سير .. وصور – 7 سبتمبر 2017
سير .. وصور
حين يفكر كاتب في نطاق سيرته الذاتية ، فإنه لا يستطيع أن يجرد من حياته كيانا منفرداً أو مفرداً ، إنه – ببساطة – واحد في مجموع ، ومن ثم سيستدعي نماذج سابقة ، يهتدي بها ولو على سبيل المخالفة . هنا أذكر طه حسين (الأيام) ، ويحيى حقي (خليها على الله) ولا أتطلع إلى صراحة لويس عوض – على أنهم وازنوا بين مجريات حياتهم ووقائع مجتمعهم ، وهذا ما حرصت عليه إلى حد كبير ، مع فارق أنني لم أحاول أن استدر الشفقة ، ممزوجة بالإعجاب ، كما لم أحاول أن اغرق في التوثيق ، وإنما عزفت على عديد من الأوتار ، ما بين الشخصي والمجتمعي .
أخشى ما أخشاه أن تكون الصورة التي رسمتها لتمي جافة مثل طبيعتها ، وقد علق أحد الأصدقاء المتابعين بأن وصف المجتمع القروي في تمي بأنه ديموقراطي ، إذ كان مجتمعا من الفقراء ! وسأضيف إلى ملاحظة الصديق : أن الديموقراطية لا تعني الفقر بقدر ما تعني السعادة ، والطمأنينة ، والثقة بالنفس النابعة من الشعور بالعدل .. هكذا كان مجتمع قريتي ، فلم يكن نادرا أن تسمع – في أية حارة أو زقاق – أصوات الطبل والغناء ، استعداداً أو استجداءً لحفلة عرس اقترب موعدها أو كاد ، وقد كانت أخواتي البنات استطلن مدة خطبة أخي إبراهيم لابنة العمدة دون إتمام الزواج ، وقد يحدث أن تعترض إحدى أخواتي طريق الشيخ أحمد الضيف – على جلالته ووقاره – فتسأله : متى يتم الزفاف ؟ يجيب : قريبا ! تعود فتسأل : يعني نطبل ؟ يرد : طبلوا . فلا تكاد تسمع هذا الجواب العائم حتى تجمع أندادها من البنات ، ويتحلقن على مصطبة دارنا ، وهات يا رقص ، ويا طبل ، ويا غناء كل ليلة حتى تتراجع الهمة فيتوقف الحفل في انتظار وعد جديد !!
أهل تمي أهل نكتة تنبثق مما في تكوينهم المجتمعي من ذكاء البيئة ذاتها ، واذكر أن عمي عبد الغفار (وهو اكبر من أبي) حين علم بأن طه حسين تزوج فرنسية ، علق متهكماً : جاته خيبة .. حرم نفسه من المولد والرفرافة (وهما : مواسم يهدى فيها للابنة المتزوجة بأقماع السكر ، والأرز ، والفطائر أو القُرَصْ) – فتأمل هذه المفارقة النادرة ، وهذا العم نفسه هو الذي علق على خطبة الملك فاروق للملكة فريدة بقوله : يا سلام .. ملوك بجه .. دا زمان حماته بتسكعه كل طاسة عجة بالسمنة .. مفيش بعد كده !!
وكانت تمي مفعمة بأصحاب الأصوات الجميلة ، وهناك عائلة محددة يطلق عليهم (العطاطرة= العطارين أو جمع عطار) يتميز أفرادها بالصوت الجميل وإتقان الغناء ،و قد زعم البعض سبباً لهذا أن كبير العطاطرة ، في ليلة القدر ، ظهرت له طاقة القدر ، فأراد أن يطلب من الله الغِنى (بكسر الغين) فمن لهفته نطقها : الغُنا (بضم الغين) فصادفت دعوته استجابة ، وتميز نسله بهذا الصوت الجميل ، وقد رأيت من بينهم (ياسين) وكان يغني بالهواية ، ولا يقبل أجراً ، وإنما يعتز بالصحبة ليس أكثر .
وقد عرفت تمي زيارات سيرك العربي ، الجوال الموسمي ، وبخاصة مع إقبال الخريف وهو زمن جمع القطن وكيزان الذرة ،وكانت خيمة السيرك تنصب في (البركة) أمام دارنا ، ويضاء بالكهرباء ، فيجمع البعوض والهاموش وهوام الليل المزعجة ولكن الأضواء الملونة والموسيقى النحاسية كانت تعوضنا عن ذلك . كان السيرك ينصب خيمة ضخمة ،وأخرى لحيواناته المفترسة : الأسود والقرود ، وكان الجلوس على كرسي قرب الحلبة بثلاثة قروش ، أما الجلوس على رف خشبي (سقالة) فبقرش واحد ، وكثيرا ما كانت السقالة تسقط بمن عليها فيسرع الرواد لإنقاذ بعضهم بعضا ، ويعودون لمتابعة العرض .
كانت “إنصاف” زهرة جميع العروض ، وكان يقال إنها من بنات سيرك (الحلو) ولم تكن إنصاف ترقص إلا في الليالي مكتملة العدد على سبيل التشجيع ، وذات مرة رقصت وهي نائمة على ظهرها ، وزادت فعزلت خصلة من شعرها أمام فمها ، وكانت ترقصها بأنفاسها على نغم الموسيقى ، مما استفز استحسان الجمهور (الريفي) المحروم من متع الدنيا ، فعلا الضجيج ، وتصادف أن كان العمدة يتصدر الصفوف فأسرع صاحب السيرك وقفز الحاجز ومنع إنصاف من الاستمرار توقيرا لحضور عمدة البلد !!