ما يقال .. وما لا … – 14 ديسمبر 2017
ما يقال .. وما لا …
“الستر” كلمة جليلة ، مقدّرة ، دعت إليها الشريعة الحريصة على عدم إفشاء العيب أو النقص بين البشر نتيجة إشهاره وتداوله ، وقد أشار القرآن إلى ذلك في قوله إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم كما أن سليقة المجتمع الطبيعي أن يتجنب إفشاء المعايب . هذه مقدمة أولى نستند إليها في القول بأنه ما من أحدٍ (حتى ولا جان جاك روسو) يمكن أن يكون أفضى بكل ما ارتكب هو ، أو ارتُكب معه من مثل هذه الأمور .
المقدمة الثانية : أنني وقد بدأت كتابة هذه الجرار ، أضمرت حينها أن تكون نمطاً (مختلفاً – ولا أقول متميزاً) في مجال كتابة السيرة ، وكما ذكرت آنفاً كان أمامي طه حسين ، ويحيى حقي ، ولويس عوض ، وغيرهم بالطبع . ولعله تراءى لي أن السيرة الذاتية ليس أمامها إلا أن تكون “إبداعاً فنياً” – في شكل غير مسبوق ، أو تكون “اعترافات صريحة” لا تتحرج ، ولا تتجمل ، وإنما هي الحقيقة كما جرت !!
لقد فكرت في هذا طويلا قبل أن أختار “الشكل” الذي آثرته ، ولست على يقين من أنني أحسنت التعبير عما أضمرت من طريقة تخالف كافة السابقين إلى فن كتابة السيرة ، وجوهر هذا الشكل أن أجتزئ مواقف ومشاهد من الحياة الخاصة في صور مشهدية وأحداث حقيقية (بمعنى أنها جرت بالفعل) تترادف في تسلسل سببي أو زمني أو عن طريق التداعي، بحيث يكون المرتكز فيها شخصاً آخر غير صاحب السيرة (غيري !!) بما يؤدي إلى أن أكتب سيرتي عبر علاقاتي الاجتماعية ، ومعارفي من الأشخاص على اختلاف مستوياتهم وأزمانهم وطبائعهم !!
هذا ما حاولت الالتزام به في كثير مما ذكرت ، ولكن هل يمكن الإفضاء بكل ما يجب الإفضاء به باعتباره جزءاً من السيرة الذاتية لا يليق إهماله ما دمنا قد أضمرنا رفع شعار الصدق وتجنب تجميل الذات أو إهانة الآخرين ، ولو بدافع الطرافة ؟
أعترف بأنني لم أستطع تحقيق هذا المبدأ (بحذافيره) – ففي حياة أي فرد أحداث وصدمات يصعب التعبير عنها إلا أن تكون (متسربة) بين أحداث أخرى في عمل قصصي أو روائي يتمحك في “الغيرية” ، ولعلك تشعر -إذا كنت من بين القريبين مني- أن أشخاصاً من أصحاب “الحيثية” لم يرد لهم ذكر فيما سبق ، ولن يرد فيما سيأتي ، على الرغم من أنني سأخصص بضع لوحات لرسم عدد من الشخصيات التي تعاملت معها ، أو اقتربت منها ، فتركت أثراً – بدرجة ما – في نفسي . وبالطبع – من منظور أخلاقي- لن أتطرق إلى ما يمكن أن ينتقص من الصورة المحببة لهذه الشخصيات .
إنني لم أكتب-مثلا- عن الطريقة التي التحقت فيها بالعمل أستاذا بجامعة الفيوم ، فقد ترددت على مكتب المسئول الكبير عن فرع الفيوم زمن تبعيته لجامعة القاهرة ، ولعل المسئول الكبير استهدفته أقلام غير كريمة ، وشهرت به في الصحف بسببي ، (وأنا لا أدري) مما حمله – ولعلها محاولة للتخلص مني – على أن يصفني (في مواجهتي) بأنني كذاب !! استهولت الكلمة ، وأعرف – بيقين- أنني لم أكذب في حياتي ، فقلت له أنا لم أكذب، ولن أعود إلى هذا المكتب !! نظر إليّ بحدة قائلا : بل ستعود مادامت لك فيه مصلحة !! قلت بحدة تناسب حدته : أنا لا أُكذّب نفسي ، ولن أدخل هذا المكتب !!
ولم أدخل ذاك المكتب بعد ذلك ، وإلى اليوم ، وإن كنت شغلت الموقع الذي شاءه الله لي . أما المسئول الكبير فقد رُقي إلى رئيس جامعة ، (ومعه أخلاقه) التي أودت به فأقيل من منصبه بعد سنوات قلائل .. لا أقول هذا بدافع الثأر أو الشماتة ، أو ما إلى ذلك من مشاعر بعيدة عن التسامح ، فقد نسيت ، أو ساعدت نفسي على أن تنسى . على أن مثل هذه الشخصية ليست نادرة في حياتي ، ولا مثل هذا الموقف (الشاذ) بالمستحيل تكراره ، ولكن ربما كان الأمثل التوقف عند هذا المدى لنفسح مكانا لشخصيات أخرى أقرب إلى الطباع المصرية الأصيلة ، حين تكتمل فيها طبائع وجودها الإنساني والتاريخي .