مشاغبات .. ومداعبات ! – 9 نوفمبر 2017

مشاغبات .. ومداعبات ! – 9 نوفمبر 2017

مشاغبات .. ومداعبات !
لا تريد مراحل الطفولة أن تغادر الذاكرة ، أو تفسح مكانا لما بعدها من حيوات ، لدرجة أنني أصبحت أميل إلى التسليم بما كنت أعده (من مزاعم علم النفس) –وهو أن الطفل تتكون مداركه ، وسلوكياته ، وإمكانياته في السنوات الثلاث الأولى من طفولته ، ليس بدءاً من تاريخ الولادة ، بل بدءاً من تاريخ الحمل !!
تتداخل المشاغبات والمداعبات عبر تلك المراحل العمرية ، وبعضها يحمل شحنة من الانكسار والتسليم بالهزيمة لا تزال له مرارة في قرارة الحلق إلى اليوم :
أذكر أن الواد محمد ابن حسنين عواد كان يقف ضمن حلقة تستمع إلى تعليقي على الحرب العالمية ، وأحسبني كنت لا أتجاوز السابعة من العمر ، وكان ابن حسنين عواد أصغر مني بنحو سنة ، وفيما أنا مندفع في وصف المعارك بين الألمان والحلفاء ، ذكرت اسم سوريا ، فما كان من ابن عواد إلا أن صحح لي ، وقال : روسيا مش سوريا !! – ساعتها ، وإلى اليوم ، تعجبت كيف استطاع الولد أن يصوب لي خطأً واضحاً وهو أصغر مني ، وابن رجل راعي غنم ، لا يرتقي إلى مستوى أبي ، ودارهم بالطين وليست بالحجارة مثل دارنا ، وفوق ذلك كله فإن مصدره للمعلومات هو نفس مصدري : راديو قهوة عبد الحافظ ؟!
كيف لم أنس هذا الحدث العابر (التافه) إلى اليوم ؟ هل للهزيمة (المعرفية) – مهما كان حجمها ، وتوقيتها نوع من المرارة الخاصة التي لا تزول ؟
مع هذا أتذكر في تاريخ بعد ذلك التاريخ بعدة أعوام ، أن زكريا ابن أبو حجازي ، وكان أبوه حلاقاً ، ودكانه قريب من محطة القطار ، تصعد له بثلاثة سلالم طينية . كان زكريا زميلا لنا في مدرسة (تمي) ، فلما تبعثرنا في مدارس المنصورة ، وبقي هو على حاله ، كان يتعلق بنا في العطلة الصيفية ، لعله يُعد من زمرتنا نحن التلاميذ . وقد أراد ذات مرة أن يثبت قدرته على المعرفة ، فقرأ إعلانا عن فيلم جديد لشادية وكمال الشناوي ، كان الإعلان ملصقا على جدار الديزل الفرنساوي الذي يتحرك بين المنصورة ، وكفر صقر ، مارا بتمي ، وقد أخبرني زكريا باكتشافه الخطير ، فضحكت في سري ، وأبيت إلا أن يعلن عن معرفته أمام شلة التلامذة ، فأخذته من يده إلى حيث يتحلقون أمام المحطة ، وطلبت من زكريا أن يخبر “الشلة” بما أخبرني به ، فأظهر تعجبه من طريقتي ، وقال ببساطة : فيها إيه .. فيلم جديد لشادية وكمال الشناوي ، والفيلم اسمه : ” في الهوّ إسوا” هكذا نطق عنوان الفيلم ، وقد ضحكت الشلة ، وشاركتها الضحك ، ولم أترفق برغبته في أن يبدو تلميذا بين التلاميذ !
وقد ذكروا -من طرائف هفوات “الفلاح حين ينزل المدينة” أن أحمد حامد ، وكان يكبرني بنحو عامين ، حين انتقل إلى المنصورة ليدرس بمدارسها ، قيل له إن أهل المنصورة يقلبون القاف همزة ، فيقولون في القمر : الأمر ، وفي الجطر (القطار): الأطر ، وهكذا ، فأسرها أحمد حامد في نفسه ، فحين سمع نداء (بائع الخضار) يمر بعربته في الحارة ، نزل إليه متوثبا ، وطلب منه : أُأُتين بآئص !! لم يفهم البائع السريح ، فأعادها صاحبنا مصمما على انتسابه إلى لغة المنصورة ، فأعطاه البائع أُقتين بطاطس – وهو يخفي سخريته – أخذها صاحبنا وانصرف ، ولكن بقيت النادرة تُحكى وتُضحك وتداعب ذاكرتي إلى اليوم .
ولمن لم يحضر ذلك الزمن : كانت الموازين في مصر : الأُقة = رطلان وسبعة أتساع الرطل ، وكان لابد أن نتقن تحويل الأقة إلى أرطال ، أو العكس في المدرسة ، كما نتقن أن الرطل 12 أوقية (وهو غير الأُقة) والأوقية 12 درهم ، وفي أوائل عصر عبد الناصر أزيل هذا كله (بالأمر الفوري) وحل في مكانه الكيلو والجرام ، وبقيت أأقّة البآئص شاخصة في الذاكرة مثل رائحة الشياط !!

اترك تعليقاً