذته حين داهمه عويل طفل يثير حنان الحجر ، يأبى أن يفلت يدا أمه ، فيستسلم لحارس الحضانة ، فلم يملك العجوز نفسه من التقدم في اتجاه الطفل ، وقدم له حبة البونبوني ، ويقول له : لا تنزعج يا حبيبي ، ستعود ماما لتأخذك بعد ساعة ، مثل كل يوم !!
انتهى المشهد .. أما احتمالات لحظة التنوير فإنها تتحرك بين :
خاتمة رومانسية : الأم الشابة تمد يدها تأخذ الحبة المسكرة من يد العجوز ، وتبتسم له ، وتقول لطفلها : اشكر بابا جدو على هذه الهدية اللطيفة .
خاتمة واقعية : الأم الشابة تتجاهل اليد الممدودة نحو طفلها ، وتقول بنبرة خالية من التعاطف : متشكرة ، الولد في شنطته كل ما يريد !!
خاتمة رمزية : الأم الشابة تمد يدها لتأخذ الحبة المسكرة ، ولكن عصفورة مرحة تنطلق من الشجرة أمام باب الحضانة ، وتخترق المشهد . الطفل يتابع العصفورة مندهشا ، والأم الشابة ترتبك يدها فتقع منها الحبة . أما العجوز فكان يستعيد مشهداً من ذكرياته القديمة !!

اترك تعليقاً