في حدود المسموح !! – 30 نوفمبر 2017
في حدود المسموح !!
تشيع هذه العبارة التي نجدها مرفوعة فوق رؤوس موظفي الجمارك في المطار ، فهناك (هدايا) في حدود المسموح ، تمر دون دفع ضريبة جمركية ، و(هدايا) تتجاوز بالكمية أو بالقيمة حدود المسموح ، ولابد أن تخضع للتفتيش ، وتدفع المستحق .
أشرت قبل إلى موقف مع عالم جليل هو الدكتور مصطفى زيد ، وكان ختاماً لمودة استمرت نحو عامين ، بما يعني أنني “انسحبت” تجنبا لمغاضبة لا يليق أن تكون بين الطالب والأستاذ . كان هذا أقصى حدود المسموح في علاقتي – أنا الطالب بدار العلوم – بأساتذتي ، ومن حيث المبدأ لم يكن هؤلاء الأساتذة على مستوى واحد من الذكاء ، وقبول الاختلاف ، وسعة الصدر لما يمكن أن يُعد جرأة ، أو حرية رأي من الطالب ، فلم يخل الأمر دائما من احتمال جفوة أدت إليها بعض المواقف ، وبالطبع هذا مترتب – دون أن أقع في فخ التغني بالذات – على أنني كنت طالبا معروفا ، له تميزه على مستوى الكلية ، فيه قدر من الجرأة ، ولكن دون توقح أو استهانة . أذكر ذات محاضرة كان يمليها علينا الدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي في الفرقة الثانية عن الأدب الأموي ، أنه اختار لفظاً يبدو غير دقيق في التعبير عن فكرته ، فما كان مني – أنا الطالب الذي يكتب ما يُملى عليه – أن رفعت صوتي بكلمة مختلفة ، تبدو لي أكثر دقة ، فما كان من الدكتور إلا أن قال : “موافق على اختيارك ، وغير موافق على طريقتك !!”
وأشهد على نفسي بأنني كنت حريصا جداً على حضور كل الدروس ، حتى لأولئك الأساتذة الذين أشعر أنهم أقل كفاءة من مستوى التدريس في الجامعة ، ومن هذه الدروس درس البلاغة ، ومؤلفات أستاذها ، وقد استمعت إليه لمدة فصلين دراسيين ، وكتبت كل أفكاره ، وشكلت ورقتي للإجابة كما يحبها (وليس كما أعتقد فيها) ، وحتى على مستوى الدراسات العليا (سنة الدبلوم) كان يدرسنا الأستاذ عمر الدسوقي المشهور في دار العلوم على زماني بأنه (الأسد المفترس) ، وقد كانت للأستاذ عمر مؤلفات قيمة ، منها موسوعته عن “الأدب العربي الحديث (في جزءين)” ، وكتابه عن “النابغة” ، وكتابه عن ” فن المسرحية” ،وقد أشرف على رسالتي للماجستير : “الريف في القصة المصرية” ، وفي سنة الدبلوم – وكان عددنا قليلا ، وكانت دار العلوم تفصل بين قسم الدراسات الأدبية ، وقسم النقد والبلاغة – وكنت أدرس في قسم الأدب – أي أنني تحت يد (الأسد المفترس)، ومع ذلك حين بدأ محاضراته أخذ يشرح معنى مصطلح “تاريخ الأدب” ، فقال –رحمه الله وأجزل ثوابه- تاريخ الأدب يعني : تاريخ + أدب !! وهنا رفعت إصبعي ، فأعطاني الإذن بأن أتكلم ، فقلت ما أكاد أذكره الآن حرفيا : تاريخ الأدب يعني رصد الظاهرة الأدبية في نموها التاريخي !
هنا تذكرت قول المتنبي :
إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسمُ !
فهكذا تبسم عمر الدسوقي ، وقال : والله مش بطال ، هيا نختبر هذه المقولة !! واستمرت المحاضرة ، ولم يفسد شيء بين الطالب (اللمض) والأستاذ المفترس ، بل إنه لم يتردد في الإشراف على رسالتي ، ومنحني عنها درجة (ممتاز) ، وكان على استعداد للاستمرار زمن الدكتوراه ، ولكن صدر قرار بألا يشرف عضو هيئة تدريس على أكثر من عشر رسائل ، وكان الرقم عنده يتجاوز هذا بكثير ، مما حملني – بعد الانتظار عاما كاملا- أن اطرق أبواب آداب عين شمس ، فقبلني الدكتور عبد القادر القط ، ووافق على الموضوع الذي اخترته ، ولكنه لم يكمل (جميله) وتخلى عني بعد تمام البحث ، فحل مكانه المغفور له العلامة الدكتور مصطفى ناصف ، الذي أجاز دراستي عن “الواقعية في الرواية العربية” بدرجة (مرتبة الشرف الأولى) ..