الذي رأى – 28 يونيو 2017

الذي رأى – 28 يونيو 2017

الذي رأى ..
هذه العبارة ( الذي رأى ) توصف بها شخصية العملاق الأسطوري ( جلجامش ) بطل أقدم الأساطير السومرية . حمل هذا الوصف لأنه عاش تجربة الدنيا في بلاد العراق ، وتجربة العالم الآخر ، حين نزل إلى ما تحت الأرض ، وانتزع نبتة الخلود ، ولكن الحية سرقتها منه في طريق العودة ، فرجع إلى أوروك ( الوركاء ) خائبا ، غير أنه اكتشف أن خلود البشر يتجلى في عملهم الجماعي ، وتماسكهم حول الوطن .
أبدأ من هذا التأسيس لأحفر – على الجانب الآخر – في ذكريات الطفولة من جهة الأب ، وأستطيع أن أُجمل علاقتي بأبي أنه كان سندي الوحيد ، إذ كان يمنحني ثقته المطلقة ، منذ الطفولة الباكرة ، وكنت لا أزال (أُزعة ، لا يختلف كثيرا عن شكل صباع الطباشير) ومع هذا كان أبي يقول عني : محمد ده وُليد (مصغر ولد للتملح والتحبب) ولعل هذا ما كان يجعلني أشعر بالامتلاء العاطفي ، والثقة العقلية ، والاستسلام لطلاقة اللسان دون تهيب ، ودون أن أنتظر تقدير أحد آخر ، مع هذا كان لا يتردد عن لومي ، وربما معاقبتي إذا حدث مني تجاوز لتعليماته ، أو إهمال لبعض ما يجب الحرص عليه .
أذكر هذه الحادثة على التحديد : كنت في الخامسة عشرة من العمر تقريبا ، وكنا نزرع ثلاثة فدادين قطن ، فلما جاء زمن (خَفّ القطن) استأجرنا عدداً من الصبية والبنات للقيام بهذه المهمة ، وأوصاني أبي بأن أظل “رئيس العمل” أراقب الأداء فقط . قبلت هذا ، وأخذت الأنفار باكراً وذهبنا إلى الغيط ، وبدأنا العمل حتى الظهيرة على خير وجه ، كان من بين الأنفار فتاة تقاربني عمراً (نسيت اسمها) وأذكر منه أنها بنت أبو المنشاوي . حدث أثناء العمل أن دخلت شوكة في كعب قدمها ، فانطلقت في البكاء بدموع غزيرة وصياح مكتوم ، مما رق له قلبي ، فأوقفت العمل كلياً ، وجلست في مقابلها على خط القطن المجاور ، وطلبت منها أن تمد ساقها ، لأعاين مكان الإصابة : أسلمتني ساقها على امتدادها (وبقية الأنفار يتحلقون حولنا) فلما رفعت الساق المصابة على امتدادها تسللت نظراتي فرأيت ما لم أكن قد رأيته من قبل على الإطلاق ، كانت مفاجأة دهشت لها ، لغرابة المنظر الذي ليس لي به سابقة (ولا في الخيال) فرحت أمعن النظر ، ثم تنبهت بسرعة ، ونزعت الشوكة ، وطيبت خاطر البنت ، ولكن تبين لي أن وقتا عزيزاً محسوبا على العمل قد مضى في هذه المسألة ، فاقترح الأنفار أن أتخلى عن موقع (المشرف) وأن أعمل معهم نفراً ، وأن يأخذ كل منا خطين بدلا من خط واحد! وبذلك يمكننا أن ننهي خفّ الأفدنة الثلاثة قبل غروب الشمس ! وافقت على الاقتراح ، وأخذت خطين ، مثل كل الأنفار ، وانهمكت في العمل ، وكان ظاهر الأولاد والبنات أنهم يعملون بجد إلى أن انتهى اليوم ، وانتهى المطلوب ، وعدنا إلى بيوتنا . سألني أبي عن الإنجاز فأجبته بما طمأنه ، ولكنه حين ذهب إلى الغيط بعد بضعة أيام اكتشف الإهمال في الأداء ، كما أنه أدرك سببه دون كلمة مني ، إذ قال : أنا قلت لك عملك الإشراف فقط ، ولا تعمل بيدك ، وإنما تراقب ، والنبي عليه السلام يقول : إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم أمير !! اعتذرت بحسن النية ، ولكنه لم يقبل الاعتذار ، وقال بصرامة : ستذهب وحدك إلى الغيط ، وتقوم بإصلاح الخطأ ، في يوم .. في أسبوع .. أنت وحدك المسئول !!
وقد كان ..
مع هذا لم يكن يتحفظ في إظهار افتخاره بي ، وثقته في مستقبلي ، مع إنني كنت مجرد طالب بالمعهد الديني (طالب غير متفوق حتى وإن كان معروفا بين أنداده من الطلبة) ولم أره يظهر مثل هذا الفخر بالنسبة لأخي الأكبر (مباشرة) مع أنه طالب بطب القصر العيني (وما أدراك ما طب القصر العيني في ذلك الزمن) بل نقل لي أبي كلمة صديقه الشيخ أبو المعاطي (الذي رددت شتيمته سابقا) إذ قال بعد زمن ليس بالطويل بعد تلك الحادثة : تعرف يا شيخ حسن ، ابنك محمد ده أحسن من عشرين فدان ، وبكرة تشوف !!
طبيعي أنني كنت أسمع هذه المقولات التي تتكرر بصيغ مختلفة ، وطبيعي كذلك أن أفرح بها ، ولكني أبداً لم أتخذها عقيدة ، كنت دائما ( في حالي ) ولا أكف عن القراءة في كل الاتجاهات ، وكان هذا عزائي وحارسي منذ ذلك الزمن البعيد ، وإلى هذا اليوم !!

اترك تعليقاً