بين اللماضة ، والصمت الرهيب .. 19 أكتوبر 2017

بين اللماضة ، والصمت الرهيب .. 19 أكتوبر 2017

بين اللماضة ، والصمت الرهيب ..
يغلب على ظني أن “اللماضة” مصطلح مصري خالص ، قد تكون له نظائر في اللهجات العربية الأخرى .. ربما ، ولكن ليس بالدلالة الدقيقة التي تحملها هذه اللفظة الشعبية ، التي تجمع بين الوصف بالذكاء ، وسرعة البديهة بالأجوبة المسكتة ، مع قدر من الوصف بالإندفاع ، والبعد عن الروية ، ولهذا قد يكون الوصف باللماضة (وصف شخص بأنه لِمِض) مدحاً ، أو قدحاً ، بما يعني احتمال معنى الذكاء ، واحتمال معنى الاندفاع والثقة غير المبررة . حاولت البحث عن أصل معجمي للماضة ، ولعلي ظننت أن هذه الضاد منقلبة عن ظاء ، وهذا يحدث في اللهجة المصرية ، كما نصنع في ظهر – وظل ، فنقول : ضهر ، وضل ، ولكن المعجم الوسيط أضعف هذا الاحتمال ، وإن أوحى به إيحاءً ، ففي مادة (لمظ) نجد من معانيها : تذوق الطعم ، والتمطق ، والذوق بطرف اللسان ، و(ألمظه) ملأه غيظا عليه ، و(لمظه) أذاقه إياه ، و(اللماظة) بقية الطعام في الفم ، و(اللُمظة) اليسير من السمن ونحوه !! وباب البحث مشرع لمن يرغب في الاستزادة ، على أن (اللماضة) تبقى مصرية النسب والهيئة ، وربما لاحقني هذا الوصف من خلال تسرعي في الإجابة ببديهة حاضرة ، وفي حال الهجاء (هجائي) يمكن أن تصف اللماضة بأنها بديهة متعجلة ، لا تحسن التروي !
أذكر رضوان ابن خالي (أخو عبد الحميد الذي كنت أحمل لبيته خبز الكوماج) وكانت له مقهى ، في مقابل محطة القطار ، كنت صبيا ألعب بين الأطفال على مشارف قهوة ابن خالي ، ففاجأني بسؤال خبيث ، قال وهو يشير إلى كلب عابر : يا محمد .. الكلب دا يقربلك إيه ؟ بدون تفكير أجبته : ابن خالي !! كان رضوان –ابن خالي- طويلا ، عريضا ، وجيها ، ولكن إجابتي جعلت جلوس القهوة جميعا يغرقون في ضحك ساخر ،ومتعجب .
ويمضي زمان كنت فيه في معهد الشناوي (الأهلي) الديني بالمنصورة ، قبل افتتاح المعهد الديني الأزهري ، عام 1951 ، وكنت أقيم في كنف أختي زينب ، وزوجها ، بحي من أحياء أطراف المنصورة ، كان يحمل اسم (كفر البدماص) الذي تغير إلى “الناصرية” بعد أن خطب فيه جمال عبد الناصر ، يوم 6 مايو 1962 . وكانت أختي تسكن في بيت صغير حديث الإنشاء ، يملكه (صول في الجيش) نسيت اسمه ، ولكنه كان سمينا – على غير المألوف في العسكريين – أحمر الوجه ، والشعر ، وجفون العينيين ، أصفر الأهداب ، وعندما عرف أنني طالب في المعهد الديني ، لذ له أن يفتح معي حواراً ذات لقاء ، فلما اطمأن ، أو ظن انبهاري بهيئته – وأحسبه انبهاراً فنيا مبكراً ، قبل أن أحترف كتابة القصص – أخبرني أنه منتسب إلى جماعة تدعى (الماسونية) وذكر لي أنها جماعة عالمية ، وإنسانية ، لا تعترف بفروق الأجناس ، أو الأديان ، أو الألوان ، ودعاني للإنضمام إليها ، فسألته سؤالا متوقعا : ما الميزة التي يحققها الانضمام إلى هذه الجماعة التي تدعوها الماسونية ؟ قال : إن للماسونية علامات سرية ، لا يعرفها غير أعضائها ، وبهذه العلامات تستطيع أن تتعرف على أعضائها في أي مكان من العالم !! عدت فسألته : فما الذي أستفيده من هذا التعرف ؟ قال ببساطة وثقة متناهية : لنفترض أنني دخلت بنكاً أو مكتبا لي فيه مصلحة ، وكان شديد الزحام ، وبين موظفيه من يعتنق الماسونية ، هنا يمكنني أن أنتحي جانبا بحيث لا يلحظني كافة الحضور ، وأؤدي إشارة خفية من إشارات الجماعة ، هنا سيلتقطها المنتسب إليها ، ولن يدركها غيره ، وفي هذه الحالة سيكون من واجب هذا العضو ، الذي تعرف عليّ ، أن يتقدم نحوي ويأخذني إلى موقع آخر بعيد عن الزحام ، وينجز لي ما أريد ، فيوفر وقتي وجهدي !!
لم أفكر كثيرا ، بل لعلي لم أفكر مطلقا ، لقد سطعت شمس (اللماضة) ، إذ قلت له على البديهة : أنت تقول إن مبادئ الماسونية عالمية إنسانية ، تلغي التفرقة ، ثم تخون هذا المبدأ في أول إشارة ، لأن موظف البنك الذي تتحدث عنه أعطاك أفضلية لم تكن من حقك ، وتلغي مبدأ المساواة !!
ازداد وجهه الأحمر الممتلئ انتفاخا ، وبرزت عيناه دهشة ،ولست أنسى هذا المشهد الذي كان ختاما بيني وبينه،فلم ألتق به بعدها إلا مصادفة على السلم،صعودا أو هبوطا .

اترك تعليقاً