لعبة التلات ورقات : البراءة – اللماضة – القيمة – 12 أكتوبر 2017

لعبة التلات ورقات : البراءة – اللماضة – القيمة – 12 أكتوبر 2017

لعبة التلات ورقات : البراءة – اللماضة – القيمة
لست أدري : هل تجربة العمر على امتداده بمثابة لعبة ذات مراحل ثلاث متعاقبة ، أم أن الأمر أعسر من ذلك ، وأن هذه الأوراق الثلاث تتداخل ، وتتعارض حسب التساهيل ، أو الطبائع ؟!
الحنين إلى زمن البراءة لا ينقطع على الرغم من قسوة بعض معطياتها ، غير أنها قسوة تنساها الطفولة ، مادامت أدركت البديل . يطفو مشهد انتظار إعلان الإفطار في مغرب رمضان علامة على زمن البراءة المبكر ، كنا نتجمع (ملح الأرض من الأطفال) أمام دار عثمان أبو هلال مؤذن المسجد ، ومسحراتي القطاع الأكبر من القرية . نتجمع في انتظار جاد الأخرس – وهو أخرس فعلا ، وعملاق طيب – ليدق الطبل الكبير عند غروب الشمس ، فيدوي صوته في أنحاء الجوار . كان جاد الأخرس يجلس على السطح وبجواره الطبل الضخم ، يراقب الشمس حتى إذا أوشكت على الغروب وقف ، وعلق الطبل في عنقه ، فندرك نحن المتحلقين حول الدار أن المغرب على وشك ، وهنا يتعالى صياحنا ، ويتتابع : ” رفع الطبلة .. رفع الطبلة ” ونظل نرددها بصخب حتى يتم غروب الشمس ، فيقرع جاد الطبل ، فنطلق ” هيييييه ” عالية جدا ، ونتبعثر عدوا كل في اتجاه بيته . في حين يتصاعد صوت عثمان أبو هلال من فوق المسجد بالآذان . يحدث أحيانا أن تواجهني أمي ببضعة أرغفة ، يطلق عليها في قريتنا (كوماج) وهو خبز قمح عادي ، أضيف إليه القليل من الكربونات التي تمنحه لون الكهرمان ، ومذاقا محببا ، فتضع الأرغفة في حجري – وتقول : جري على بيت عبد الحميد بن خالك أعطهم هذه الأرغفة . كان هذا يسرني جدا ، حتى وإن عطلني عن تناول الإفطار في مستهله ، لما كنت أسمع من شكر لأمي ، ودعاء من خالتي نجية أم عبد الحميد .
في ذلك الزمن – زمن البراءة – لا أنسى موقفا طفوليا موجعا ، كان جاد الأخرس يحمل بيرقا كبيراً وطبلا ، ويطوف بجوانب القرية في مناسبة دينية غالبا ، ومن خلفه أرتال من الأطفال ، وكان من بينهم أخي الأكبر مني مباشرة (عبدالله) وكان شاطر جدا في المدرسة ، ولهذا كان محبوبا من فريق ، وبغيضا لدى فريق آخر من أنداده . كان عبدالله ضمن الحشد الذي يتبع البيرق والطبل ،ويمسك بيدي أنا الأصغر منه ، وكان على عيني رباط بسبب ورمها ، مع هذا كان يسحبني حتى لا تفوتني المشاهدة . تمهل الموكب في منحنى ، فاستظل أخي بظل إحدى الدور ، وأنا إلى جانبه ، ظهر أن هذه الدار فيها ولد ممن يكرهون عبدالله ، فأقبل علينا وقال له : امشي من ضل دارنا ! فأخذ أخي يستعطفه من أجلي ، وقال : أخويا عينه وجعاه ومش هيشوف في الشمس ، لكن الآخر تمسك بطلبه ، فلم يكن أمام عبدالله إلا أن سحبني من يدي وتحرك باحثا عن ظل آخر !!
كبرنا ، وأصبح عبدالله (رحمه الله) جراح تجميل مشهورا، ولكني أبدا لم انس مشاعر القهر التي كست وجهه وهو يستجدي زميله في المدرسة أن يسمح لنا بالوقوف في ظل بيته ، تجنبا لقسوة الشمس في مواجهة عيني .
كبرنا قليلا ، وفي بعض أيام عطلة الصيف كنا نخرج لصيد السمك بسنارة وطعم ، وبدون خبرة ، فيصطاد عبدالله أربع سمكات ، وأحيانا أقل ، واصطاد سمكتين من الحجم الصغير جدا ، فإذا عدنا إلى البيت أشعلنا الكانون وشوينا السمك ، واقتسمناه سويا بلذة لا تجارى .
في ذلك الزمن – زمن البراءة – يجتمع الأطفال في الليل ويقومون بسباق الخيل ، فكل طفل يتخذ من آخر حصانا له ، وينطلق السباق ، وقد كنت دائما (حصان) أخي عبدالله ، أضع خيط الدوبارة في فمي ، واصهل كالفرس ، وأنطلق كالحمامة ، واسبق جميع العيال ، فلم يكن في استطاعتي أن أخذل أخي ، فيكون الأول في المدرسة ، والأخير في السباق !!
براءة مبكرة تستعيدها ذاكرة مسالمة ، أحبت الحياة دائما ، وأحبت الناس جميعا ، حتى أولئك الذين لم يحسنوا الظن بها لأشياء في أنفسهم ، يغفرها الله لهم ، أما أنا فبين الذكر والسماح ، وبين النسيان يمضي زمن اللماضة ، ومن بعده زمن القيمة . فللحديث بقية .

اترك تعليقاً