طابع المكان وطبائعه – 31 أغسطس 2017

طابع المكان وطبائعه – 31 أغسطس 2017

طابع المكان وطبائعه
في تعقيب لأحد الأصدقاء على ما سبق طرحه بالنسبة لقرية “تِمَيّ” أشار إلى أنني ذكرت أسماء عدد من القرى المحيطة بها ، وأهملت عددا آخر ، مثل : أبو الصير ، والعميد ، والحصاينة ، وديو (بلد الأديب أبو المعاطي أبو النجا)، والمقاطعة ، وهذا كله صحيح ، ولكن الوجدان يحتفظ بمكان الأفضلية ، لعلاقات المودة ، ويهرب من مشاعر الجفوة . وقد كانت (المقاطعة) المنافس المستمر لقريتنا في انتزاع الإدارات المستجدة ، والحلم بأن تكون (مركز) مقترح . والمقاطعة تستقوي على تمي بأنها بلد إسماعيل باشا رمزي (وآل رمزي ، من بكوات وباشاوات) ولم يكن لتمي هذه المكرمة ، فأهلها جميعا فقراء لا يملكون أرضا ، أو يملكون مساحات محدودة جداً ، وأغنى أغنياء القرية لم يقترب من العشرين فداناً (خارج زمامها) ومن هنا كانت روح الديموقراطية والشعور بحضور الذات والكرامة الشخصية ، والجرأة في المواجهة علامة أساسية في أخلاقيات أهل تمي مهما كان مستواهم . وتكاد تكون هذه القرية من بين عدد نادر من القرى لم يعرف (قباب) المشايخ والأولياء ،ولم يقم احتفالات دورية لسيدي فلان أو سيدي علان ، فلم يكن في قريتنا (سيد) غير أهلها البسطاء، حتى عمدة تمي الأثير عند أهلها (الشيخ أحمد الضيف – والد الفنان الضيف أحمد) كان يستمد وقاره من شخصه وحبه للناس ، كل الناس ،وحزمه في إنزال العقوبة بالمنحرفين أيا كانوا ، ولم يكن غنيا بل كان ملكه – في الأرض الزراعية – أقل من النصاب (نصاب العمدة عشرة أفدنة) ولست أدري ، هل يكون من الصواب أن اذكر أن أمي تنازلت له “على الورق فقط” عن فدانين ليستكمل النصاب ، أم أن هذا مما لا يليق ذكره في هذا السياق ؟!
ولعل في هذا الدعم ما يؤكد الطابع العشائري (العائلات) في الحفاظ على منصب العمدة ، فقد كانت أمي من الشرايفة (عائلة شريف – أو الشريف كما يحبون أن تنطق الآن ، والشرايفة – الذين يفترض أنهم أخوالي منتشرون في تمي ، وأولاد صقر ، وديرب نجم، وغيرها من قرى مصر) .
وحدث أن أصحاب مخزن فراشة (مما يستأجر في المناسبات) أرادوا مجاملة أحد (الشيوخ المباركين) وكان شابا وجيها عصري المظهر ، يتصنع الجلالة ، فأقاموا له سرادقا في تمي ، ودعوا إليه أهل القرية ، الذين لا يؤمنون أصلا بهذا النوع من المشايخ . لقد رأيت هذا وكنت على أبواب الشباب ، وذهبت إلى الصوان للمشاهدة ، فرأيت الشيخ (الشاب) جالسا (لابس أبيض في أبيض) وقد لف أحدهم يد الشيخ في فوطة بيضاء ، وحملها على يديه ليقبلها كل داخل ، من فوق الفوطة ، حرصا على طهارة يد مولانا !! وبالطبع لم يحدث أن قبلت هذه اليد أو غيرها ، باستثناء الوالد وأعمامي – رحمهم الله جميعا .
أما جغرافية القرية فكانت مقسمة إلى : شمال قديم ملاصق للتل الأثري ،وجنوب حديث ، يتمدد في اتجاه الأرض الزراعية لأن التمدد في أرض الآثار (التل) محرم قانونا ، وكان القسم الشمالي يطلق عليه “فوق الريح” لأن الريح شمالية تأتي من جهته ، أما القسم الجنوبي – وفيه دارنا – فكان : تحت الريح ، وكان سكان تحت الريح يعتبرون أنفسهم أرقى حضاريا من أهل فوق الريح ، لدرجة أن شخصا يمكن أن يعتبر وصفه بأنه من فوق الريح أو يشبههم إهانة ونقص !!
فهل كانت هناك فوق حقيقية ؟ لا أظن . ومع ذلك كانت أقسام خطط وشوارع فوق الريح تحمل أسماء قابلة لأن تكون مستهجنة مثل : عزبة العبيد ، فمن أين جاءت هذه التسمية ؟ وقد يصح أن فيها عائلات غامقة اللون ، ولكنها لا تختلف عن الآخرين بالدرجة التي يصنفون فيها بهذا الوصف . وهناك حارة الخلنجان ، وللآن لم أعرف معنى الخلنجان . أما الحاجز بين فوق الريح وتحت الريح فكان : الحوار أو حوار العوامر (عائلتي وعشيرتي) وقد رأيت فيه بيت جدي ، تعقبه بيوت العوامر على التتابع في سنين طفولتي المبكرة ،و لعل أبي كان أول من غادر الحوار ، وبنى بيتا مستقلا “تحت الريح” في صدارة ساحة واسعة كانت تحمل اسم (البركة) ، وظلت تحمله عددا متطاولا من السنين ، حتى بعد ردمها . ورأيت زمن الطفولة هذا البيت نفسه وهو يتمدد في عدد غرفه ، والصورة المستقرة له في مخيلتي تختزن طاقة من الشوق والحنين تستدر الشفقة ،وكأنما أودعت في ذلك البيت الريفي أجمل الأزمنة وأحلى الذكريات !!

اترك تعليقاً