الموقع والموضع – 24 اغسطس 2017

الموقع والموضع – 24 اغسطس 2017

الموقع والموضع
هذان المصطلحان دفع بهما إلى حياتنا الثقافية العامة (جمال حمدان) وفيهما أبرز التناقض بين خصوصية الموقع (حدود مصر الجغرافية) وخطورته وقوته ، ومحدودية الموضع (أي وقوعها على بحرين عالميين ، في مواجهة أوروبا ،وواجهة أفريقيا ، فضلا عن قناة السويس ) وتواضع إمكانيات الموضع في تحمل تبعات الموقع ، قالهما حمدان في وصف مصر ، وأستعيدهما في وصف القرية التي ولدت بها (تمي الأمديد) التي كثيراً ما ذكرتني بمكة المكرمة ، فهذه المدينة المقدسة إذا نزعت عنها قدسية الكعبة ، وميلاد محمد (ص) لا يتبقى منها غير مدينة بازلتية مقبضة ، قابعة في سكون بين جبال ضارية ، ولكن سبحان الله الذي جعل ملايين الأفئدة تهفو إليها دون انقطاع . هكذا علاقتي بقريتي ، فإنها – على فقر طبيعتها – أحب أرض الله إليّ ، وليس عبثا أن يشار دائما إلى (مسقط الرأس) وأنه لا يكف عن نداء الذات الشاردة لتعود إليه .
“تمي الأمديد” حارت في سر تسميتها الأخبار ، أعرف عنها –من خلال التل الأثري الملاصق لها ، أن من أقدم أسمائها في عصور الفراعنة : ( بربه – نب – تات ) ، ثم أقيمت مدينة (منديس) في موقعها في العصر الفارسي ، وكانت منديس مدينة مزدهرة ، كما كان للنيل فرع من أفرعه الخمسة يحمل اسمها ، وقد طُمر ، مثل الأفرع الأخرى ، فلم يبق غير ما نعرفه الآن بفرعي دمياط ورشيد !!
يراجع في هذا كتاب ” مصر القديمة” لسليم حسن ، وكتاب ” نهر النيل ” لرشدي سعيد ، وكتاب أحمد رمزي بك عن أسماء قرى مصر .
“تمي الأمديد” التي أعرفها قرية تابعة لمركز السنبلاوين ، وفي الانتخابات (قبل 1952) كانت تابعة لدائرة “كفر غنام” ، وهي قرية الدكتور محمد حسين هيكل باشا ، وقد كان يحظى بالأغلبية في قريتنا ، على الرغم من وجود وفديين بها ، وكفر غنام قريبة من قرية “برقين” وهي مسقط رأس أحمد لطفي السيد باشا – المشهور بفيلسوف الجيل – ومن هنا كانت الصلة المبكرة بين الرجلين ، حتى ظن البعض أن بينهما قرابة (ولعلها كانت) وأذكر أنه في مقدمة رواية زينب – ذكر هيكل أن لطفي السيد زاره في لوزان حين كان الأخير رئيسا للجامعة المصرية ، وزار فرنسا ، بما يؤكد على متانة العلاقة ، ومجاوزتها لتجاور القرى !!
“تمي الأمديد” يحيط بها تل أثري من الشمال والغرب ، لعله من العصر الفارسي، وتحيط بها مجموعة من القرى التي أصبحت تابعة لها ، بعد أن تحولت تمي إلى مدينة/مركز . أهم هذه القرى : البيضا – غرور – الرُبع – زفر – كفر الأمير – منشية بطاش . وبين تمي والمنشية قرية (سقط) منسية دائما ، كان يطلق عليها – استهانة بها- ( فسّوكة) وقد ابتدع أهل تمي “أرجوزة” تشيد بقريتهم وتسخر من فسوكة .
غرور غرت على زفر
والبيضا ما تدّي خبر
والسبع في تمي كَسَرْ!!
يا حايرة .. يا دايرة .. بين البلدين يا فسوكة !!
كان أهل فسوكة يضيقون باسم قريتهم ، ولا يجدون سبيلا إلى تغييره ، بل كان الديزل الفرنساوي كثيرا ما يمتنع عن الوقوف بها .. إلخ ، ولكن حدث في آخر انتخابات أجريت في مصر (الملكية) : 3 يناير 1950 ، أن ذهب جماعة من أعيان فسوكة إلى مرشح الوفد ، واشترطوا عليه لكي ينتخبوه بالإجماع أن يعمل على تغيير اسم قريتهم ، وأن تصدر الأوامر للديزل الفرنساوي بالوقوف الإجباري في محطتها التي لا وجود لها !!
لقد تحقق لأهل فسوكة هذا ، وهو أمر متوقع ، بعد نجاح مرشح الوفد ، ولكن غير المتوقع هو الاسم البديل الذي اختاروه ، وسجل في الأطلس المصري ، وجرى على الألسنة حتى اختفى تماماً عند الجيل الراهن على الأقل – اسم فسوكة . أما البديل فكان : الكمال – بأل التعريفية التي تدل على الحصر والقصر ! أترك لك أن تتأمل المسافة الشاسعة بين فسوكة والكمال . أما طوبوغرافية تمي ، وطبائع أهلها بين ضرورات الموقع والموضع ، فلا مناص من تأجيلها .

اترك تعليقاً