وما أدراك ما الجراية .. ؟! – 7 ديسمبر 2017

وما أدراك ما الجراية .. ؟! – 7 ديسمبر 2017

وما أدراك ما الجراية .. ؟!
هذه المفردة (الجراية) تاريخية إسلامية ، ويقصد بها ما يوزع على المستحقين من ريع وقف خيري ، أوقفه أحد الأثرياء على الفقراء وأشباه الفقراء ، وقد يخص طلاب العلم ، ومن هنا تصل عطايا هذا النوع من الوقف الإسلامي الخيري إلى طلاب المعاهد الدينية في شكل نقود ، أو أرغفة خبز،حسب شرط الواقف،وربما كانت هناك طرائق أخرى ، لا أعلمها .
ذكر طه حسين في كتابه “الأيام” ما كان ينال من أرغفة الجراية في الأزهر ، يحملها إلى غرفته ليغمس لقمها في العسل الأسود ، وكما تقول عبارته :”وويل للأزهريين من العسل الأسود!!” . وذكر الجراية أيضا أحد الدكاترة ، جهابذة علم الإدارة في مصر ، حين ذكر أن دراسته بدأت في الأزهر ، وكان يتيماً ، وأكبر إخوته الصبية ، فكان يذهب لصرف الجراية (أرغفة الخبز) ليبيع نصفها في الشارع ، ويشتري بثمنها (غموسا) يأتدم به مع أمه إخوته !!
ولي مع الجراية – خبزا ونقودا- خبرٌ طريفٌ ، ودلالات متعددة ، فحين أتممت حفظ القرآن ، أصبحت مؤهلا للدراسة في المعاهد الدينية ، ولم يكن في المنصورة معهد ديني حكومي ، والمعاهد الأقرب كان معهد الزقازيق ، ومعهد طنطا (الأحمدي) ، ولأنني كنت صبيا يُخشى عليه ، وكان أخي عبدالله بثانوية المنصورة فقد رؤي أن أنضم إلى طلاب معهد ديني (أهلي) مغمورٍ مجهولٍ ، يُطلق عليه (معهد الشناوي) وهو لا يزيد عن ركن ، وصندرة في مسجد الشناوي، الموجود إلى الآن ، وكان المتسلط على هذا المعهد (الهلامي) رجل قزم اصطلحت عليه أمراض الدنيا ، اسمه الحاج حسن (وتنطق : الحاج أحسن) !! ومما اعتاده الحاج أحسن من ابتزاز الطلاب (القليلين) الاستئثار بنصف خبز الجراية ، وتوزيع النصف ، وكنت في البدء أخجل وأرفض تسلم ما يخصني من أرغفة ، لن تزيد عن خمس في أكرم أحوال الحاج أحسن، وبقيت في هذا المعهد (الهلامي) عامين دراسيين : السنة الأولى ، والسنة الثالثة ، أما السنة الثانية – بينهما- فقد ذاكرت مقررها في الصيف وامتحنت فيه ، فانتقلت إلى الثالثة مباشرة ، في ذات السنة التي شهدت افتتاح معهد المنصورة الديني (وكان يسمى معهد محمد علي – عام 1951) ،ولم يكن في معهد الشناوي “سنة رابعة” ولم يكن معهد محمد علي (الرسمي) يقبل التحويل من المعاهد الأهلية !. وهكذا لم يكن أمامي إلا أن أنضم إلى معهد (أهلي) آخر ، هو معهد (المنشاوي) [وانظر إلى المقاربة والمفارقة بين الشناوي والمنشاوي] بمدينة طنطا ، وقد زرت هذه المدينة لتقديم أوراق التحويل ، واتفقت مع الملاحظ على أنني لن أحضر الدروس في نظير التنازل عن الجراية ، وكانت تصرف نقداً ، وهكذا حضرت دروسي بمعهد محمد علي تحت مسمى نظام الاستماع ، فكنت طالبا مستمعاً ، إلى أن نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية في الدور الثاني بسبب الرسوب في النحو والصرف ، ولكن انتهت هذه المرحلة القلقة بقبول أوراقي بالقسم الثانوي بمعهد محمد علي الديني ، وكان هذا سببا في تقدمي على رفاقي القدامى عاماً دراسيا كاملا .
نادرا ما كان معهد محمد علي يوزع جراية ، فقد أصبح قدرها هزيلا جداً ، مع تكاثر الطلاب ، وأحسب أنني تسلمت – ذات مرة – ستة وثلاثين قرشاً ، ولم تتكرر .
في دار العلوم تحررنا من الجراية ، ومن الهتاف الجماعي ، الذي ذكرته سابقا حين يهيج الطلاب المشايخ لتأخر توزيع الجراية :
قولوا لشيخ المعهـدِ  .. صاحب المقام الأمجدِ
هات الجراية عاجلا .. القرش فـــــر من اليدِ
في السنة الثانية بدار العلوم ، نجحت بتقدير جيد جداً ، وكان عبد الناصر قرر مكافأة شهرية مالية مقدارها خمسة جنيهات ، لمن ينجح بهذا التقدير !! وهكذا أغلقنا الشباك أمام (الجراية) في معهد الشناوي ، ثم معهد المنشاوي ، لتظهر بشكل آخر ولأسباب مختلفة في زمن دار العلوم ، في عصر عبد الناصر .. ويا له من زمن !!

اترك تعليقاً