هل اكتشفني جورجي زيدان ؟ – 22 يونيو 2017

هل اكتشفني جورجي زيدان ؟ – 22 يونيو 2017

هل اكتشفني جورجي زيدان ؟
لا تزال الطفولة الباكرة تفرض حضورها ، من خلال تداخل الأم ، كنت مصدر قلق لها لشقاوتي ، ولأنني لا أكف عن إحضار أندادي في العمر ليلعبوا معي في المندرة وقت الظهيرة ، التي كان يطيب لأمي أن تنام أثناءها في الغرفة المقابلة . كانت – إذا ضاق بها الحال – تصحو من غفوتها ، وتصيح : طيب يا وش الهخص ، إن مسكتك مسكك عفريت !!
ومع أنها كثيرا ما أمسكتني فإنها لم تعاقبني بدنيا على الإطلاق ، على الرغم مما كان يبدو عليّ من شقاوة ، فكم ( استحميت ) مع الصبيان في الترعة ، وكان لي – في كل عطلة صيف – دستة حقن ( الطرطير المقيء ) في المستشفى المتنقل لمقاومة البلهاريسيا ، وغير ذلك كنت مغرما بالكشافة ، وكان الضيف أحمد يجيد الضرب على الصفيحة المعلقة في رقبته ، كما كنت أجيد : شمال يمين في عز نار الظهيرة ، وإقلاق الهاجعين ، وقد انتقلت من الكشافة إلى صناعة ” السيارات ” من الأسلاك ، وتشكيل عجلاتها من لدائن الطين ، أو أغطية زجاجات الكازوزه التي بدأت تظهر في بقالة عبد الحافظ ، تلك الفترة ، غير أن الأمور هدأت حين قاربت زمن البلوغ ، وعرفت الطريق إلى روايات تاريخ الإسلام ، التي يكتبها جورجي زيدان ، فأصبح مقري الدائم : المصطبة الخشبية التي تتصدر الواجهة البحرية للدار ، حيث أفرش حصيرة ، واضع مخدة وقلة ماء ، وامسك الرواية وأتمدد ، وأظل أتقلب يمينا وظهرا ويساراً ، فلا أنهض حتى أكون انتهيت منها ، أو أكاد .. هذه المرحلة اختلفت فيها استجابات أمي ، حتى كانت توصيني أحيانا – بيني وبينها – ألا أتكلم أمام أحد حتى لا أصاب بالحسد !! ولم أجد في نفسي ما يستحق الحسد ، ولا يزال هذا شعوري إلى اليوم . لكن بصفة عامة كانت عواطف أمي الحقيقية مع ابنها البكر ( إبراهيم ) وبناتها الست – على التعاقب – ثم مع أخي الذي يكبرني مباشرة ( عبدالله ) الأقرب إلى سمتها وطباعها . مما عمق في نفسي أنني الشخص الزائد عن الحاجة ، أو المتمرد الذي لا ينتمي لأحد !!
كان الأمر مع أبي على نقيض ذلك ، فمنذ الطفولة الباكرة وأنا أجلس على رجله ، وأردد وراءه :
– إلهك الله .
– نبيك محمد .
– دينك الإسلام .
– مذهبك الشافعي .
وأحيانا يزيد تعبيرا عن الخصوصية المصرية في حب آل البيت : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا عليّ !!
وحين تجرأت على الانطلاق في الشوارع القريبة كان يتصادف أن أمر قرب قهوة علي عوض – القريبة من محطة القطار – فأجد أبي مع أعيان القرية جالسين يلعبون الدومينو ، ويحتسون القهوة ، وإذ ( أتمحك ) في أبي ، فإنه كان يصب قطرات من فنجان قهوته في الطبق فأشربها ( في الحقيقة : ألحسها ) وأنطلق عائدا للعب مع الصغار ، واقسم – غير حانث – أن مذاق تلك القطرات لا يزال في فمي ، ولا تزال القهوة من طبق الفنجان حلماً وأمنية لا أجرؤ على ارتكابها .
أدركت مبكراً الهيبة التي يحظى بها أبي في القرية ، والاحترام العام عند ذكر اسمه أمام كل من يعرفه ، حتى بالمصادفة في عربة القطار ، ولهذا لم أكن أتسامح أبداً – كما يتسامح الأطفال عادة – بشتيمة الأب أو الأم ، ولا أزال أذكر أن أحد أصدقاء أبي ، وشركاء مجلس القهوة ( الشيخ أبو المعاطي ) – الذي يلبس القفطان بلون الطحينة والطربوش الأحمر والعمامة ، كان إذا رآني في الطريق ، وأراد مداعبتي ، بادرني قائلا : واد يا محمد .. ازيك يا ابن الكلب !! أنظر إليه بغضب ، وأبادره : إنت اللي ابن كلب ! وأطلق ساقي للريح .
شكاني الشيخ أبو المعاطي لأبي ، الذي حاول إفهامي خصوصية الموقف بأن ذكر لي – أنا طفل السادسة أو السابعة على الأكثر – بأن الشيخ أبو المعاطي ( كل خلفته بنات ) ولذلك هو يعتبرني ابنه ، فيعطي نفسه الحق في هذه المداعبة الثقيلة ، ولكنني لم استوعب هذا أبداً ، ولم أعدل عن جوابي حتى عدل الشيخ أبو المعاطي عن طريقته في المداعبة .

اترك تعليقاً