تداعيات خبر – 27 ابريل 2017
تداعيات خبر
نشرت بعض الصحف وقنوات التلفزة خبراً عن ( نسر ) هاجمته بعض الغربان حتى أدمته ، فهرب لاجئاً إلى مبنى قريب تصادف أنه مبنى حكومي ، فأسرعوا لإسعافه !!
هذا خبر صحفي طريف لما فيه من انقلاب النِّسب ، وتناقض المقامات ، وقديما قيل إنه إذا عض الكلب رجلا فهذا ليس بخبر ، وإنما الخبر أن يعض الرجل كلباً !! والمفترض أن النسر ملك الطيور وأقواها ، فكيف يتهاوى أمام الغربان ، مهما كانت كثرتهم ؟!
لم أقتنع بأنه نسر ، وعجبت كيف يمكن أن يلتبس النسر بالصقر ، حتى على المختصين !! وبخاصة بعد أن وجدوا على ساقه ( حافظة رسائل ) !! فالنسور لا تعيش في المدن أو حولها ، وإنما في شواهق الجبال ، والأشجار ، وليست مما يمكن استئناسه من الطيور الجارحة ، حتى تعلق له حافظة رسائل !! من ثم أرجح أن هذا الطائر ” صقر ” أو فصيلة قريبة إليه تسمى ( العقاب ) التي قال فيها امرؤ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العُناب والحشف البالي
وهو بيت مشهور في الدرس البلاغي ( باب التشبيه ) .
ولا ينقضي العجب من تغلب الغربان على الصقر ، والغربان لم تمدح في غير القرآن ، إذ أرشدت ( قايين ) إلى كيفية دفن أخيه ( هابيل ) ، وفي كتاب ( مصارع العشاق ) للسراج القارئ عدة أخبار وقصص عن تشاؤم العشاق والمحبين من الغربان ، ومن ثم السعي في قتلها . لم يمدحها غير محمد عبد الحليم عبدالله – أستاذي وصديقي المغفور له – في رواية : ” شمس الخريف ” وذلك حين قرر الفتى مختار الهرب إلى القاهرة ، مفارقا بيته في الاسكندرية ، فذهب إلى عزبة خورشيد ليودع حبيبته الريفية ( سكرة ) فلاطفها قائلا : سأحبك مادامت الغربان في ثياب الرهبان ، وما دام الهدهد يبحث عن كنوز سليمان !!
أما الصقر فتداعياته متعددة ، وفي كتاب الأصوات اللغوية لشيخنا الدكتور إبراهيم أنيس – طيب الله ثراه – ذكر أن بعض القبائل تجهر بصوت الصاد ، فتقول في الصقر : الزقر – وفي قريتنا ( تمي الأمديد – دقهلية ) نجهر بالقاف ، فتتحول إلى جيم قاهرية ( الصجر ) ، وهكذا تنطق في الخليج ، كما ينتشر اسم ” صقر ” هناك ، واشهر الصقور التي أعرفها في الكويت : صقر الرشود ، المخرج المسرحي ، وصقر الشبيب ، الشاعر ، وكلاهما في رحاب الله .
الصقر أشرف من النسر ، لأنه لا يأكل إلا من صيده ، ولا يقرب الجيف ، وقد حمل عبد الرحمن بن معاوية لقب ( صقر قريش ) ، وهو الذي وحد القبائل العربية المتناحرة في الأندلس ، وأقام حكما أمويا لأكثر من قرنين .
وكان الصقر – وليس النسر – رمزا لحورس ، مثلث العقيدة المصرية القديمة [ إيزيس – أوزوريس – حورس ] ونجد صوره منقوشة على مداخل المعابد .
في فنون المسرح جسدت حالة البطل المفرد في هيئة الصقر ، كما جسد خصومه ، أو الخونة من أتباعه في صورة الغربان . فهكذا كان قيصر في مسرحية ” يوليوس قيصر ” لشكسبير ، فعندما تآمر عليه بعض قادته ، وهاجموه بسيوفهم في قاعة الشيوخ ( السيناتو ) فإنه تصدى لهم بسيفه ، ولكنه حين وجد بينهم بروتس ، تلميذه وصفيه الذي كان يقربه ، استسلم قيصر لمصيره ، وترك الغربان تنهش جسده ، وقد خُلد اسم بروتس – نموذج خيانة الولي والصفي – حتى تغنت به المونولوجست المصرية ( ثريا حلمي ) في أحد مونولوجاتها : حتى أنت يا بروتس ؟! وفي مسرحية ” علي بك الكبير ” لأمير الشعراء أحمد شوقي تولى محمد بك أبو الذهب خيانة سيده وولي نعمته ، ووالد زوجته ، فأعلن التمرد عليه ، ولاقاه بجيش ، وهزمه ، وقتله ، ويذكر شوقي في مسرحيته أن الأسطول الروسي كان يرسو على شواطئ الشام ، ووجد في الصراع الناشب فرصة لمناصرة علي بك ، فعرض المساعدة عليه ، ولكن علي بك الكبير ( لأنه كبير ) رفض أن يستعين بالغريب على أبناء وطنه ، حتى وإن تحول بعضهم إلى غربان ، تجرأت على نهشه !!