إخفاقات .. موجعة أحيانا – 27 يوليو 2017
إخفاقات .. موجعة أحيانا
لا يدعي أحد أن مراحل عمره على امتدادها كانت مجرد (جرة عسل) يغترف منها ولو حينا بعد حين ، حتى مؤلف مسلسل “العسل المر” وهو أستاذ أكاديمي كبير – لم يجد حرجا في تجريد العسل من صفته الطبيعية وإلصاق المرارة به . معنى هذا أن ما سقت من خفايا زمن الطفولة لم يكن كله عسلا في عسل ، فهناك لحظات ومواقف وأحداث موجعة ، بل شديدة الوجع أحيانا ، وربما أعانني الله بالتغلب عليها بأن لا أطيل الوقوف عندها ، مقدرا أن الإسراف باستعادتها سيؤدي إلى الإحباط ، وقد يقوي الشعور بالكراهية أو الحقد – والعياذ بالله – تجاه من أسهم في صنع تلك الإخفاقات .
إخفاقات عمري مثل : الكرة الغاطسة في الماء ، تغطس وتقب حينا بعد حين ، فتظل ماثلة أمام الخاطر باستدعاء المناسبة ، وليس بإجترار الآلام ، أو الاحتفاظ بلحظات الهزيمة .
سأحكي لك بعض هذه الإخفاقات الموجعة حين أتذكرها .
بسبب ضيق اليد ، وضيق النفس بمعيشة القرية ، فكرت في أن أعمل مدرسا في المرحلة الابتدائية عقب حصولي على شهادة ابتدائية الأزهر، وكان طه حسين حين توسع في التعليم الابتدائي ، وانه كالماء والهواء ، اضطر إلى قبول حَمَلة ابتدائية الأزهر مدرسين ، كنت في السنة الأولى الثانوية بمعهد المنصورة الديني حين تقدمت بطلبي للمنطقة التعليمية ، مع إقبال زمن الثورة (1953) وسرعان ما جاءني رد المنطقة التعليمية بالمنصورة معتذرا عن عدم قبول حَمَلة الابتدائية مدرسين ، وكان هذا أول إخفاق !!
وحين أصبحت ناجحا في الثالثة الثانوية الأزهرية فكرت أن اقطع خيط التعليم وأنتقل إلى “مدرسة الصيارف” – تلك التي أنشأها محمد محمود باشا حين كان رئيسا للوزراء بقصد تنويع مجالات العمل أمام الأزهريين . ولكن أبي رفض تماما هذه المحاولة ، وكذلك أخي الأكبر ، فاستمر وضعي المأزوم عامين آخرين حتى حصلت على الشهادة الثانوية ، وكنت أحلم باتساع المصروف ، ورغد العمل في الريف ، والحصول على فروق تحصيل “المال = ضريبة الأرض الزراعية” – كما هو معروف .
وفي بداية الحياة في القاهرة فكرت أن استعين على ضيق ذات اليد بالقيام بإلقاء خطبة الجمعة في أحد المساجد لقاء آجر ، وكانت لي سابقة (غرام) بأداء خطبة الجمعة زمنا في قريتنا بلا مقابل مادي بالطبع ، وبالفعل ألقيت خطبة الجمعة في مسجد ابن سندر (اسم ميدان بحي القبة) وبعد أن ألقيت خطبة الجمعة التالية جاء مسئول المسجد وشكرني ، واعتذر لي عن عدم الاستمرار ، فانصرفت وقد غرمت أجرة المواصلات أربعة مشاوير (من فم الخليج إلى القبة) ، ولم أحصل على مقابل الخطبتين !!
وقي أعقاب تخرجي في دار العلوم ، وتفوقي ، رشحت متفرغا للدراسات العليا بمكافأة ، كما رشحني الدكتور عبد الصبور شاهين –رحمه الله- مدرساً بمدرسة القلب المقدس (سكركير) بحي غمرة ، وهي مدرسة بنات . ذهبت إلى هناك وقابلت مسئول اللغة العربية ، ودفع إليّ بالجدول ، وبدأت أدرس ، وأتصور أن طريقتي في التدريس استقبلت استقبالا حسنا من جميع بنات الفصل ، (وهن من الطبقة الميسورة أو العالية) ولكن هذا الأمر لم يستمر أكثر من أسبوعين ،وجاء مسئول اللغة العربية يقدم اعتذارا ، غير مصحوب بأية مكافأة ، قائلا : إنه كان طلب مدرسا من المنطقة التعليمية ، وان هذا المدرس حضر اليوم ، ولابد من تسليمه العمل ، فانصرفت آسفاً دون كلمة احتجاج ، وفيما يبدو لي – من بعيد- أن الذي رشحني (عبد الصبور شاهين الإخواني) غير الذي استقبلني بالمدرسة وهو إخواني كذلك ، فلما لم يجدني على هواه أخلى سبيلي دون كلمة وداع مقدرة !!
هذه بعض الإخفاقات التي يمكن الاعتراف بها ، وهذا يعني أن في الجعبة إخفاقات يصعب تسجيلها كتابة ، لكن ما أعتقد أنه ينتمي إلى الغرائز السليمة القادرة على تجاوز العثرات ، واختراق العقبات ، ونسيان الهزائم التي يمكن أن تكون سببا في انحطاط العزيمة .. أنني لم أكن أطرح أسئلة كثيرة لاستجلاء ما كان ، أو ترتيب ما كان يمكن أن يكون.. فقد مضت تلك الإخفاقات بما أثارت من ألم مرحلي ، وشعور بالإنكسار ، لكن على رأي أستاذي وصديقي الأديب الكبير محمد عبد الحليم عبدالله في وصف إحدى شخصياته : إن الأقدار التي قلبت به الزورق مكنته من ركوبه مقلوبا !!
ترى هل لا أزال أركب زورقا مقلوبا إلى اليوم ؟