وتعطلت لغة الكلام ! – 26 أكتوبر 2017

وتعطلت لغة الكلام ! – 26 أكتوبر 2017

وتعطلت لغة الكلام !
في الأزهر الشريف (أعني المعاهد الدينية ، فهي مجال خبرتي المباشرة) بدعة / ضلالة ، يطلق عليها “شهر المذاكرة” ، وهي مدة ينصرف فيها الطلاب عن الدروس انصرافا تاما ، ويعودون إلى قراهم ، بدعوى الانقطاع للمذاكرة ، وفي ذلك العام من ربيع 1953 ابتدأ شهر المذاكرة من آخر أيام شهر فبراير ، فقد أجمع طلاب معهد المنصورة الديني على ألا يدفعوا إيجار غرفهم لشهر مارس ، وهكذا انصرفوا مبكرين جدا ، مما أزعج إدارة المعهد ، وكان فضيلة الشيخ إبراهيم جاب الله – رحمه الله رحمة واسعة وأحسن مثواه – حازما في الإدارة ، فأرسلت إدارته خطابات استدعاء لجميع الطلاب ، مع التهديد بالفصل . لم أكن انصرفت عن المنصورة ، فأنا مقيم بها أكثر شهور السنة ، ولكن رفاقي كانوا قد تبعثروا في القرى ، فعادوا القهقرى مكرهين ، يضمرون حضور الدراسة ، ولو لبضعة أيام ذرا للرماد في عيون مشيخة المعهد . وهكذا عاد إلى المنصورة صديقي الأثير محمد فتح الله ، شريكي في الإعجاب بفن محمد عبد الحليم عبدالله ، وبثورة خالد محمد خالد في كتابه :”من هنا نبدأ” ثم في كتابه التالي : “لكي لا تحرثوا في البحر” – وإن ضحكنا طويلا على صورة المؤلف المتصدرة على غلاف الكتاب ، وهو يضع على عينيه نظارة (يفترض أنها طبية) وهي من غير زجاج ، لتبدو عيناه أكثر صفاءً .
كان جو المنصورة ملبداً نسبيا ، فقد مضى على ثورة يوليو ستة اشهر ليس أكثر ، ولكن ما لنا ولهم (إحنا بتوع الأدب والخيال) . التقيت بصديقي ، كان يلبس جلبابا ، وأنا كذلك ، فليس في نيتنا –حقيقة- أن ندخل المعهد وننتظم في الدراسة ، واكتفينا بأن مررنا أمامه ، وداعبنا (الملاحظ) الذي يأخذ الغياب ، لكي يسجلنا حضوراً ، ثم انصرفنا في اتجاه “البحر الصغير” إذ كان لا يزال يشق المنصورة ، يفصلها عن كفر البدماص بالكوبري الأخضر ، وفي طريقنا تتقاطر بنات (معهد المعلمات الخاص) بثيابهن الكحلية ، قد ننظر ، لكن لا نبدي إشارة ، ولا نطلق كلمة . كنا أجبن من ذلك ، أو مهذبين ، أو نحاول . في لحظة انقض علينا وجه بومة فارع الطول : مخبر في ثيابه التقليدية (الجلابية والبالطو والخيزرانة) وقبض على قبة جلابيتي ، وفعل مثل ذلك مع صديقي وهو يهدد : معي على القسم !! متهما لنا بمعاكسة بنات المعهد ، وأن ناظرة المعهد اشتكت من طالبين يتحرشان بالبنات ! كان خوفنا مريعاً ، زائدا عن الحاجة ، فنحن لم نذنب ، ولم نتعود مواجهة مثل هذه المواقف ، وكان أشد انزعاجنا –حين عرفنا أن هذا مخبر- يعود إلى توقع الفضيحة ، ولكن لا مفر من السير معه إلى قسم ثان المنصورة ، وكان قد فُتح حديثا (من أجلنا !) في حي “ميت حدر” وهكذا قطعنا “شارع المديرية” على طوله ، و”الكوبري السفلي” ، و”جامع سيدي سعد” ، ونحن في هذا الوضع المزري ، ونخشى اتخاذ هيئة الغاضب ، أو الرافض حتى لا يفطن إلينا ناس الشارع ، وزملاؤنا في المعهد . أخيرا وصلنا مبنى القسم ، وأصعدونا إلى غرفة ضابط في الطابق الثاني ، أهملنا بعض الوقت ، ثم تحدث إلينا بكثير من الرفق والتهذيب ، وطلب منا التوقيع على إقرار بعدم العودة إلى ما فعلنا . مع أننا لم نفعل ، وقعنا ، وانصرفنا ، ونفاجأ في الخارج حول القسم بجموع من طلبة المعهد الديني ، متظاهرين محاصرين للقسم ، فكان هذا سبب الإفراج عنا ، أما المخبر فعرفنا أنه مشهور عند الطلبة مدمني التحرش واسمه راغب ، أو عم راغب ، كما عرفنا –فيما بعد- أن الطالب الذي كان مقصودا ، فكنا فدية له ، هو الطالب محمد أحمد العزب – الشاعر المشهور ، المجيد لفن الغزل ، الدكتور الأزهري (المرحوم) ومعه أحد أصدقائه !
بقدر ما كنا –أنا ومحمد فتح الله- سعيدين بتعصب رفاقنا لنا ، وإجبار الشرطة على إطلاقنا – تحسبا لمظاهرات المعهد التي لا يشق لها غبار – كنا حزينين لتهكم محمد أحمد العزب بنا ، ومجاهرته بأنه كان المقصود هو وصديقه ، ولكن مراقبته لعم راغب (المخبر) أنقذته ، وسقط المغفلان .. بكل أسف !

اترك تعليقاً