تناظر (2) – 22 مايو 2017

تناظر (2) – 22 مايو 2017

تناظر (2)
أقبل أحمد أبو زيدان – خفير العمدة الخاص – بوجهه الأسود اللامع – الطيب ، وأسنانه البيضاء تبرق من بعيد . قال متهللا : مش قلتلك ، اسمك أول الكشف ، أهه !! . أخرج من سيالته ورقة مكتوبة بالقلم الكوبيا ، وفي أولها اسمي فعلا ، وقال : أنا عارف ، مش ممكن العمدة ينساك وانتم قرايب ونسايب !! قلت : خولي ولا ملاحظ ؟ قال : أفندي زيك يبقى خولي ؟! يقف طول النهار وراء الأنفار ؟! طبعا ملاحظ . يا دوب تكتب الأسامي وانت واقف تحت التوتة زي الباشا ، وآخر المدة تقبض – من غير حسد – سبعة جنيه ونص .. هنيالك يا عم !!
قلت لأبو زيدان : دول يا دوب مصاريف هجمة الدراسة : إيجار الأوضة في المنصورة ، وكتب المعهد الديني ، وترجع ريمة لعادتها القديمة .
ولكني كنت سعيدا جداً ، فقد جاء توزيعي – ربما عن عمد – على ترعة الشُّون ، وهناك ” دكر توت ” ضخم ، أجلس في ظله ، وأراقب الفرق الأربع التي تعمل تحت إدارتي في نقاوة لطع القطن . ولم أكن أمارس عملي هذا الذي ارتبط بالعطلة الصيفية ، لأول مرة ، بل ربما كانت الثالثة .. الأخيرة .
كنت تلميذا في المرحلة الثانوية ، وكنا في العطلة الصيفية ، وكنت معجبا بالعقاد ، وكان كتابه ( عبقرية خالد ) ظهر حديثا ، وتمكنت من استعارة نسخة . جلست تحت دكر التوت ، واندمجت في القراءة ، فوجئت بسيارة أجرة تقف في مواجهتي ، وينزل منها مهندس الزراعة / المفتش المسئول عن مقاومة آفات القطن . رأى الكتاب في يدي ، جذبه ، ألقاه أرضا ، متأففا قال : جايبين لينا تلامذة يقاوموا الدودة ؟! عليه العوض !! لم أجرؤ على الانحناء لالتقاط الكتاب ، لم أعرف كيف أرد ، وقفت متصلبا مثل خشبة حتى يمر الموقف بسلام ، فلا تضيع الجنيهات السبعة والنص . مر الموقف ولا اعرف كيف .
حين جاء وقت الظهيرة توقفت الفرق الأربع عن العمل ، وتجمع الصبيان والبنات حولنا تحت دكر التوت ، اقترب واحد ممن يعمل ( خولي ) يشعر بأنه أقرب إلى نفسي من الثلاثة الآخرين . قال : نتغدى سوا . فتح صرة غدائه ، فتحت صرة غدائي : متشابهان في الجبنة والعيش الطري ، يزيد هو فحلين بصل ، وأزيد أنا ثمرتين جوافة !! طوال تناول الطعام ، كان يتكلم ، ويلقي حكماً ومواعظ لا أدرك مغزاها ، أتذكر منها ما قاله عن البصل ، وتوقيت أكله ، فقد ذكر أن البصلة على الإفطار تساوي قرش ، وعلى الغداء تساوي جنيه ، وفي العشاء لا تأكلها مطلقا حتى لو أعطوك القرش والجنيه !! لم أعرف من أين جاء بهذه الحكمة ، ومدى صوابها ، فقد كنت أعيش همي الخاص الذي لم يره غيري : فقد كنت متألما للمهندس صاحب البرنيطة القش ، والشارب المبروم على طريقة مصطفى كامل ومحمد فريد ، وبخاصة حين سدد إليّ نظرة من عينيه البنيتين النافذتين ، ومد يده ، فألقى بعبقرية خالد على الأرض ، ولم يقدر الثقافة !!
اندمج أنفار الفرق الأربع في التحلق حول غدائهم المشترك … بدأت البنات تغني ، والصبيان يلعبون الطرة ، أو يتسابقون في الجري لإثبات القوة أمام البنات ، ومع انتهاء وقت الراحة ، عاد الجميع إلى العمل بلا تذمر ، وعدت أراقب الأفق ، وأتعجل ميل الشمس .
عندما مالت انصرفنا ، أخذت طريقي إلى بيتنا منهكا ، مكسورا ، أفكر : متى يمكنني أن أنسى ما حدث اليوم ، ومن الواضح أن نسيانه مستحيل لاقتناعي بأن المهندس بشاربه المبروم وحدقته البنية الحادة اللامعة – قد ظلم خالد بن الوليد ، وظلم العقاد ، وظلمني !! احتجت إلى سنوات طوال ، استعدت فيها المشهد – الذي لا ينسى – مرات ومرات ، بمناسبة وبغير مناسبة ، إلى أن انتهيت ، بعد أن شاب شعر الرأس ، بأن هذا المهندس
( المتغطرس ) كان الصواب في جانبه !!
لم أكن أدري أن الحدث الواحد ينبغي أن يوضع في ظروفه وفي سياقه ، وفي ملابساته ، وفي أهدافه ، لتتكشف كل وجوهه حتى يتجلى وجه الصواب فيه !

اترك تعليقاً