البذرة .. شجرة كامنة .. شجرة كاملة !! – 14 سبتمبر 2017
البذرة .. شجرة كامنة .. شجرة كاملة !!
تقريبا : لا فرق بين النجوع في الصعيد ، والكفور في الدلتا ، من حيث “فلسفة” التوزيع العمراني . وفي تمي كانت بيوت المياسرة (آل المسري) ومن يلوذ بهم من الجِندي ، والمُهدي ، وأولاد موسى ، تنتشر مساكنهم في مسارات ودوائر شرقي القرية ، في حين كان الشرايفة والعوامر ومن يلوذ بهما في موقع المواجهة ، وليس بين الفريقين غير (البركة ، وهي مساحة خالية واسعة كانت بركة وجففت ، واحتفظت باسمها) وكانت دارنا على الواجهة البحرية لها ، أي بين المياسرة والشرايفة . هذا التقسيم التقريبي لم يكن حاسما وبخاصة بعد امتداد المساكن ناحية المزارع ، وناحية التل الأثري ، وحول محطة القطار . فهكذا حدث التقارب ،وربما الاختلاط ، والمصاهرة ، واذكر أن أديبا شابا من القرية خاطبني وانتسب – على الطريقة العربية التراثية- وفي آخر اسمه “الجِندي” فصنفته على الفور من خصومنا “التاريخيين” ، ولعل هذا الشعور ظهر على وجهي ، فبادرني قائلا : أنا جوز بنت عمك عبد المعطي ، وهي ستحادثك تليفونيا الآن ! وبصرف النظر عن دقة علاقة القرابة بالعم عبد المعطي (فكل كبار العوامر أعمامي) فإن ابنته اتصلت فعلا ، وأوصتني خيرا بزوجها .
ومن قبل أنشأ المهندس أحمد عبد الفتاح المسري معهدا صناعيا عاليا في تمي من جيبه الخاص ، كلفه عدة ملايين ، واختار له موقعا خارج نطاق المياسرة ، ولعله أراد “تحرير” هذه المؤسسة العلمية من الانحياز العشائري الضيق .
أما ذكرياتي الخاصة عن الصراع (وحتى المعارك) بين المياسرة والشرايفة ، فتعود إلى زمن الصبا ، ولم تلحق بالشباب ، لأن عبد الناصر حسم الأمور خارج هذه المعادلة القاتلة . هناك أحداث وطرائف يمكن أن تخفف من لوعة ما كان يجري مع كل انتخابات حزبية في القرية ، فقد كان حزب الوفد (الذي يعتنقه المياسرة) صاحب أقلية في تمي ، ولكن حزب الوفد صاحب أغلبية في بقية الدايرة الانتخابية ، وبالعكس كان فريقنا (الشرايفة) صاحب أغلبية عددية تنتخب مرشح الحزب السعدي ، أو الحر الدستوري ، فترجح كفته في القرية ، ولكن الأغلبية المطلقة على مستوى الدايرة تكون لخصمه السياسي .
كان منصب العمدة يتنقل ما بين عوض المُهدي (المياسرة) وأحمد الضيف (الشرايفة) وكانت مدة أحمد الضيف أطول ، وأكثر استقراراً ، وإذا وصف توفيق الحكيم انتقال التليفون من منزل العمدة القديم إلى منزل العمدة المنافس بزفة واحتفال ، فإنني لم أشهد هذا في قريتي ، وإنما شاهدت – بكثير من الحزن – أحمد زيدان غفير الشيخ أحمد الضيف الخصوصي ، ووجهه سعيد ، كما شاهدته حين تنتقل العمودية إلى الطرف الآخر ، وقد لبس الجبخان وأمسك بالبندقية ، ووقف في الدرك مثل باقي زملائه ، وقد كمد وجهه ، واتسخت ثيابه !!
أما زعانف القرية من الضائعين ، فكانوا يسترزقون من الطرفين ، ومن أطرف ما أذكر في هذا المقام أن (قلوم = جلّوم – بالجيم القاهرية) وهو من بؤساء عرب الخيام “دَحْوَر” الملاصقة للمياسرة ، مع ذلك كان يتسول من بيوت الفريقين ، وكانت زوجته (وتطلق عليها القرية جلومة ، نسبة إلى زوجها) تستجدي أمي فتعطيها قرشا ، فإن لم تجد تعطيها بيضة ، مما جاد به دجاجها !! وذات يوم جاء (جلّوم) إلى دار أحمد الضيف مستجديا ، فألح عليه الحضور بأن يغني ، فاستجاب ، ولكن غاب وعيه بطبيعة الموقع ، فكانت الأغنية التي (جاد) بها عن الخصم التقليدي : أبو المهدي ، إذ غنى بحماسة وتصفيق :
اجعد ع الكرسي يا بو المهدي ليلتك سعيدة مندية
فلما كان في بيت أنصار أحمد الضيف ، فقد ناله ضرب وصفع ، ظل يلاحقه حتى اختفى شبحه .
وفي بيتنا كان أخي إبراهيم يسخر من الهتاف العام : “النحاس زعيم الأمة” فيقلبه : النحاس عبيط الأمة !! (مع الاعتذار لكل الوفديين- ماضيا وحاضرا) ، وكان عمري نحو ثلاث سنوات حين رددت وراء أخي الكبير : النحاس بيعبّط على أمه . مع الاعتذار للزعيم الجليل ولوالدته العظيمة !!