مزيكة الشحاتين – 21 سبتمبر 2017
مزيكة الشحاتين
تتعدد مظاهر الفرح وفرص الترفيه في القرية (عبر زماني) وإن ظلت متقطعة مثل قطرات خرير السقف ، لكنها كانت تفرح الناس ، وتنعش أرواحهم . من أشهر العروض السنوية موكب يوم مولد النبي ، الذي تستعد له القرية مبكراً ، وكان يشبه مهرجانات الصخب والسخرية التهكمية في اليونان القديمة ، ففي هذا اليوم يمضي موكب طويل عبر شوارع تمي يقلد أصحاب الصناعات الريفية بطريقة فجة تثير الضحك ، فالحلاق (أو المزين) يطمس وجه الزبون برغاوي الصابون ويشده من ذقنه وبجواره من يعلق : شدها تطلع نعلين !! في حين أن الاسكافي (صانع الأحذية) يلصق نعل الحذاء بلعابه وهو يهتف : الجزمة التلحيسة ! وكذلك تشاهد متولي الزلِطّجي (الزلِطّة = الجيلاتي) وهو يملأ البسكوتة للطفل في مقابل زجاجة فارغة أو بيضة أو كمية عظام ، والمهم أنه يلحس الملعقة عقب كل بسكوتة بلسان طويل مثير للقرف وللغرابة معا !! وقد يقام حفل زفاف وهمي فوق عربة كارو متحركة مع الموكب عليها عريس وعروسة (زائفان) والجمهور بدل الملح أو الكراميلة ينثر عليهما التبن ، وينقطهما بأقراص الجلة الجافة !! وكانت هذه المشاهد (الفظة) تسر الناس جدا ، ويتندرون بها ، ويستعيدون مشاهدها فيما بعد بشغف وانتظار إلى أن يأتي المولد التالي بمشاهد مبتكرة تقتنص الإعجاب العام ، وقد يدخل فيها إجراء عمليات جراحية فوق العربة الكارو ذاتها ، أما أدوات الجراحة فهي الفأس والشرشرة والكريك والشاكوش !! كما قد تتبادل الزوجة وحماتها مونولوجات الردح الأصلي كنموذج للتمثيل المرتجل ، لا يقدر عليه إلا أصحاب موهبة حقيقية لم تجر تنميتها بطريقة صحيحة !!
وفي زمن الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) عانى الريف الكثير من المصائب لا تقل عن مصائب المدن ، حتى وإن لم يكن مستهدفا للقذف بالقنابل ، لاختفائه في ظلام الحقول ، وحتى هذا الجانب لم تسلم فيه القرية تماما ، واذكر بالنسبة لأرضنا بذاتها ، وكانت تقع في عزبة بعيدة عن تمي ، نطلق عليها (عزبة القش) لكثرة زراعات الأرز حولها ، ففي الفدادين المحدودة جدا التي بقيت باسم أمي تهربا من حجز الدائنين (المرابين اليهود في نهاية العشرينيات ، بما عرف بالأزمة العالمية) أسقطت قنبلتان (كل منهما في حجم الزير) في أرضنا ، لم تنفجرا ، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من الأرض حتى جاء خبراء المتفجرات بعد بضعة أيام ، وانتزعوا القنبلتين ، ويبدو أن إحدى الطائرات كانت تناور للهرب فتخففت من حمولتها على حساب أرضنا ، وفي تلك الفترة الزمنية ظهر المهاجرون في القرية قادمين من الإسكندرية ، حين اشتدت عليها الغارات الإيطالية والألمانية ، فلاذوا بقرى الريف سواء لهم أقارب بها أو ليس لهم . كما ظهرت فرقة موسيقية (تتسول) بالموسيقى ، وقد أطلق أهل تمي عليها (مزيكة الشحاتين) ، وكانت هذه الفرقة مكونة من نحو عشرة أفراد ، معهم مزاميرهم النحاسية ، وطبولهم ، يتوسطون ساحة القرية (البركة التي حدثتك عنها) ويفرشون ثلاثة حصر يتحلقون حولها ، ويبدأون الطبل والزمر فتقبل النساء تحمل كل منهن صينية القلل أو غطاء الحلة ، محملا بالقمح ، أو الذرة ، أو الأرز ، فإذا بلغت مكان المزيكة ألقت بحملها على الحصير المخصص لهذا النوع في صمت متواضع ، ثم تراجعت خطوة لتقف في مكان من الحلقة لتستمع إلى العزف والإيقاعات التي ترسلها هذه الفرقة دون توقف ، فإذا حصلت على كفايتها ، أو أجهدها العزف ، حملت ثمرات عملها في ثلاثة أجولة ، وانصرفت عن القرية في صمت ، لم أكن أعرف من أين جاءت مزيكة الشحاتين ، أو إلى أين تذهب !!
أما فرق موسيقى الأفراح فقد كانت هناك فرقة أبو طه ( وهي من قرية الحصاينة) وفرقة أبو محمود – وهي أقل جودة ، ولا أعرف منبعها . لقد كان أبو طه بموسيقاه ، وألحانه الخاصة مرغوبا جدا في قريتنا ، بل إن أمي كثيرا ما كانت تبدي إعجابها بلحن فرقة أبو طه ، وبخاصة حين يعزف على صوت الغناء :
تراعي غيري وتتبسم .. وأنا ذنبي إيه ؟!
مازلت أذكر وجه أمي ، وهي تعبر عن استحسانها لهذا المعنى ، ولذاك اللحن .. وسأبقى أذكر !!