حين يأكل الآباء الحُصرم ! – 20 يوليو 2017
حين يأكل الآباء الحُصرم !
هل أطلت –دون أن ادري- في بسط حكايات الطفولة والمراهقة ؟ . لم يكن هذا مقصوداً لذاته ، وقد أشار ناقد أدبي (إنجليزي) إلى هيمنة عاطفة الحب على موضوعات السرد بصفة خاصة ، وله تعليل طريف سبقت الإشارة إليه ، وقد يشير علم النفس إلى أن السنوات الثلاث الأولى – بما فيها أشهر الحمل التسعة – هي الأقوى تأثيراً في تكوين سيكولوجية الطفل !! ولست أصلح لإصدار حكم في هذا ، والذي أعرفه أنني ظللت (أشتغل) مفتاح لرفاص باب دارنا حتى سن العاشرة !! إذ كثيراً ما كان الهواء البحري (الشمالي) يسكع الباب المفتوح ، وتكون أمي خارجه ، فلا تجد حلا غير أن أمر بكياني الضئيل من بين حديد شباك المندرة وأدخل لأفتح رفاص الباب الكبير الذي تعلوه (سماعة) على هيئة كف قابضة على كرة حديدية ، كنت أتشعلق لأبلغها حين أضطر إلى استخدامها .
مسلسل (الحب) الذي تعلقت به ، وكأنه ضمانة لشحذ الوعي ، وتنشيط الفكر بدأ مبكراً جداً ، واستمر (بيني وبينك: ربما إلى زمن الكهولة ، والطمع في الدنيا) ولم يحدث أن فكرت في تعليل ذلك ، فأنا في حاجة دائمة لأن اشعر بأن في مرمى الرؤية فتاة أسعى إلى أن أكون أثيراً عندها ، أو لست مثل الآخرين في نظرها !!
سمعت هذه القصة (الخبر الاعترافي) من أبي ، لا أذكر متى ، ومن المؤكد أنه كان لهذا سبب حاضر من جانبي . قال : إن والده (جدي عبدالله) توفي وكان أبي في الرابعة عشرة من عمره أو أقل ، وحدث أن كان أبي يمارس (شقاوته) بتسلق جدار (دوار العيلة) ففوجئ بلدغة ثعبان من بين كتل الحجارة !! صرخ وألقى بنفسه أرضا ، وحمله إخوته ممدداً على المصطبة ، وبسرعة استدعوا (طبيب القرية) المقيم ، الذي يمارس الحجامة والكي ، وبسرعة قرر أن كي مكان عضة الثعبان هو العلاج الوحيد السريع !! وهكذا أمسك أربعة رجال بأطراف الصبي ليمكنوا المعالج من أداء عمله ، فبدأ يكوي بمسمار ملتهب ،وبدأ الصبي يغيب عن الوعي لشدة الألم أو لشدة السم ، هو لا يعرف ، ولكنه سمع في سكرة الوجع أحد إخوته يحرض المعالج على إشباع الكي بأن خاطبه : إديله حقه ! سمع الصبي المصاب العبارة ، فترجمها في خياله بسرعة بأن الكلام يخص توزيع الأرض الموروثة عن جدي ، وبذلك شعر الصبي الملدوغ بشيء من الفرح ، وقال في نفسه : إذا أعطوني حقي في أرض أبي فسيكون أول ما أفعله أن أتزوج أم الخير بنت عمي !!
ذهب أثر عضة الثعبان ، ولم يتزوج أبي أم الخير ، بل تزوج أمي (زكية) ولم يتزوج غيرها ، ورأيت دموعه العزيزة تسيل بلا تحفظ يوم رحيلها ، بل رأيته وقد ترقرقت دموعه بعد سنوات من الرحيل حين كان عبد الحليم حافظ يغني (خسارة فراقك يا جارة)!
أنا وارث هذه العاطفة الحادة ، الحارة ، الجادة ، ولا أزال أحتضنها كما يحتضن الجندي سلاحه الذي يعرف أن حياته وشرفه مرهونان بتمسكه به !!
مع تقدم الزمن ، وسكنى المنصورة ، بدأ طور آخر مع بنات المدينة ، غالبا هن بنات الجيران ، فبعد سمية ، وسناء ، وحياة ، وحسينة ، بدأ مسلسل نجاة ، وفريال ، ونبيلة ، إلى أن استهل زمن دار العلوم ، فتوقف المسلسل الذي لم يصمد أمام إغراء الإغراق في قراءة الأدب ، والتطلع إلى المنافسة على التفوق !!
مع هذا كان عدد من أولاد أخواتي البنات يقاربونني سناً ،وينادونني (خالي محمد) يستبيحون المزاح معي ، حتى حافة التبسط والهزل ، دون اطراح الاحترام ، وربما قال أحدهم : قلب خالي محمد زي الأتوبيس ، واحدة طالعة ، وواحدة نازلة ، ودائما كامل العدد !!
أذكر الآن من أولاد أخواتي البنات القريبين من عمري : الدكتور ماهر يوسف المتخصص في علوم القطن ، والمهندس عبد الرحمن الشافعي ، والأستاذ محمد حسني مدرس اللغة الإنجليزية ، والملاح الجوي محمد حلمي حامد – أبناء أخواتي : هانم ، وحكمت ، وسميرة ، وزينب .
رحم الله الجميع .. الأخوات .. وأبناءهن .. فقد رحلوا جميعا وتركوا للخال لوعة لا تنتهي ..