الحفر في الذاكرة (1) -18 مايو 2017
1- الحفر في الذاكرة
يشير علماء النفس ( السيكولوجيون ) – والأطباء كذلك – أن ” الذاكرة ” تتآكل محتوياتها مع مرور الزمن ، بنسب متعادلة ، حتى أشار بعضهم إلى أن ” النسيان ” يمثل نسبة ثابتة من استيعاب الذاكرة !! بما يعني أن الاتساع في المعرفة يصاحبه اتساع في النسيان ، ومع هذا يؤكدون أن الشخص العجوز ( مثلي ) كلما تقدم به العمر زادت درجة نسيانه لممارساته القريبة دون تلك التي استوعبتها ذاكرته إبان طفولته ، وما بعدها ، وقد فطنت إلى هذا المعنى من خلال تعليقات بعض الأصدقاء من ” ضيوف ” هذه الخواطر ، بإشارتهم إلى قدرتي على التذكر ( التي أحمد الله عليها ) وهذا أمر طبيعي ، ومتوقع حسب مقولات ( أسيادنا ) السيكولوجيين ، والأطباء ، حتى وإن اختلف معي بعض الشيء !! وهذا من نعم الله علي ، فذاكرتي ( بصرية ) بمعنى أنني إذا قرأت كتابا أو فصلا أو صفحة استقرت الصورة في مخيلتي لزمن طويل جدا ، ومع هذا لست أنكر أنني يمكن أن أنسى ماذا أكلت أمس ، أو ماذا أعطيت من مواعيد !! يحدث هذا أحيانا .
أما الحفر في الذاكرة فلا يزال قادراً على إمدادي بطرائف السلوك البشري ، وغرائب المناسبات ، والطبائع .. إلخ .
وسأذكر لك أول مقتنيات الذاكرة ، وذلك أنني ذات يوم بعيد جداً سمعت صوتا جهوريا يغني بنبرة حزينة ، أو تثير الشجن ، ووجدت أمثالي من الأطفال يجرون في اتجاه ما نطلق عليه الآن ( مايكروباص ) يقف في وسط البركة ( البركة في قريتنا كانت مساحة رشح كبيرة تم ردمها ، وظلت تحتفظ باسمها القديم مع أنها تحولت إلى ساحة للاحتفال ، ومواكب الزفاف ، وأجران القمح في موسمه ، وكانت دارنا تطل عليها ) كان المايكروباص محاطا بمئات من النساء والبنات والأطفال ، وكان يصدر عنه هذا الغناء الشجي ، وقد لاحظت – حين نظرت من شباك السيارة – أن جهازاً يدور باسطوانة يبدلها السائق أو يعيد الإبرة إلى بدايتها لتكرر نفس الأغنية ، ولكن العجيب المثير بالنسبة لي ، كما لأهل القرية المتحلقين حول السيارة ، أن صوت الغناء كان يصدر عن تمثال مجسد لفيل مثبت على سقف السيارة ، وكان هذا هو العجب العجاب لكل المتزاحمين . أدهشني هذا بالطبع ، مع أنني أعرف أن الفيل مجرد تمثال ، وليس فيلا حقيقيا ، ولكن كيف يصله الكلام ؟!
على أنني شغلت بالأوراق والهدايا التي يوزعها سائق السيارة ومساعده ، وكان مرسوم عليها صورة امرأة جميلة ، وتمسك في يدها صابونة ، حين عرفت الكتابة أدركت أنها كانت ماركة ( سان لايت ) !! أما الغناء فكان لمطرب عرفت – فيما بعد – أن اسمه فريد الأطرش ، وكان يغني بهذه الكلمات التي تكررت – عبر الإذاعة – فيما بعد :
يا مصر كنت في غربة وحيد
ويوم ما جيتك كان يوم عيد
يا مصر يا غالية علينا
***
اشتقتلك والليل فتان
والطير يغني على الأغصان
وهنا أبدي ملاحظتين : الأولى : أنني من خلال البحث على ( جوجل ) عرفت أن هذه الأغنية انتشرت لأول مرة عام 1940 ، بما يعني أنني كنت في الخامسة من العمر عند سماعها من سيارة الدعاية لهذا النوع من الصابون .
الثانية : أن عقلي توقف تماما عن تلقي معنى الأغنية ، فقد فهمت – رغم صغري – كيف أن مصر جميلة ، وأن المغني مبسوط منها ، ولكني لم أفهم أبداً : كيف يغني الطير على الأشجار !! والطير في لغة قريتي هو الدبان ، إذ تقول أمي : نش الطير عن عينيك ، أو عن الأكل ، فكيف يغني الذباب على الأشجار ؟!