اللهم اجعله خيراً .. 6 ابريل 2017

اللهم اجعله خيراً .. 6 ابريل 2017

اللهم اجعله خيراً ..
لست أبالغ إذا قلت إنني ركبت الطائرة في رحلات طويلة ، نحو مائتي مرة ، كانت رحلتي الأولى بأشهر طائرة في أوائل الستينيات ( الفايكونت ) ذات المراوح – ثم ظهرت ( البوينج ) بأرقامها المختلفة ، ومحركها النفاث ، فكانت لها السيادة نحو عشرين عاما ، ثم زاحمتها ( الإيرباص ) وانتزعت منها قصب الفوز . إنني أعد الطائرة أعظم اختراع بشري ، في حدود مداركي ، فلا تزال تُثار دهشتي حين أجد هذا الجسم الممتد ( الطري ) يحمل المئات من البشر بأوزانهم العجيبة ، وحقائبهم المعلنة ، والتي استخفت عن الميزان .. إلخ .
وعرفت – مع الزمن – أن الدقيقتين الأوليين لإقلاع الطائرة هما الأكثر خطراً ، وعرضة للحوادث ، ولكنني لم أعبأ بذلك ، ولم أراقب عملية الإقلاع ، فإذا كان مطار الإقلاع في مصر ، كان كل حنيني يتجه إلى ( الأرض ) – الوطن – بيوت القاهرة ، وهي تتضاءل في الرؤية مع تمادي الارتفاع،على أنني أومن تماما بأنه ما تدري نفس بأي أرض تموت  وفي هذا طمأنينة مطهرة للقلق !!
وكما جربت أنواع الطائرات ، أخذت مكاني في درجاتها المختلفة : السياحية – درجة رجال الأعمال ( البزنس ) – الدرجة الأولى – مع اختلاف السن والموقع ، دون اختلاف ( كبير ) في رد الفعل ، بل كان اهتمامي بنوع الطائرة أكبر ، ولعله في السنوات العشر الأخيرة سيطرت الإيرباص ، وقدمت براهين قوتها وسلامتها ، ومن ثم كانت المفاجأة أن أعلن المضيف في آخر سفرة قمت بها أن الطائرة من طراز ( بوينج 737 ) فتشهدت !! لأنني أذكر أن هذا الطراز هو الذي أفقدنا عددا لا يستهان به من شباب الضباط العائدين من الولايات المتحدة ، منذ عدة سنين !! وربما تكررت أحداث ارتبطت بهذا الطراز ، ولكن لأنه لا يمكن مغادرة الطائرة بعد إغلاق أبوابها ، وتشغيل المحركات ، فقد كان الرضا بالمقدور هو الحل المتاح !! الطريف أن طفلاً يجلس إلى جوار أبيه في الصف الذي يتقدمني مباشرة ، كان يتحدث إلى الأب بصوت مرتفع مسموع لكل من حوله عن الطائرة ، وكيف تسقط في الماء ، ويعوم الركاب ، ويكرر هذه العبارات الغريبة التي تدور حول سقوط الطائرة في البحر !! كان واضحا أن الطفل متأثر بمشاهدة التليفزيون ، ولكن ( خدوا فالكم من عيالكم ) فقد ظهر الوجوم والقلق على كل من حولي ، والعجيب أن الأب لم يقاطع الطفل ، أو لم نسمع المقاطعة . على أن الطائرة أقلعت بسلام ، ولعلي فكرت أن الرحلة ما بين الكويت والقاهرة ليس فيها مياه غير مسافة قليلة جداً فوق خليج السويس !! بما يعني أن فرصة الغرق محدودة جدا ، ولكن الذي لم يكن محدودا أن فتاة شابة وجميلة كانت تجلس بجوار النافذة ، وكان بيني وبينها راكب ثالث يبدو على معرفة بها ، وظهر مع استمرار الرحلة أن هذه الفتاة تشغل إحدى وظائف الطيران لا أعرف ما هي ، ولكن جميع من قطعوا ممر الطائرة ذهابا وإيابا لتوزيع الشاي والمياه والطعام ، وسائر الخدمات .. جميعهم توفقوا ليتحدثوا إليها، ويمازحوها .. وجميعهم يتكئ بيديه على كتفي ، وقد يضحك فيهتز ثقل جسده على جزعي .. ومن سوء حظي أن طاقم الخدمة في هذه الطائرة كان كله من الرجال ، ولم يكن مستغربا أن تلفحني حرارة أجسادهم الملتصقة بي وأنفاسهم ، وربما أفلتت قطرات من رذاذ فغمرت ما حول أذني ، في حين كانت الراكبة الجميلة مشغولة بتحسين صورتها عند الجالس بيني وبينها ، فتطيل في الحوار مع زملائها ، وترمق الجالس بنظراتها ، كأنما تقول له : هل ترى كيف يؤثرني زملائي ، بما جعل من هذه الرحلة بالنسبة لي على البوينج 737 عملا شاقاً بحق ، حتى لقد تذكرت الحديث الشريف : ” السفر قطعة من العذاب ” ولو كان على طائرة بوينج .
أما وقد وصلنا بسلام إلى مطار القاهرة ، فقد أدركت حقا أن ( قضى أخف من قضى ) وأن ما كنت أتوقعه من البوينج أقل بكثير مما عانيت فيها ، وحين جرجرت حقيبتي ذات العجلات أفقت من كابوس كان مكتوما في داخلي ، وقلت بصوت مسموع : ( الحمد لله .. اللهم اجعله خير ) .

اترك تعليقاً