حميدة أخت نسيمة .. 12 مايو 2017

حميدة أخت نسيمة .. 12 مايو 2017

حميدة أخت نسيمة ..
كانت كل منهما تُعرف في القرية بالنسبة لأختها ، فإذا سأل أحد : من حميدة ؟ الجواب : أخت نسيمة ! وإذا كان السؤال : من نسيمة ؟ كان الجواب : أخت حميدة ! وكانتا على تناقض في الشكل ، فنسيمة بيضاء ذات شعر أًصفر ، وقامة مربربة ( على الأقل في عيني ، في سن السابعة إلى العاشرة ) في حين كانت حميدة سمراء أقرب إلى النحافة ، وكانت منطلقة في كل أرجاء القرية المترامية ، بعكس نسيمة التي لا تبارح مدخل حارة الشرايفة ، قريبا من دكان إبراهيم أفندي ( حمل هذا الاسم لأن صاحبه يلبس جلبابا ابيض نظيفا وطربوشا . أما الدكان نفسه فكان يشكو التصحر باستثناء المعسل ، والسجائر ، واللب !! )
تنتمي حميدة ونسيمة إلى أمهما ( وقد نسيت اسمها ) ، وكانتا تنسبان إلى أب ( داود ) الذي لم أشاهده مطلقا ، ولكن أمي ذكرت لنا أن نسيمة وحميدة تمتان لنا بقرابة ( لم أعرف من أية جهة ) ، ولعل هذا كان ذريعة لأن تحضر حميدة ، وترقص في بيتنا مع أخواتي البنات ، وهن كثرٌ ، وكانت تجيد الرقص جداً ، وكأن أردافها مخلوعة منها ، كما أنها جريئة في أداء الأغاني القريبة من المشاعر المكشوفة ، ولهذا كانت تستقبل من أخواتي بحفاوة ، لأنها تملك الجرأة التي لا يملكنها . أما نسيمة ( البيضاء الممتلئة نسبيا ) فكانت حلم شباب القرية على مستوياتهم ، فقد تسمع في سواد الليل صوتا شابا يهتف كالزئير في الغابة : آه يا نسيمة !! يشق سماء القرية الصامتة ، ومع كل الصحوات الذكورية المبكرة ، فإنني لم أتطلع أبداً إلى نسيمة ، بل لم أقترب من دكان إبراهيم أفندي ، ولو على سبيل تصنع المرور ، غير مرة واحدة تطلعت إليها لأرى هل هي تستحق فعلا أن يتطلع إليها محمد أفندي مدرسنا في المدرسة الإلزامية ؟ كان الحكم لصالح محمد أفندي ، فنسيمة ظهرت لي كالبنورة المضيئة الساكنة في موقعها ، وكأنها مزروعة فيه بلا غاية ، غير أن الطواف حول ركنها كان لا يخلو من العابرين !!
مع هذا رحلت عن القرية بعد سنوات ، ولم يتزوجها محمد أفندي ، وغاب عني مصيرها ، لكن في مناسبة ما ذكرت أمي أنها تزوجت من خارج قريتنا !
أما حميدة – الأقرب إلى طباع القرية والمشاعر الخشنة التي تغلف سلوكياتها – فكانت لا تتوقف عن الدوران مثل نحلة ، وآخر مرة رأيتها فيها كانت ترقص في بيتنا ( في قاعة الشتاء ) وهي غرفة من الطوب اللبن في أقصى البيت ، حتى بعد حوش الفراخ ، وكان بها فرن للتدفئة ، ومصطبة مستطيلة تتحلق عليها أخواتي البنات ، وصديقاتهن ، ويبدأن الغناء والرقص لقضاء ولو ساعة من ليل الشتاء الطويل . آخر رؤية لحميدة ، وكانت – في تصوري – على أبواب سن البلوغ ، وكنت حول العاشرة ، وكانت ترقص بحركات جريئة ، وتغني بعبارات لا أزال أذكرها رغم مضي أكثر من سبعين عاما على سماعها ، لكن يبدو أن الأداء كان مقنعا ، ومؤثرا ، فاحتفظت به الذاكرة ، كانت تغني :
ياخواتي أنا عاوزه أتجوز
والمأذون مش راضي يصرح
المأذون بيقولي يابنتي
مقدرش أكتب كتب كتابك
وأودي نفسي في داهية
علشان حضرة جنابك
ومسيري هعملها
واستقلع فيها
ياخواتي أنا عاوزه أتجوز !!
بعد سنين اختلف فيها الزمن ، والمناسبات ، والأشخاص ، والاهتمامات ، ويوم وفاة أمي ( 13 رمضان – 13 أبريل 1957 ) شبهت علىّ ملامح إحدى المعزيات ، سألت أصغر أخواتي البنات ( صفية ) : كأني أعرف هذه المرأة ؟ قالت : طبعا تعرفها ، هذه أم نسيمة وحميدة أم داود ! استنكرت أن يكون هذا الحطام أما لذلك البهاء الإنساني الذي عرفته في نسيمة وحميدة . أكملت أختي عبارتها : ماذا تنتظر ؟ ماذا تخلف النار غير الرماد ؟!

اترك تعليقاً