كعب الجزمة – 8 يونيو 2017

كعب الجزمة – 8 يونيو 2017

كعب الجزمة ..
لا أزال أحفر في ذكريات الطفولة الباكرة في قرية (على شمال الدنيا) بين الدقهلية والشرقية ، تسمى “تمي الأمديد” ولا أبالغ إذا زعمت أن أهلها – على فقرهم – كانت لهم صفات تخصهم ، وتفصلهم – نسبيا- عن القرى الأخرى المجاورة ، حتى قالوا عن أهل تمي : إن أحدهم يأكل عيش ومش ويغسل يديه بالصابون ، ويمشي وراء الجاموسة حافيا ، وفي يده الأهرام !! توقف زمن الطفولة الباكرة عند سن الثانية عشرة ، وهو ما يوازي 1947 ، وفي تلك السنة انتشر وباء الكوليرا في الريف ، مبتدئا من معسكرات الإنجليز على القنال ، وفي محافظة الشرقية ، ولذلك لحقت تهمة الكوليرا بقرية (شرقاوية) اسمها ” القرين ” ومنها انتشر إلى أنحاء مصر . في تلك السنة حملتني سيارة نقل محملة بأجولة الأرز ، وصنع لي مخبأ بين الأجولة لأنه – بسبب الوباء – يمنع انتقال السكان دون تصريح ، وفي تلك السَفرة قدمت أوراقي إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم بشارع السكة القديمة ، بالمنصورة ، فانقطع زمن الطفولة ، وزمن القرية معاً إلا أن تكون زيارة موقوتة بالعطلة الصيفية . فما أذكر من طرائف الطفولة الباكرة يرجع إلى ما قبل سكنى المنصورة .
ولا تزال نثارات من ذكريات الحرب العالمية ( الثانية / هتلر ) عالقة ، من أوضحها تلك الأغنية التي غنتها أخواتي البنات ، وصديقاتهن ، متحلقات في المساحة الفارغة بين دارنا ودار عبد الحافظ ، وكن يغنين ، وقد أشيع اغتيال هتلر ، وانتهاء الحرب :
لما قالوا هتلر مات
ربنـــــا عدّل للبنات
والإنجليز بل الشربات .. ولدي يا ولدي !!
وبل الشربات يعرفه الجيل القديم ، الذي أمثل ذيوله المتخلفة ، فلم تكن المشروبات الجاهزة ميسرة ، أو معروفة في الريف ، وإنما كان يتم صنع الشربات بشراء زجاجة ورد ، أو مانجو من بقالة عبد الحافظ ، وصبها في حلة مياه كبيرة – حسب الطلب – ووضع “راس” سكر فيها فيتكون الشربات . انطلقت البنات في الغناء والرقص إلى أن ظهرت في وسطهن بنت ممصوصة ذات شعر أكرت ، وقد جاف . نهضت فحزمت نفسها بثقة ، وتوسطت حلقة البنات ، وأخذت في الرقص والتمايل ، بتفاخر واستعلاء ، فقد كانت تعمل خادمة في مصر ( القاهرة ) ومن هنا اختلفت لهجتها ، والتهب تعاليها على البنات الفلاحات ، وراحت ترقص وتهز رأسها وتغني بمفردات لم تسمع بها بنات القرية ، أذكر منها :
يا بتاع الحرنكش
حرنكش من أُدّام
وحرنكش من ورا
ورددت خلفها البنات مع أنهن لم يسمعن عن الحرنكش من قبل ، وربما حسبوه كلمة قبيحة ، ولكنهن انسقن وراء فتاة المدينة ( الأرقى ) التي تنطق القاف همزة وليست ( جيم ) !!
لم يعجبني الحال ، كنت أصغر من البنات – في جملتهن – ولذلك كنت مع بعض الصبية من أمثالي نتوسط دائرة الرقص ، أو نجلس على أطرافها . تأملت منظر الفتاة العجفاء المتعالية ولم يعجبني ، تأملتها قليلا ، ورغم مرور أكثر من سبعين عاما على تلك اللحظة ، فإن العبارة التي تفوهت بها ، والحركة التي غادرت عقبها حلقة الرقص لم تفارق مخيلتي إلى اليوم . وقفت على حيلي وواجهت البنت ، وأظن أن اسمها كان ” قدرية ” وقلت لها مواجهة : كده .. كده ، يا أم رأبة زي كعب الجزمة !! وانطلقت جاريا ..
للآن أتساءل : ما المخزون العجيب الذي أمدني بهذا التشبيه النادر الدقيق في صورته الحسية ، وفي دلالته النفسية المزدرية ، والمحطة ؟ بل كيف تمكنت من نطق ( رقبة ) على طريقة أهل المدينة ، وكما تنطق البنت نفسها على سبيل التعالي ( رأبة ) .
ولله في خلقه شئون !!

اترك تعليقاً