عيلة الفونس ! – 28 سبتمبر 2017
عيلة الفونس !
عندما اقترب ميدان القتال من الحدود المصرية الغربية ، تصاعدت وتيرة الغارات على الإسكندرية خاصة ، فهاجر الكثير من أهلها ، ونالت تمي نصيبا من هؤلاء المهاجرين ممن لهم علاقات قرابة (وأحيانا:ليس لهم ملجأ آخر) فظهرت في شوارع القرية وحقولها الفساتين الملونة القصيرة والوجوه الصبوحة المغسولة ، وأحيانا العطور التي لم نسمع بها من قبل . كان ذلك على أشده عامي 1941 ، 1942 ، وبدأ التراجع عقب هزيمة روميل في معركة العلمين ، فعاد المهاجرون إلى مدينتهم الجميلة .
كان عمري في ذلك الوقت بين السابعة والثامنة ، واذكر أطياف هذا الحضور الملون الجميل الذي اجتاحنا حينا من الدهر ، ولكني أذكر – بدرجة أكثر وضوحا – أنه ذات صباح وجدنا أسرة كاملة تسكن بأثاثها في دار النجارين ، وهذه الدار بنتها أسرة وافدة على القرية مهنتها النجارة (الأبواب وما إليها) وكانت لهجتهم أرق من لهجة تمي ، وحتى وجوههم كانت أجمل ، أقرب إلى الحمرة ، وبخاصة الست انشراح وابنتها منيرة ، وكان بيت النجارين يتصل ببيتنا من خلال تلاحم أسطح البيوت الريفية مع أنه يفتح أبوابه على شارع بعيد نسبيا ، وكان يمكن أن أرى – من فوق سطحنا- ما يجري في ساحة بيت النجارين ، من ثم كانت مفاجأة أن بيت النجارين الذي اعتدناه خاليا ربما منذ أشهر –ظهرت به فجأة أسرة من ثلاث سيدات وثلاث رجال وصبيين ، وعدد من الخنازير ! كان مكشوفا لنا عبر الأسطح ، ولم نكن نعرف شيئا عن هذا الحيوان ذي التكوين الغريب !
كانت مفاجأة للقرية التي لم تتعود هذا النوع من السكان ، ومن الحيوان ، ولكنها ما لبثت أن تعودت ، وقد عرفت هذه الأسرة بأنها (عيلة الفونس) لمجرد أن أحد أفرادها كان يدعى بهذا الاسم ، فأطلق على كل أفرادها ، حتى الستات ، فهذه مرات الفونس ، وتلك ابنة الفونس . وكانت مفاجأة أخرى حين عدنا إلى المدرسة فوجدت صبيا طويلا يتجاوز الأطوال المعتادة في فصلنا ، ومع أنه من بيت الفونس فإن اسمه (حسن) وكان يحفظ القرآن معنا ، ويقبل العقوبة في صمت إذا لم يحفظ ، وبعد زمن محدود حدثت الألفة مع حسن الفونس ، وعرفنا منه أنهم مسلمون ، ولكنهم يحملون أسماء جيرانهم غير المسلمين ، تعبيرا عن المخالطة والمحبة بين العائلتين ، وهكذا كان اسم أختيه : ماتيلدا ، وراشيل هو في الحقيقة غير ذلك ، وبالمثل : ألفونس وإخوته . أما الأب فلم نعرف اسمه على الإطلاق ، ولم يكن لهم صوت أو علاقة بأحد ، وكانوا يرتزقون –فيما يبدو- ببيع أدوية محضرة في بيتهم من نباتات الحقول على أنها مقويات للفلاحين وللعابرين في القطار ، فكنا نلاحظ أن أحدهم (رشاد) يحمل ثلاث زجاجات بين الجاكتة والجلابية المخططة التي لا يغيرها ، ويقصد إلى محطة القطار . أما ما كان يستأثر باهتمامي فهو منظر الخنازير وهي تحفر بخراطيمها في جوانب الساحة المكشوفة ، وتدفن نفسها في التراب المندى الملاصق للحائط الظليل .
ذات يوم لم نجد أحداً من عيلة ألفونس باستثناء ماتيلدا التي تزوجت واحد من أبناء عطوة ، شغلته بيع السمك ، فاعتدنا أن نرى ماتيلدا بوجهها الصبوح وشعرها الأحمر ، وسنتها الذهبية التي تبدو بين شفتيها المبتسمتين دائما ، وقد باعدت بين ساقيها لتحتضن صندوق السمك المصنوع من أغصان البردي المجدولة المضفرة القادم من المطرية تواً ، وهي تنادي عليه : سمك طوبار ، الوقة ب3 صاغ .. إلحق يا جدع ، كل يوم اثنين حيث تقام سوق القرية .
في زمن آخر ، بعد خمس سنوات مثلا ، رحلت إلى المنصورة ، وانتظمت في جمعية المحافظة على القرآن الكريم ، وبعد أن ألفت المكان رأيت أن أنضم إلى فصول الجامعة الشعبية لأتعلم الماكينة الكاتبة ، واللغة الإنجليزية ، كان ذلك في مبنى على ناصية الشارع العباسي من جهة البحر ، وكان في نفس المبنى ، ويتبع الجامعة الشعبية أيضا ، مقر فرقة مسرحية . حدث ذات يوم أن التقيت على الباب الرئيسي بمجموعة من ممثلي الفرقة ، وكان رئيسها الذي يتقدمها هو الأخ الأصغر لحسن الفونس الذي كان زميلي في الفصل منذ سنوات ، وعرفت أن هذا الأخ الأصغر هو مخرج عروض الفرقة ، وكان يتشبه في سمته ومشيته بيوسف وهبي ، أما اسمه المعلن فكان : جمال الشيخ !! كيف لا أدري !